تواصل معنا

شبهـــات القرآنييــن والرد عليها (مقالة)

الوصف

لهذه الطائفة التي أسمت نفسها " القرآنيون " مغالطات وجهالات، زعموا أنها شبهات ضد سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المطهرة، ويزعمون أن هذه الشبه هي في الوقت ذاته أدلة قاطعة على وجوب ترك السنة النبوية المطهرة، وإهمالها والانصراف عنها، وعدم اعتبارها مصدراً للتشريع، والاقتصار على القرآن المجيد مصدراً وحيداً للتشريع الإسلامي .. وسنتولى - بحول الله تعالى - ذكر شبهاتهم هذه كما أوردوها، ثم نفندها ونرد عليها ونبين بطلانها.

مقالة

شبهـــات القرآنييــن والرد عليها

 

لهذه الطائفة التي أسمت نفسها " القرآنيون " مغالطات وجهالات، زعموا أنها شبهات ضد سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المطهرة، ويزعمون أن هذه الشبه هي في الوقت ذاته أدلة قاطعة على وجوب ترك السنة النبوية المطهرة، وإهمالها والانصراف عنها، وعدم اعتبارها مصدراً للتشريع، والاقتصار على القرآن المجيد مصدراً وحيداً للتشريع الإسلامي .. وسنتولى - بحول الله تعالى - ذكر شبهاتهم هذه كما أوردوها، ثم نفندها ونرد عليها ونبين بطلانها.

 

الشبهة الأولى :

        قولهم ؛ إن القرآن الكريم كافٍ في بيان قضايا الدين وأحكام الشريعة، وإن القرآن قد اشتمل على الدين كله، بجملته وتفصيله، بكلياته وجزئياته، وأنه يحتوي جميع الأحكام التشريعية بتفصيلاتها، ما ترك شيئاً ولا فرط في شيء. ولهذا كان القرآن كافياً، ولم يكن ثمة حاجة لمصدر ثان للتشريع. فالسنة لا حاجة إليها، ولا مكان لها .. وقد استدلوا لشبهتهم هذه بما زعموه أدلة من القرآن المجيد. من ذلك قوله – سبحانه : ] ما فرطنا في الكتاب من شيء [ ( الأنعام:38). واستدلوا – كذلك – بقول الله – سبحانه – يصف القرآن الكريم : ] ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون [.( يوسف:111)، وكذلك استدلوا بالآيات التي وصف الله – تعالى – القرآن فيها بأنه " مبين " من مثل قول الله – عز وجل - ]إن هو إلا ذكر وقرآن مبين [ (يس:69).

        أما وجه استدلالهم بتلك الآيات، فإن الآية الأولى بين الله - تعالى - فيها أنه - سبحانه - ذكر كل شيء في القرآن الكريم، ولم يفرط في الكتاب من شيء بمعنى أنه - سبحانه - لم يترك صغيرة ولا كبيرة، ولم يدع أمراً من أمور الدين، أو حكما من أحكام الشرع يحتاج إليه الناس في عقائد أو عبادات أو معاملات إلا قد ذكره في القرآن، وإذا كان الأمر كذلك ؛ فما حاجتنا إلى مصدر آخر غير القرآن، إن إضافة مصدر آخر إلى القرآن الذي لم يترك شيئا، ولم يفرط الله فيه من شيء، إنما يعني أن نزيد في شرع الله ما ليس منه، وأن نخلط شرع الله الذي أنزل به كتابه بشرع من عند غير الله - تعالى - وهذا باطل فاسد، وفساده إنما أتى من الاعتماد في الدين على غير كتاب الله الذي فصل كل شيء وأحاط بكل شيء.

        واشتمال القرآن على تفصيل كل شيء إنما هو واضح من خاتمة سورة يوسف - عليه السلام - الذي وصف الله فيها القرآن بأنه " تفصيل كل شيء " وإذا كان القرآن فصل كل شيء ؛ فما حاجتنا إلى السنة ؟. وماذا سنفيد منها ؟ .. كذلكم الآيات التي وصفت القرآن بأنه " مبين " ووصفت آياته بأنها " آيات بينات " فهذه تقطع السبيل على من يقولون إن السنة مبينة للقرآن ومفصلة. فهذا هو القرآن يتحدث عن نفسه في آياته القاطعات، بأنه قد اشتمل على كل شيء، وفصل كل شيء، وبين كل شيء، وبهذا يتضح أن السنة لا محل لها من التشريع، ولا حاجة إليها من بيان أو تفصيل أو توضيح. 

تفنيد الشبهة والرد عليها :

        إن القول بهذه الشبهة يدل على جهل بالقرآن المجيد، وعدم فهم لآياته، بل يدل على سوء قصد لدى القائلين بها. فإن الأمة مجمعة على أن القرآن العظيم قد اشتمل الدين مجملاً في كثير من جوانبه وأحكامه، ومفصلاً في جوانب أخرى، وقد جاءت السنة النبوية المطهرة فبينت المجمل وفصلته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يبين ويفصل إنما ينفذ أمر الله - تعالى - ويؤدي ما وكله الله - تعالى - إليه من بيان القرآن المنزل علىالخلق، تطبيقاً واستجابة لأمر الله - عز وجل - في قوله : ] وأنـزلنا إليــك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ (النحل:44 ).

        فالقرآن المجيد قد اشتمل على قضايا الدين، وأصول الأحكام الشرعية، أما تفاصيل الشريعة وجزئياتها فقد فصل بعضها وأجمل جمهرتها، وإنما جاء المجمل في القرآن بناء على حكمة الله - عز وجل - التي اقتضت أن يتولى رسوله - صلى الله عليه وسلم - تفصيل ذلك المجمل وبيانه .. وهذا هو ما قام عليه واقع الإسلام، وأجمعت عليه أمته، ومن ثم فلا وزن لمن يقول بغير ذلك أو يعارضه، لأن معارضته مغالطة واضحة وبهتان عظيم، وإذا كان أصحاب هذه الشبهة يزعمون أن القرآن المجيد قد فصل كل شيء، وبين كل صغيرة وكبيرة في الدين ؛ فلنحتكم وإياهم إلى عماد الدين الصلاة ؛ أين في القرآن الكريم عدد الصلوات، ووقت كل صلاة ابتداء وانتهاء، وعدد ركعات كل صلاة، والسجدات في كل ركعة، وهيئاتها، وأركانها، وما يقرأ فيها، وواجباتها، وسننها، ونواقضها، إلى غير ذلك من أحكام لا يمكن أن تقام الصلاة بدونها؟ ومثل ذلك يقال في أحكام العبادات كافة، إن القرآن العظيم قد ورد فيه الأمر بالصلاة والزكاة والصيام والحج، فأين نجد منه الأنواع التي تخرج منها الزكاة، ومقدار كل نوع، وأين نجد أحكام الصيام ؟ وأين نجد مناسك الحج ؟ إن الله - سبحانه - قد وكل بيان ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم-

فقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي "، ولم يقل : كما تجدون في القرآن، لأن القرآن قد خلا من تفصيل الأحكام وبيانها.

        ولعل من حكمة الله - سبحانه - في ترك التفاصيل والبيان لرسوله - صلى الله عليه وسلم – ؛ أن تفصيل الأحكام وبيان جزئياتها، وتوضيح دقائقها، إنما يكون بالطريق العملي أولى وأجدى، ولو أن الأحكام فصلت قولاً نظرياً، لما استغنت عن بيان عملي واقعي.

        ولعله من الحكمة وراء ذلك - أيضا - بيان ما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من منزلة سامية لا يشاركه فيها غيره، ومكانة رفيعة عالية لا يرقى إليها سواه، وذلك بإسناد الله - تعالى - تفصيل الأحكام وبيانها إليه - صلى الله عليه وسلم -، إذ لو كان كل شيء مفصلا مبينا لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل غيره من الناس مطبقاً لما هو قائم فعلاً، لكن الله - عز وجل - اختصه - صلى الله عليه وسلم - بتفصيل الأحكام وبيان مجمل القرآن تكريماً لشأنه وإعلاء لمنزلته، وليس ذلك أمراً قائماً بذاته، بل هو مبني على ما سبق أن بيناه من حِكَم .

