تواصل معنا

كيف يتم بناء الشبهات ؟ 2- القلوب الرقيقة وقسوة الابتلاء (مقالة)

الوصف

لا شك أن (رقة القلب) هي من الأشياء المحمودة في الإنسان – ذلك أنه يتصف بالشفقة واللين والانفعال لآلام الآخرين – وسواء كان هؤلاء الآخرين هم بشر أو حتى حيوانات – لكن المشكلة هنا هي في انقلاب الرقة إلى أكبر باب للتسخط على أقدار الله بل والطعن في رحمة الله تعالى نفسه وإلصاق شرور العالم والآلام والمعاناة به

مقالة

لا شك أن (رقة القلب) هي من الأشياء المحمودة في الإنسان – ذلك أنه يتصف بالشفقة واللين والانفعال لآلام الآخرين – وسواء كان هؤلاء الآخرين هم بشر أو حتى حيوانات – لكن المشكلة هنا هي في انقلاب الرقة إلى أكبر باب للتسخط على أقدار الله بل والطعن في رحمة الله تعالى نفسه وإلصاق شرور العالم والآلام والمعاناة به

 

لقد تحدثنا من قبل بشكل مختصر عن مشكلة الشر في العالم (ولا زلنا سنفرد