        أما هؤلاء الذين أثاروا هذه الشبهة فقد ارتكبوا عدداً من الأخطاء .. أول هذه الأخطاء أنهم لم يحاولوا أن يفهموا الموضوع في إطار القرآن الكريم كله، وإنما أخذوا آية واحدة أو آيات وركزوا كلامهم فيها، وبنوا مذهبهم الفاسد عليها، وتركوا القرآن المجيد كله بما فيه من آيات واضحات تتصل بالموضوع اتصالاً مباشراً. ومن هنا فقد حملوا الآيات التي اختاروها ما لا تحتمل، ووجهوا معناها الوجهات الخطأ التي أرادوها هم، وليس التي تنطق بها الآيات، ومن البدهيات التي يعلمها عامة الناس - بله العلماء - أن القرآن يفسر بعضه بعضا، وأن آياته إنما يفهم بعضها في إطار البعض الآخر، وأن تفسير بعض الآيات بعيداً عن بقية الكتاب الكريم قد يكون خطأ يؤدي إلى محظورين خطيرين؛ الأول : عدم فهم المراد من الآيات فهماً صحيحاً. والثاني: أن يضرب القرآن بعضه ببعض، وأن تعارض بعض آياته بالبعض الآخر، وهذا جرم عظيم، لا يرتكبه إلا مجرم أثيم، وهؤلاء قد اعتمدوا آية أو بضع آيات من القرآن، ثم عزلوها عن بقية ما في القرآن المجيد من آيات بينات في نفس الموضوع، ثم حملوها من المعاني مالا تحتمل، عن سوء قصد وتعسف .. ولعل تفنيد شبهتهم هذه يقتضينا - إلى جانب ما ذكرنا - توضيح معاني الآيات التي استدلوا بها، حتى تبطل شبهتهم هذه بتمامها. وتنهار من أساسها.

        إن عمدتهم في الاستدلال على ما ذهبوا إليه هو قول الله - عز وجل: ] ما فرطنا في الكتاب من شيء [ ( الأنعام:38)، مدعين أن هذه الآية تعني أن الكتاب الكريم قد احتوى تفصيل  كل صغيرة وكبيرة وبيانها، ومن ثم فلا حاجة إلى السنة التي تبينه وتفصله، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بالكتاب في الآية الكريمة، إنما هو اللوح المحفوظ، وليس القرآن الكريم، وسياق الآية كاملة يرجح هذا، فالآية الكريمة كاملة : ] وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم. ما فرطنا في الكتاب من شيء. ثم إلى ربهم يحشرون  [(الانعام:38) فالآية تتحدث عن عظيــم علــم الله - تعالى -، وإحاطته بكل شيء في الوجود من دواب وطيور وغيرها، وقد شمل علم الله - سبحانه - كل شيء، وقدر ما يقع لكل منها، ثم إليـــه يحشــر الكــل. وذلك كقوله - تعالى: ]  ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها. إن ذلك على الله يسير[ (الحديد:22). فالكتاب الذي احتوى كل شيء كان أو كائن أو يكون إنما هو اللوح المحفوظ - وعلى تفسير الكتاب بأنه القرآن الكريم، فقد قال المفسرون أن معنى الآية إن الله - تعالى - قد ضمن القرآن الكريم كل ما يحتاج إليه المكلفون من أوامر ونواه، وعقائد وشرائع، وبشارة ونذارة .. إلى غير ذلك، وليس معنى ذلك أنه لا يحتاج إلى السنة المبينة له، فهو وحي، والسنة وحي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، وقد قال عنه ربه - سبحانه - :] وما ينطق عن الهوى.إن هو إلا وحي يوحى[ ( النجم:3-4). فالله - سبحانه - الذي ضمن القرآن العظيم قضايا الدين وأصول الأحكام مجملة، هو - سبحانه - الذي وجه الناس وأرشدهم إلى الطريق الذي يحصلون منه على تفصيل ذلك المجمل وبيانه، وقد جاء التوجيه في القرآن نفسه فقد قال الله - عز وجل - : ] يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم [ ( محمد:33) ، وقال -تبارك وتعالى-: ] وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ ( الحشر:7). وغير ذلك آيات كثيرة تأمر المؤمنين بطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأخذ عنه .. وبذلك يتضح معنى الآية الكريمة : ] ما فرطنا في الكتاب من شيء [، وأن الكتاب لو فسر بأنه القرآن، فإن الله - تعالى - قد ضمنه كل شيء يحتاج إليه المكلف، فما كان فيه من تفصيل كفى، وما كان فيه من إجمال، فقد وجه القرآن المؤمنين إلى الطريق الذي يجدون فيه تفصيل ذلك المجمل، وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يكون القرآن المجيد قد اشتمل كل شيء، وصدق الله العظيم القائل : ] ما فرطنا في الكتاب من شيء [.

 

الشبهة الثانية :

        هذه الشبهة تقوم على أساس ادعائهم أن السنة النبوية ليست وحياً من قبل الله -سبحانه - على رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولكنه اجتهاد وتصرف من النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى بشريته، وهو - صلى الله عليه وسلم - بهذا الاعتبار يصيب ويخطئ، فالسنة ليست وحياً، وبالتالي فهي ليست منزهة عن الخطأ، لأن المنزه عن الخطأ إنما هو الوحي، ولا وحي إلا القرآن المجيد. وإذا كانت أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله ليست وحياً، فلسنا ملزمين باتباعها، ولا هي مصدر من مصادر التشريع. وهم يذكرون أموراً يزعمون أنها أدلة على أن السنة ليست وحياً، وإنما هي اجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم- باعتباره بشراً ...

        فمن أدلتهم المزعومة على ذلك، أولاً : مسألة تأبير النخل، حيث أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن يتركوا النخل فلا يؤبِّروه - يلقحوه - فأطاعوا أمره ففسد النخل، وخسر الناس ثمار نخيلهم .. وثانياً : مسألة نزول جيش المسلمين في غزوة بدر، حيث أنزله الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزلاً - ثم ظهر خطأ هذا المنزل، فانتقل الجيش إلى منزل آخر بناء على رأى صحابي من أصحابه - رضوان الله عليهم - .. وثالثاً : مسألة أسرى بدر، حيث استحياهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يقتلهم، وأخذ منهم الفداء،ونزل القرآن مبيناً خطأ ذلك الاجتهاد وإصابة اجتهاد عمر ورأيه في المسألة. ورابعاً : اعتبار الصحابة -رضوان الله عليهم- أن السنة ليست وحياً، وإقرارهم بذلك عملياً، وذلك حين خالفوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صلح الحديبية، حين ذبح وحلق، بينما رفضوا هم ذلك معتبرين ذلك اجتهاداً من النبي، وليس وحياً، ولو اعتبروه وحياً ما خالفوا

الرد على هذه الشبهة وتفنيدها :

        إن هذه الشبهة التي أوردها هؤلاء سبقهم إليها بعض الطوائف من منكري سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكرنا ما زعموه أدلة لهم على ما ذهبوا إليه، وهذه الشبهة مع ما زعموه أدلة عليها ما كان ينبغي أن تصدر عن مسلم، أو عمن يدعي أنه مسلم، فإن الأمة المسلمة مجمعة سلفاً وخلفاً وإلى أن تقوم الساعة على أن السنة النبوية المطهرة وحي من قبل الله - تعالى - على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق عن الهوى، وإجماع الأمة المسلمة على ذلك ليس صادراً عن فراغ أو عن هوى، ولكنه الحق الذي لا يعارضه إلا غويٌّ مبين ..

        والأدلة على أن السنة وحي من الله - تعالى - على نبيه - صلى الله عليه وسلم - كثيرة وعديدة سبق أن ذكرناها في مبحث حجية السنة، لكن لا بأس من الإشارة إلى أهمها هنا:

أولاً : إخبار الله - تعالى - بذلك في نصوص قاطعة في آيات بينات من القرآن المجيد الذي ينتسب إليه هؤلاء .. من ذلك قوله - عز وجل - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : ]وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى [ (النجم:3-4 ). ومن ذلك قوله - عز وجل - عن نبيه - صلى الله عليه وسلم - : ] ولو تقول علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحـد عنه حاجزين  [ ( الحاقة:44-47). فهذه الآيات ليس فيها إخبار بأن الرسول لا ينطق إلا بالوحي فقط، بل فيها إخبار بأنه - صلى الله عليه وسلم - لو افترى على الله - تعالى - شيئاً لم يوحه الله إليه لقتله الله وقضى عليه.. وحيث إن الله - تعالى - لم يأخذ من رسوله باليمين، ولم يقطع منه الوتين، أي لم يقض عليه، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما نطق إلا بما أوحاه الله - تعالى - إليه.

ثانياً : النصوص القاطعة من كتاب الله المجيد التي يأمر الله - عز وجل - فيها المؤمنين باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأخذ وما يدع، وما يأمر وما ينهى، من ذلك قول الله - تبارك وتعالى:] وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا[( الحشر:7)وقول الله - سبحانه - : ] يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم [ ( محمد:33).

ثالثاً : ترتيب الله - تعالى - الإيمان على طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والرضا بحكمه، والتسليم لأمره ونهيه في كل ما يراه ويحكم به، وذلك في قول الله - عز وجل - : ] فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما [ (النساء:65 ). ومن ذلك وصف الله - تعالى - المؤمنين بأن شأنهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وذلك في قوله - سبحانه - :]  إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون [ ( النور:51).

رابعاً : إجماع الأئمة كلها على أن السنة وحي من قبل الله - عز وجل - إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبخاصة صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم أجمعين - حيث كانوا في حياته الشريفة يحفظون أقواله - صلى الله عليه وسلم - ويتذاكرونها فيما بينهم، وكانوا يتحرون الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم - في كل ما يأتي وما يذر - فيما ليس بخصوصية له - صلى الله عليه وسلم - مستجيبين لتوجيه الله - تعالى - في قوله لأمة الإسلام : ] لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [ (الأحزاب:21 ). وقد كان الذي يعرف الكتابة منهم يكتب لنفسه خاصة. وقد كان ثمة عدد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكتبون لأنفسهم في حياته الشريفة. ثم بعد حياته - صلى الله عليه وسلم – كانت المسألة تُعرَضُ للصحابة - رضوان الله عليهم - فيبحثون في القرآن، فإذا لم يجدوا حكمها، بحثوا في السنة الشريفة وحكموا فيها بما وردت به السنة، وكان سائلهم يسأل أصحابه وإخوانه قائلاً : أنشدكم الله هل سمع أحدكم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً في المسألة ؟ فإذا جاءهم حكم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على لسان أصحابه أو بعضهم سارعوا إلى تطبيقه والأخذ به .

        هذه  تذكرة بالأدلة القاطعة على أن السنة وحي من عند الله - تعالى - وقد سبق أن فصلنا ذلك في مبحث سابق عن حجية السنة، بما يغني عن الإعادة هنا.

        أما ما أثاروه من مغالطات مدعين أنها أدلة على أن السنة النبوية المطهرة ليست وحياً ؛ فهو كلام ظاهر البطلان. ونحن نرد عليه - رغم وضوح بطلانه - إبطالاً لمزاعمهم.

1-    وأول مزاعمهم الباطلة مسألة تأبير - تلقيح - النخل. وهي مسألة ترجع إلى التجربة والخبرة ولا علاقة لها بالوحي من قريب أو من بعيد. ومن المعلوم أن الأمور التي تقوم عليها معايش الناس وحياتهم العادية لا صلة لها بالوحي إلا فيما يتصل بها من حل وحرمة وإباحة. أما كيفية مزاولتها والقيام بها، فذلك متروك للخبرة والتجربة يزاولونها حسب ما ألفوا وتعودوا.. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم تكن له سابقة خبرة بتأبير النخل، ولما رآهم يفعلون ذلك قال لهم " لو تركتموه لصلح " إما على هيئة الاستفهام، وإما على الاقتراح المبني على عدم التجربة. ولم يكن لذلك من صلة بالتشريع لا أمراً ولا نهياً. ولذلك لما تركوا تأبير النخل ولم يصلح، وحدثوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، قال لهم : ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ).

2-    وأما ما أثاروه من منزل جيش المسلمين في غزوة بدر ؛ فقد كان ذلك بناء على رأي رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يكن ذلك عن وحي، وهذا بيِّن واضح، فإنه لما سأله أحد أصحابه - رضي الله عنهم - قائلاً : ( أهذا منزل أنزلكه الله يا رسول الله، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة )، ولما أشار عليه صاحبه بمنزل أفضل انتقل اليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فكون ذلك ليس عن وحي واضح. فلا يصح الاستشهاد به في مجال نفي الوحي فيما هو وحي.

3-    وأما مسألة الأسرى في بدر، فهي قد جمعت بين الرأي والوحي. فقد كان الرأي أولاً، ثم أعقبه الوحي بعد ذلك. وقضية الأسرى ببدر توضح لنا أمراً هاماً قد لا يتوفــر في كثــير غيرها من قضايا التشريع. فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ في أسرى بدر بالرأي، فاستشار أصحابه - رضوان الله عليهم-، فكل أدلى برأيه، ثم مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرأي القائل باستحيائهم وأخذ الفداء منهم، وكان هذا رأي أبي بكر - رضي الله عنه -، وكان رأي عمر - رضي الله عنه - أن يقتل الأسرى جميعا - وبعد أن استقر الأمر على ذلك نزل الوحي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبين ما كان ينبغي أن يفعل في مسألة الأسرى، ويبين الصواب في القضية.  يقول الله - سبحانه - في شأن فعل الرسول في أسرى بدر : ] ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض. تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة. والله عزيز حكيم. لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم. فكلوا مما غنمتم حـلالاً طيباً واتقوا الله. إن الله غفور رحيم [ ( الأنفال:67-69).

        فقضية الأسرى بدأت بالرأي، ثم انتهت بالوحي. وهذه القضية بجملتها شاهدة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول ولا يفعل - فيما يتصل بالدين - إلا بوحي من عند الله - سبحانه -، وأن الله - سبحانه - لا يدع رسوله - صلى الله عليه وسلم - على غير صواب، حتى في حالة تصرفه برأيه واجتهاده وذلكم هو الأمر الهام الذي نَوَّهنا به قبلا، وخلاصته أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله في أمور الدين وحي، حتى ولو قال برأيه. لأنه إن قال أو فعل برأيه وكان صواباً موافقا لأمر الله أقره الله - تعالى - على ذلك. وكان إقرار الله - سبحانه - له دليلاً على موافقة عمله لمراد الله - تعالى - فيكون وحياً، وإن كان اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس صواباً موافقاً لمراد الله - سبحانه - فإن الله - تعالى - لا يقره على ما قال أو فعل اجتهاداً، بل يصوب له ويصحح. وذلك كما حدث في أسرى بدر. حيث نزل فيها القرآن مصوباً ؛ وكما حدث في أوائل سورة “ عبس “ حيث نزل القرآن معاتباً .. وهكذا يتضح أن واقعة أسرى بدر شاهدة بأن السنة وحي من عند الله تعالى -، وأن الله - سبحانه - يحيط أقوال وأفعال رسوله بالوحي حتى ولو اجتهد برأيه.

        وفيصل الأمر في القضايا الثلاث التي أثاروها شبهة من شبهاتهم ظانين أنها دليل  على أن السنة النبوية ليست وحياً ؛ أن ما يصدر عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – نوعان : نوع يفعله بمقتضى بشريته – صلى الله عليه وسلم -، دون أن يوحى إليه فيه بشيء، وهذا النوع لا صلة له بالتشريع، وذلك في جل شؤونه المعيشية التي لا يتعلق شيء منها بالدين حلاً أو حرمة ومن ذلك رأيه في تأبير النخل. ونوع آخر يفعله – صلى الله عليه وسلم – بمقتضى كونه بشرا رسولاً، وفعله هذا إنما يقوم على وحي من قبل الله – تعالى. والأمران الأولان : تأبير النخل، ومنزل الجيش في بدر، من النوع الأول الذي فعله رسول الله – صلى الله عليه وسلم – برأيه. والأمر الثالث اجتهد فيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – رأيه وآراء محل مشورته من الصحابة – رضوان الله عليهم -، فنزل الوحي مصوباً ومبيناً الحكم الصحيح.

 

الشبهة الثالثة :

        خلاصة هذه الشبهة قولهم: إن السنة لم تكن شرعاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم-، ولم يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تكون سنته مصدراً تشريعياً للدين، وما قال شيئاً أو فعله بقصد التشريع، ولم يرد النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته أن يكون ثمة مصدر تشريعي سوى القرآن المجيد. بل كان مصدر التشريع عند الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن وحده، وكذلك فهم الصحابة - رضوان الله عليهم -، وجاء عهد التابعين الذين بدأت فيه فتنة القول بالسنة، وأنها مصدر من مصادر التشريع، وكانت تلك قاصمة الظهر بالنسبة للدين، حيث دخل فيه ما ليس منه، واختلط بالوحي الصحيح الخالص الذي هو القرآن، ما ليس من الوحي بل هو كلام البشر، نعني بذلك سنة النبي.

        وهم يزعمون أن لهم أدلة على ذلك. منها :

1-    أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر أصحابه بكتابة القرآن الكريم، وحضهم على ذلك، ونهى أصحابه عن كتابة شيء من السنة قولاً كانت أو فعلا، وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ) 

2-    أن الصحابة - رضوان عليهم - عرفوا من النبيe أن السنة ليست شرعاً فأهملوا كتابتها وحفظها، رغم اهتمامهم الشديد بكتابة القرآن المجيد على كل ما يصلح أن يُكْتب عليه.

3-    أن كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - ومنهم الخلفاء الراشدون - كانوا يكرهون رواية الأحاديث، ويحذرون منها، وكان عمر - رضي الله عنه - يهدد رواة الحديث ويتوعدهم، وقد حبس عمر بن الخطاب عدداً من الصحابة بسبب روايتهم للحديث تنفيذاً لوعيده وتهديده إياهم بعدم رواية الحديث.

الرد على الشبهة وتفنيدها :

        هذه شبهتهم، وتلك أدلتهم عليها، والشبهة ساقطة، وأدلتها أشد منها سقوطا وافتراء. فالأمة المسلمة مجمعة سلفاً وخلفاً وحتى قيام الساعة - بحول الله تعالى - على أن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي المصدر الثاني من مصادر التشريع الإسلامي. وقد أقمنا الأدلة وافية - بفضل الله - على أن السنة وحي من الله - سبحانه - على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكون السنة وحيا من عند الله - تعالى - قاطع وكاف بذاته على أنها شرع الله - تعالى - إلى الناس، فهي المصدر الثاني للتشريع بلا ريب .. ولكنا نزيد الأمر وضوحاً، ونرد على ما زعموه أدلة على شبهتهم تلك .

1-    أما قولهم بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة الحديث، بينما حضَّ على كتابة القرآن وحفظه، وكان له - صلى الله عليه وسلم - كتبة القرآن ؛ فقول مبالغ فيه، ويقوم على التدليس وذكر بعض الحق وإخفاء البعض .. وليس من شك في أن القرآن المجيد قد لقي من العناية بكتابته وحفظه ما لم يكن للسنة النبوية. فهو مصدر الدين الأول، وهو أعلى من السنة منزلة وقداسة، وهو أحق بالعناية والاهتمام بكتابته وحفظه، لذلك حظي القرآن من العناية بما لم تحظ به السنة وبخاصة تدوينها وكتابتها .. والأسباب التي جعلت الصحابة يهتمون بكتابة القرآن فوق اهتمامهم بكتابة السنة كثيرة. منها : أن القرآن الكريم محدود بحدود ما ينزل به جبريل على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكتابته والإحاطة به أيسر، وهم على ذلك أقدر، أما السنة النبوية من أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله فكثيرة ومتشعبة تتضمن أقواله - عليه السلام - وأفعاله اليومية، وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة عاشها - صلى الله عليه وسلم - بينهم، وهذا أمر يشق كتابته وتدوينه، وبخاصة إذا أخذنا في الاعتبار ندرة أو قلة الكاتبين بين الصحابة - رضوان الله عليهم -. ومنها : أن كتابة القرآن ضرورة يفرضها ويحتمها كون القرآن العظيم وحي الله - تعالى - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه ومعناه، ولا تجوز روايته بالمعنى، أما السنة فتجوز روايتها بالمعنى، ويجوز في السنة أن يقول القائل : " أو كما قال " وما هو من قبيلها، وليس ذلك جائزاً في القرآن. ومنها : أن الكاتبين بين الصحابة -رضوان الله عليهم - كانوا قلة، وليس في مقدورهم أن يكتبوا السنة والقرآن معاً، وإذا كان ثمة اختيار بين أيهما يكتب الصحابة العارفون الكتابة، فليكن المكتوب هو القرآن، وذلك حتى يسلموه لمن بعدهم محرراً مضبوطاً تاماً لم يزد فيه ولم ينقص منه حرف.

        وأما احتجاجهم بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن كتابة غير القرآن، وغير القرآن هو السنة. فهو احتجاج باطل من وجوه. أولها: أن هذا الحديث الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، وهو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تكتبوا عني، ومـن كتب عني غير القرآن فليمحه ). هذا الحديث معلول “ أعله أمير المؤمنين في الحديث أبو عبد الله البخاري وغيره بالوقف على أبي سعيد ". ولو صرفنا نظراً عن هذا، فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كما نهى عن الكتابة، فقد ورد عنه – صلى الله عليه وسلم – الإذن بها، بل الأمر بها في أحاديث أخر، ولذلك قلنا إن استدلالهم فيه تدليس، حيث ذكروا حديث النهي، ولم يشيروا إلى أحاديث الإذن وهي كثيرة. منها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم الفتح فقال “ إن الله حبس عن مكة القتل – أو الفيل الشك من البخاري – وسلط عليهم رسول الله والمؤمنون .. " ولما انتهى من خطبته جاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول الله  فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم: ( اكتبوا لأبي شاة ) . ومنها : ما روي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أنه قال : " ما كان أحد أعلم بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مني إلا عبد الله بن عمرو فقد كان يكتب ولا أكتب " ومن ذلك ما روي عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن بعض الصحابة حدثه فقال : إنك تكتب عن رسول الله كل ما يقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم - بشر يغضب فيقول ما لا يكون شرعاً، فرجع عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما قيل له، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم: (اكتب، فوالذي نفسي بيده ما يخرج من فمي إلا الحق) وهذه الروايات في الصحيح، وهناك غيرها ضعيف وهي كثيرة. فإذا ما وازنا بين روايات المنع وروايات الإذن، “ وجدنا أبا بكر الخطيب - رحمه الله - (ت463هـ ) قد جمع روايات المنع فلم يصح منها إلا حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - السابق ذكره، وقد بينا أن الإمام أبا عبد الله البخاري قد أعله بالوقف على أبي سعيد، وكذلك فعل غيره “ بينما أحاديث الإذن كثيرة. والصحيح منها كثير، روينا بعضه، ومنها : إضافة إلى ما سبق أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في مرض موته : ( ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده ) 

        وقد اجتهد العلماء في الجمع بين أحاديث الإذن وأحاديث المنع، فنتج عن ذلك آراء أهمها :

أ -     أن ذلك من منسوخ السنة بالسنة. أي أن المنع جاء أولاً، ثم نسخ بالإذن في الكتابة بعد ذلك. وإلى ذلك ذهب جمهرة العلماء، ومنهم ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث، وقد قالوا إن النهي جاء أولاً خشية التباس القرآن بالسنة، فلما أمن الالتباس جاء الإذن.

ب-    أن النهي لم يكن مطلقاً، بل كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة. أما في صحيفتين فمأذون به.

ج-    أن الإذن جاء لبعض الصحابة الذين كانوا يكتبون لأنفسهم، ويؤمن عليهم الخلط بين القرآن والسنة.

        وهناك آراء غير ذلك، لكن الذي يتضح من روايات المنع وروايات الإذن أن الإذن جاء آخراً، فإن كان نسخ فهو الناسخ للمنع. وهذا الذي رواه الجمهور

        وبهذا يسقط استدلالهم بحديث المنع الذي رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه - هذا الحديث الذي يعدونه حجر الزاوية في احتجاجهم بعدم تشريعية أو حجية السنة، ويكثرون اللجاج به كتابة ومناظرة.

2-    أما قولهم إن الصحابة - رضوان الله عليهم - قد فهموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السنة ليست شرعاً فانصرفوا عنها، ولم يهتموا بكتابتها أو الالتزام بها ؛ فهذا من الكذب والمكابرة، والمطلع على المدونات في كتب السنة، وتاريخ العلوم، وما كتب العلماء في مواقف الأمة المسلمة من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وبخاصة موقف الصحابة – رضوان الله عليهم – من سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقطع بكذب هؤلاء ويعجب من مدى تبجحهم وافترائهم على الحق، إلى حد قلب الأوضاع وعكس الأمور. فقد كان أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحرص الخلق على ملاحظة أقوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأفعاله وحفظها، والعمل بها، بل بلغ من حرصهم على تتبع كل صغيرة وكبيرة وحفظها ووعيها والعمل بها أن كانوا يتناوبون ملازمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، فهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يحدث عنه البخاري بسنده المتصل إليه. يقول : " كنت وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ينزل يوماً، وأنزل يوماً، فإذا نـزلت جئته بخبر ذلك اليوم، وإذا نزل فعل مثل ذلك" وما كان ذلك إلا لحرصهم الشديد على معرفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتباعها والالتزام بها ...

        وقد كان الصحابة يقطعون المسافات الطويلة ليسألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حكم الله في بعض ما يعرض لهم. يروي البخاري عن عقبة بن الحارث - رضي الله عنه - “ أن امرأة أخبرته أنها أرضعته هو وزوجه فركب من فوره من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة. فلما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سأله عن حكم الله فيمن تزوج امرأة لا يعلم أنها أخته من الرضاع، ثم أخبرته بذلك من أرضعتهما ؟ فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - (كيف وقد قيل ؟ ) ففارق زوجه لوقته وتزوجت بغيره ..

        وكان الصحابة – رضي الله عنهم – حريصين على أن يسألوا أزواج النبي – رضوان الله عليهن – عن سيرته وسنته في بيته، وكانت النساء يذهبن إلى بيوت أزواج النبي يسألنهن عما يعرض لهن، وهذا معروف مشتهر غني عن ذكر شاهد أو مثال.

        بل لقد بلغ من حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على الالتزام بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يلتزمون ما يفعل ويتركون ما يترك دون أن يعرفوا لذلك حكمة، ودون أن يسألوا عن  ذلك، ثقة منهم بأن فعله - صلى الله عليه وسلم - وحي. فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب، ثم نبذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ( إني لن ألبسه أبداً ) فنبذ الناس خواتيمهم "

        وروى القاضي عياض في كتابه " الشفا " عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: " بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعها عن يساره، فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى صلاته قال : ( ما حملكم على إلقاء نعالكم) ؟ قالوا : يا رسول الله رأيناك ألقيت نعليك، فقال : ( إن جبريل أخبرني أن فيهمــا قذرا)

        وأورد ابن عبد البر في “ جامع بيان العلم وفضله " عن ابن مسعود - رضي الله عنه " أنه جاء يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، فسمعه يقول : ( اجلسوا ) فجلس بباب المسجد - أي حيث سمع النبي يقول ذلك - فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : (تعال يا عبد الله بن مسعود) 

        إلى هذا الحد بلغ حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على معرفة سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -  في جميع أحواله، والالتزام بها، والاستجابة لأمره ونهيه من فورهم - كما فعل عبد الله بن مسعود -، ومن غير أن يدركوا حكمة الفعل - كما في إلقائهم نعالهم في الصلاة، ونبذهم خواتيم الذهب -، ولم يكن ذلك إلا استجابة لله - تعالى - في أمره بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والاقتداء به كما في قوله - عز وجل - :  ] لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [ (الأحزاب:21 ). ثم استجابة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في أمره الأمة باتباع سنته والالتزام بها، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( خذوا عني مناسككم ) وقوله - عليه الصلاة والسلام - : (صلوا كما رأيتموني أصلي) وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قالوا : يا رسول الله ومن يأبى ؟ قال : ( من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) وقوله - صلى الله عليه وسلم -  ( أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ) 

        هذا قليل من كثير مما يبين موقف الصحابة - رضوان الله عليهم - من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو موقف يتسم بالحرص الشديد والاهتمام البالغ على معرفة سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحفظها والالتزام بها، بل وتبليغها إلى من يسمعها استجابة لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (نضر الله امرأ سمع مقالتي ووعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع ) 

        ومن هذا يتبين مدى كذب أعداء السنة وأعداء الله ورسوله في ادعائهم الذي سلف ذكره.

3-    وأما دعواهم بأن كبار الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يكرهون رواية الحديث، وكان عمر - رضي الله عنه -  يتهدد رواة السنة، وأنه نفذ وعيده فحبس ثلاثة من الصحابة بسبب إكثارهم من رواية السنة ؛ فهذا كذب يضاف إلى ما سبق من دعاواهم الكاذبة، وفيه جانب من التدليس الذي لا يخلو عنه كلامهم.

        أما أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا يكرهون رواية الحديث، فهذا باطل، والحق أنهم كانوا يخشون روايتها ويهابون من ذلك، لعظم المسؤولية، ووعيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من يكذب عليه. في قوله - عليه السلام - ( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار ) . ولقد كان الصحابة - رضوان الله عليهم - بين أمرين هم حريصون على كل منهما ؛ أولهما : تبليغ دين الله إلى من يليهم من الأمة، ثانيهما : التثبت والتحري الشديد لكل ما يبلغونه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. لذلك كان الواحد منهم يمتقع وجهه، وتأخذه الرهبة وهو يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. فالصواب - إذن - أن الصحابة كانوا يهابون رواية الحديث بسبب شدة خوفهم من الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الخطأ فيما يروون. وليس كما يزعم هؤلاء، أن ذلك لأنهم كانوا يرون السنة غير شرعية، أو أنها ليست مصدراً تشريعياً.

        أما دعوى حبس عمر - رضي الله عنه - ثلاثة من أصحابه هم : عبد الله بن مسعود، وأبو ذر، وأبو الدرداء - رضي الله عنهم – ؛ فهذه رواية ملفقة كاذبة، جرت على الألسنة، وقد ذكرها البعض كما تجري على الألسنة وتدون في كتب الموضوعات من الأحاديث والوقائع، فليس كل ما تجري به الألسنة أو تتضمنه بعض الكتب صحيحاً، وقد تولى تمحيص هذه الدعوى الكاذبة الإمام " ابن حزم " – رحمه الله – في كتابه : “ الإحكام “ فقال : ((وروي عن عمر أنه حبس ابن مسعود، وأبا الدرداء، وأبا ذر من أجل الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  وبعد أن طعن ابن حزم في الرواية بالانقطاع محصها شرعاً فقال : “ إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد، لأنه لا يخلو : إما أن يكون عمر اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه. أو يكون نهى عن نفس الحديث وتبليغ السنة وألزمهم كتمانها وعدم تبليغها، وهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، وهذا قول لا يقول به مسلم، ولئن كان حبسهم وهم غير متهمين فلقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات أي الطريقين الخبيثين شاء "

        هكذا يتضح كذب ادعائهم وفساد ما بنوه على هذا الادعاء.

الشبهة الرابعة :

        خلاصة شبهتهم هذه ؛ أن الإسلام جاء يدعو إلى أمة واحدة تحت راية كتاب الله القرآن – يقـــول الله - تعالى - ] إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم  فاعبدون  [ ( الأنبياء:92). وقد جاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طوال حياته الشريفة لتحقيق هذه الغاية، حتى نجح في ذلك بفضل اعتماده القرآن وحده، وترك الأمة على ذلك .. وقد ظلت الأمة واحدة طالما كانت تحت راية القرآن وحده. حتى جاءت المؤامرة التي قام بها مدونو كتب السنة. حيث تسببوا بتدوين السنة، والدعوة إليها، وشغل الناس بها إلى تفريق الأمة، وقد جاء الفقهاء فبنوا على السنة، فازدادت الأمة افتراقاً، ولو أن الأمة تركت السنة وعادت إلى القرآن وحده لخرجت من فرقتها، وعادت إليها وحدتها وعزتها وأخذت مكانتها بين الأمم المتقدمة.

        ولأن السنة هي سبب تفرق الأمة وتصدع وحدتها ؛ فلم يقم بها، ولم يشتهر بالتدوين فيها عربي واحد، بل كان جميع المشتغلين بالسنة من أهل فارس، وبخاصة الكتب الستة، فإن الذين دونوها وشغلوا الناس بها من الفرس الحاقدين على الإسلام، وقد  وضعوا كتبهم للكيد للإسلام وتصديع وحدة الأمة المسلمة، فتدوين كتب السنة - إذن - كان مؤامرة فارسية سقطت في أتونها الأمة المسلمة، يقول " عبد الله جكرالوي " " لا ترتفع الفرقة والتشتت عن المسلمين، ولن يجمعهم لواء ولا يضمهم فكر واحد، ما داموا مستمسكين بروايات زيد وعمرو" ويقول " حشمت علي " : " لن تتحقق وحدة المسلمين ما لم يتركوا كتبهم الموضوعة في طاعة رسول الله "، ويقول " برويز " : " قد فاق تقديس هذه الكتب - كتب السنة - كل التصورات البشرية، مع أنها جزء من مؤامرة أعجمية، استهدفت النيل من الإسلام وأهله، ثم يفسر تلك المؤامرة ويبين القائمين بها فيقول " فما أصحاب الصحاح الستة إلا جزء من تلك المؤامرة، لذا نجدهم جميعاً إيرانيين، لا وجود لساكن الجزيرة بينهم "

الرد على الشبهة وتفنيدها :

        إن هذه الشبهة تذكرنا بالمثل : " رمتني بدائها وانسلت ". أو ما يقول علماء النفس عن داء " الإسقاط " وهو داء نفسي يبتلى به بعض الناس المصابين بنقائص معينة، فحتى يبرئ نفسه منها يسارع فيسقطها على الآخرين ويتهمهم بها .. فهؤلاء أعداء السنة، وأعداء الدين، وأعداء أمة المسلمين، هم الذين خرجوا على إجماع الأمة، ومن قبل ذلك خرجوا على القرآن المجيد كتاب الله الذين ينسبون أنفسهم إليه ظلماً وزورا، وخرجوا على سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهم أعداء الله ورسوله والمؤمنين، وأعداء القرآن والسنة، فهؤلاء هم الذين صدعوا وحدة الإسلام والأمة، وفرقوا كلمتها، وخرجوا على جماعتها. هؤلاء يأتون فيرمون أهل السنة، أهل الإسلام، جماعة المسلمين بأنهم هم الذين فرقوا الأمة. وهؤلاء الذين خرجوا على جماعة المسلمين برفضهم السنة النبوية، يرمون الأمة المسلمة بأنها خرجت عليهم وفرقت المسلمين بتمسكهم بالسنة النبوية المطهرة .. فهل يوجد ثمة تبجح وادعاء، ومكابرة، وقلب للأوضاع، ورمي للأبرياء بما فيهم من أدواء، كمثل هذا الذي فعله منكرو السنة في شبهتهم هذه ؟ ] سبحانك هذا بهتان عظيم [ ( النور:16).

        ثم إن هؤلاء الذين يتهمون المسلمين المتمسكين بالسنة النبوية بأنهم تفرقوا بسبب استمساكهم بالسنة، وعدم اقتصارهم على القرآن وحده، وقد زعموا أنهم مقتصرون على القرآن وحده طلباً لوحدة الأمة ؛ نقول : هل أفلح هؤلاء في أن يكونوا فريقا واحدا ؟ إنهم بعد أن تركوا السنة طلبا للوحدة - كما يزعمون زوراً - تحولوا فيما بينهم إلى طوائف وفرق، وكل فرقة تحاول أن تنتشر على حساب الأخرى، وتستقطب أتباع الأخرى، لِمَ لم يتوحدوا هم في فرقة واحدة إذا كان مطلبهم الوحدة ؟

        إننا حين سمعنا بهم ونحن بإسلام أباد بباكستان، كنا نظنهم فرقة واحدة، وظل ذلك ظنا لدينا حتى اجتمعنا ببعضهم " بكراتشي " وبعد أن انفض الاجتماع وكنا نستعد للسفر إلى مدينة " هاري بور " للقاء " بير عبد الدايم " زعيم " البريلويين " هناك للنظر في عقائد هؤلاء الناس، فوجئنا بمضيفنا يقول : هناك طائفة أخرى يمكن أن تجتمعوا ببعض رؤسائها إذا انتظرتم إلى الغد .. فعرفنا أنهم طوائف. ثم إنهم ينعون على الأمة المسلمة المذاهب الفقهية، ويسمون ذلك تفرقاً وتشتتاً، فهل أفلحوا هم في أن يكونوا مذهباً واحداً في الفقه ؟ " لنأخذ الصلاة مثالاً للواقع الملموس بينهم، فمن قائل بأدائها خمساً، وآخر أربعاً وثالث ثلاثا والرابع مرتين في اليوم والليلة، وكل صاحب رأي من هذه الآراء يزعم أنها صلاة القرآن، وأما اختلافهم في جزئياتها من حيث عدد الركعات والهيئة فحدث عنه ولا حرج "

        أما الزعم بأن كل الذين دونوا السنة وجمعوها وميزوها من الأعاجم المتآمرين على أمة الإسلام فذلك كذب صراح وافتراء بواح في شقيه ؛ في الزعم بأن مدوني السنة جميعهم عجم، وفي الزعم بأن التدوين كان مؤامرة.

        أما الشق الأول فيكذبه الواقع، فإن أول من دون السنة وجمعها كانوا عربا صرحاء، فقد بدأ الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة - رحمه الله - وذلك في موطَّئه. وجاء بعده الحميدي القرشي في مسنده، وجاء بقية السلف الصالح في عصره الإمام أحمد بن حنبل في مسنده، وهكذا تتابع التدوين، وهؤلاء الأوائل جميعهم عرب صرحاء. أما عن الكتب الستة ؛ فدعواهم أن واضعيها من العجم كذب وافتراء. فالإمام مسلم والإمام الترمذي والإمام أبو داود جميعهم من العرب، فكيف يقال إنهم من العجم ؟ وإنهم صنعوا بذلك مؤامرة على المسلمين ؟

        إن هؤلاء يقلبون الأوضاع، ويعكسون الأمور، ويرمون الأبرياء بما هم فيه من بلاء، فمن هم الذين يتآمرون على الإسلام والمسلمين ؟ ومن هم الذين فارقوا الجماعة، وفرقوا الأمة ؟ هل هؤلاء هم البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه ؟ هؤلاء الأئمة الأعلام الذين حفظ الله بهم دينه، وذلك بحفظهم وحفاظهم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، إن هؤلاء هم الذين - حفظ الله - بهم دينه، وعصم الله - تعالى - بهم الأمة عن التفرق والشتات، إن المرء ليعجب كيف يصل التبجج والافتراء إلى مستوى يتهم فيه عاقل - حتى ولو لم يكن مسلماً - إماماً كالبخاري أو مسلم بأنه فرق الأمة وتآمر على الإسلام

        إن الواقع الملموس يبين أن هؤلاء الكافرين بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخارجين عن طاعة الله - تعالى - وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - هم المتآمرون على الإسلام، المفرقون أمة المسلمين، المارقون من الدين، الشاذُّون عن الجماعة.

الشبهة الخامسة :

        وهذه الشبهة ليست من إنشائهم، بل قال بها بعض منكري السنة السابقين، وبخاصة هؤلاء الذين اتخذوا من الاعتزال ستاراً يخفون وراءه زندقتهم، ثم يهاجمون الإسلام، من أمثال النظام وبشر المريسي وغيرهم.

        وهذه الشبهة تقوم عندهم على الزعم بأن الاحتكام إلى السنة والالتزام بها مؤدّ إلى الشرك والكفر. فإن الاسلام يقوم على أن الحاكم هو الله وحده، وأن الحكم له وحده - سبحانه - يقول - تعالى - : ] إن الحكم إلا لله [ (الأنعام:57 و يوسف:40،67 ). ويقول - عز وجل - : ] ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [ ( الأنعام:62). وإذا كان الإسلام يقوم على أن الحكم لا يكون إلا لله - سبحانه - ؛ فإن الاحتكام إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه إشراك الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحكم مع الله - سبحانه -، وذلك كفر وشرك. ولا خروج من ذلك الشرك والكفر إلا بالاحتكام إلى كتاب الله القرآن وحده، ونبذ السنة وعدم اعتبارها.

الرد على الشبهة وتفنيدها :

        هذه الشبهة تقوم على أمرين فرغنا من الحديث عنهما :

الأمر الأول : أن السنة ليست وحياً من عند الله - تعالى - وبالتالي فليست شرعاً يحتكم الناس إليه.

الأمر الثاني : أن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليست من طاعة الله - سبحانه - بل بين طاعة الرسول وطاعة الله تعارض وتضارب، بحيث تكون طاعة الرسول نقضاً لطاعة الله - تعالى -، وبذلك يتحقق كونها عندهم شركا بالله.

        وهذان الأمران قد سبق أن أوفينا الكلام فيهما. حيث أثبتنا أن السنة النبوية وحي من عند الله - سبحانه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق إلا بوحي الله - تعالى -، ويكفي هنا أن نذكر بقول الله - عز وجل - في حق رسوله - صلى الله عليه وسلم - : ] وما ينطق عن الهوى% إن هو إلا وحي يوحى [ (النجم:3-4 ). وكذلك قد بينا أن  السنة شرع الله - سبحانه - كما أن القرآن شرع الله - عز وجل -، وقد بينا - آنفاً - أن السنة بمنزلة القرآن من حيث حجية التشريع ومصدريته، ويكفي - كذلك - أن نذكر هنا بقول الله - عز وجل - مخاطباً رسوله - صلى الله عليه وسلم - : ] فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممـا قضيت ويسلموا تسليما [ ( النساء:65) ، ويقول الله – سبحانه - : ] إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكـم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون [ ( النور:51).

        فهذه الآيات نصوص قرآنية قاطعة في أن السنة النبوية وحي من عند الله - تعالى -، وأن كل ما يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو يفعل - فيما يتصل بأمور الدين - إنما هو الحق من عنـد الله، وكذلك تدل الآيات على وجوب الاحتكام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والرضا بما يحكم به، والتسليم والإذعان لذلك. وأن من لم يحتكم إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرض بحكمه هو خارج عن الإيمان، وليس له حظ من الإسلام.

        أما كون طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واجبة على المسلم، وأنهـا من طاعة الله – تعالى -، فقد أوفينا الكلام عنها كذلك. ويكفي أن نذكر بقول الله – عز وجل : ] من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا [ (النساء:80 ).

        فهذه آيات قاطعات في أن الاحتكام إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وطاعته إنما هو احتكام إلى الله تعالى - وطاعة له - سبحانه - وقد قال الله - تعالى - : ]من يطع الرسول فقد أطاع الله [. وهؤلاء يقلبون الآية القرآنية فيزعمون أنه " من يطع الرسول فقد أشرك بالله “ - عياذاً بالله، وليس بعد هذا الضلال ضلال.

 

الشبهة السادسة :

        وتتمثل هذه الشبهة في زعمهم ؛ أن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال ليس لها صفة العموم الزماني والمكاني، إذ هي أحكام أصدرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في زمانه وفقاً لظروف أصحابه الذين كانوا معه، وظروف أصحابه كانت مرتبطة بهم وبزمانهم ومكانهم وأحوالهم الخاصة بهم. وقد انقضى ذلك الزمان بأشخاصه وظروفهم وأحوالهم، وقد تغير الزمان، وتغيرت الظروف، ومن ثم لم تعد تلك الأقوال والأفعال الخاصة بذلكم الزمان، صالحة لزماننا ولا لظروفنا، ويترتب على ذلك أن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي كانت واجبة على أصحابه في زمانه، لم تعد واجبة علينا، ولا سنته التي كانت ملزمة لهم ملزمة لنا.

الرد على الشبهة وتفنيدها :

        إن القول بهذه الشبهة مبني على الزعم بأن السنة ليست وحياً، وليست شرعاً، وقد سبق أن رددنا على ذلك. لكن هذه الشبهة تثير قضية أخرى زيادة على ما تقدم. وهي قضية الأحكام الشرعية التي وردت في أسباب خاصة، وهذه في القرآن المجيد يُعَنْون لها بـ " أسباب النزول ". وقد ورد جانب كبير من الأحكام الواردة في القرآن الكريم على هذا النحو، أي نزل في أسباب خاصة كما في أحكام الظهار في أول سورة المجادلة. لكن العلماء لم يذهبوا إلى القول بأن هذه أحكام خاصة بأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وبزمانهم ولم تعد صالحة لزماننا، بل وضعوا القاعدة الأصولية المشهورة والتي يعرفها عامة المسلمين، والتي تقول " العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ". ومقتضى هذا أن الحكم ينزل في واقعة معينة، ثم يطبق على كل ما يماثلها وحتى آخر الزمان.

        ومثل هذا الذي قيل في أحكام القرآن المجيد، قاله العلماء في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم يفرقوا بين القرآن والسنة في ذلك لكونهما وحي الله - تعالى - إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالقرآن وحي الله، والسنة وحي الله. وقد سبق أن بينا ذلك بإفاضة.

        والقول باقتصار السنة على زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضوان الله عليهم - مؤدٍّ - بالضرورة - إلى القول بمثل هذا في القرآن المجيد، لأن ثمة تلازما بين القرآن والسنة من حيث التشريع والحجية، ومن حيث إنهما خطاب للخلق من الجن والإنس في كل زمان ومكان. وإلا فماذا نقول في الآيات القرآنية التي وردت تأمر الأمة المسلمة بطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كقوله - تعالى - :  ] وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون [ (النور:56 ). هذا الأمر إما أن يكون صالحاً لكل زمان ومكان، وصلاحيته هذه قائمة إلى قيام الناس لرب العالمين، فتكون السنة المأمور بطاعة الرسول فيها قائمة ومستمرة، ويكون كلامهم باطلاً، أما إذا كانت السنة - كما يزعمون غير صالحة بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الأمر باتباعها وطاعة صاحبها كذلك غير صالح بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويؤول الأمر إلى أن يقولوا في القرآن بمثل ما قالوا في السنة، فتكون جميع الآيات الآمرة بطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كثرتها، وتنوع صيغها، وكذلك الآيات التي تحض على الاحتكام إليه، وجعل ذلك علامة الإيمان، وكذلك الآيات التي تجعله - صلى الله عليه وسلم - قدوة وأسوة، كل ذلك يكون مفرغ المعنى، وقد مضى عهد صلاحيته بانتهاء عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. وهذا ما لا يقول به عاقل. ولا يقولون هم به، ليس لأنهم عقلاء فاهمون، بل لأنهم ينسبون أنفسهم إلى القرآن، ويصفون القرآن بأنه - وحده - صالح لكل زمان ومكان. ولا يدرون أن مِعْوَلَهم الذي شهروه لهدم السنة هو في ذاته مُشْهر لهدم القرآن الذي ينتسبون إليه ظلماً وزورا ،. لكن الله - تعالى - حافظ دينه بحفظ كتابه وسنة رسوله، ولو كره الكافرون.

الشبهة السابعة :

        تقوم شبهتهم هذه على أن الله - تعالى - قد تكفل بحفظ كتابه القرآن. وذلك في قوله - عز وجل - : ] إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون [ ( الحجر:9). لذلك ظل القرآن هو الحق الوحيد في دين الله الإسلام، فلم يحرف ولم يبدل، ولم تدخله كلمة ولا خرجت منه كلمة، ولم يرو بغير لفظه ومعناه، أما السنة فلم يتكفل الله - سبحانه - بحفظها، ولذلك داخلتها الموضوعات المحضة من جانب - أي التي لم يقلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بلفظها ولا بمعناها -، ومن جانب آخر ضاعت ألفاظها ورويت بالمعنى، وذلك فيما لو صح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قالها. فكان ضياع ألفاظها سببا في عدم معرفة المعنى الذي أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حتى ليصح أن يقال إن السنة كلها أضحت موضوعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ما كان منها موضوعاً بلفظه ومعناه، وما كان منها موضوع المعنى بسبب ضياع ألفاظه وروايتهم إياه بالمعنى، يقول "برويز": " اعلم أن الله - تعالى - لم يتكفل بحفظ شيء سوى القرآن، ولذا لم يجمع الله الأحاديث، ولا أمر بجمعها، ولم يتكفل بحفظها ". ويقول " عبد الله جكرالوي " " بعد وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمئات السنين نحت بعض الناس هذه الهزليات من عند أنفسهم ونسبوها إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو منها بريء ".. ويقول " مقبول أحمد " : " تنقيح الأحاديث من البحر الهائج المكذوب كتطهير الطعام المسموم، غير أن الحذر والحيطة يقتضيان عدم الأكل من ذلك الطعام "

        ويقولون أيضاً : إن كفالة الله - تعالى - بحفظ كتابه القرآن، مع عدم كفالته بحفظ السنة دليل واضح على أن الدين ليس بحاجة إلى السنة. وأنها ليست من الدين، ولا هي ضرورية له. إذ لو كانت من الدين وضرورية له لحفظها الله كما حفظ القرآن. 

الرد على الشبهة وتفنيدها :

        إن الله - عز وجل - أنزل القرآن الكريم بلفظه ومعناه، فالقرآن كلام الله – سبحانه-، لذا كان جديراً بأن يحفظه الله - سبحانه - ويصونه أن يحرف أو يبدل، ولأن القرآن كذلك لم تجز روايته بالمعنى.

        أما السنة فهي وحي الله - تعالى - إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - أوحى الله - تعالى - بما فيها من أحكام وتشريعات إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم صاغها النبي بكلامه. ولأن السنة ليست كلام الله - تعالى - فقد أجاز العلماء روايتها بالمعنى، ولم يطلق العلماء هذا الحكم بلا ضوابط أو حدود، بل وضعوا لراوي الحديث بالمعنى ضوابط وشروطاً بحيث لا تجوز روايته الحديث بالمعنى إلا إذا توفرت فيه هذه الضوابط والشروط.

        ورأس هذه الشروط أن يكون عارفاً بالعربية، عالماً بألفاظها، ومدلولات تلك الألفاظ، بصيراً بعلاقات الألفاظ بعضها ببعض من ترادف واشتراك وتباين وغير ذلك. فإن كان الراوي على هذا العلم جاز له رواية الحديث بالمعنى، لأن في معرفته بالأمور التي ذكرناها أماناً من الخطأ في معاني الأحاديث التي يرويها. وإن لم تتوفر له هذه الشرائط فلا تجوز له الرواية بالمعنى.

ِ

        أما إن كان المراد أن الله - تعالى - لم يحفظ السنة مطلقاً لا بألفاظها ولا بمعانيها، وأنها ضيعت ؛ فذلك كذب وافتراء على الله - تعالى - وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى الأمة المسلمة، وجحد ونكران لجهود عظيمة  مميزة قام بها علماء السنة عبر تاريخ الإسلام.

والحق أن الله - سبحانه - تكفل بحفظ كتابه، ومن خلال حفظ كتابه تكفل الله - تعالى - ضمنياً بحفظ سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ذلكم أن الكتاب بحاجة إلى السنة التي تبينه، كما قــال – عز وجل - : ] وأنزلنا إليك الذكر لتبيــَّن للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون [ (النحل:44). فالسنة ضرورية للكتاب، وهي إلى جانب الكتاب ضروريان للدين. فمن حفظ الله - تعالى - كتابه أن يحفظ السنة التي تبينه وتفصله، فإن القرآن بحاجة إليهــا ومن حفظ الله - تعالى - دينه كي يعرفه الخلق الذين كلفهم الله به، ويحاسبهم عليه، أن يحفظ كتابه وسنة نبيه، فإن الدين بحاجة إليهما. لذلك كان من قدر الله - سبحانه - أن هيأ لسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء الأعلام الذين بذلوا في حفظ السنة ما لم يعرف له تاريخ العلوم والثقافات مثيلا من قبل ولا من بعد. وما كان ليتم لهم ذلك إلا بتوفيق من الله - تعالى - وهداية وتأييد. فقد ابتدعوا نظاماً لحفظ السنة، ومعرفة صحيحها بدرجاته، من الضعيف بدرجاته، من الموضوع. واخترعوا من الوسائل المعرفية والمناهج العلمية ما هو معجز في بابه، كل ذلك على غير مثال سابق لا عند العرب، ولا عند غير العرب ممن كانت لهم ثقافات وفلسفات، وكانت لهم أديان، وكانوا الأكثر حاجة إلى تمحيص مكتوباتهم وأسفارهم الدينية، ولكنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه علماء الإسلام ولا إلى قريب منه. وقد شهدت الأمم جميعها بأن علماء السنة قد أتوا في باب جمعها وتصنيفها، وتمييزها، ومعرفة الصحيح من الضعيف من الموضوع. ما لم تعرفه الأمم من قبل. والسؤال : هل كان هذا يمكن أن يتم دون توفيق من الله - سبحانه - وهداية ومعونة وإرشاد ؟ ..إنه توفيق الله - تعالى- لحفظ سنته الذي هو من حفظ كتابه، لحاجة الكتاب إلى السنة في بيانه وتفصيله، وحاجة دين الله الإسلام إلى الكتاب والسنة جميعاً.

        أما زعمهم بأن السنة أضحت خليطاً لا يعرف منها الصحيح من الموضوع ؛ فذلك كذب وافتراء بل تبجح ومكابرة، فإن أقل الناس ذكاء ومعرفة بالسنة تكفيه زيارة واحدة لإحدى المكتبات الحديثية التي تضم كتب السنة أو بعضها ليدرك - بعد تصفح لعناوين هذه المدونات وبعض ما فيها - أن الله - تعالى - حفظ سنة نبيه، وأن كتب الصحاح والسنن موجودة ينهل منها المسلمون الزاد النافع لهم في الدنيا والدين. رغم أنوف هؤلاء الكافرين - منكري السنة - أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء المسلمين.

المرفقات

أضف تعليقا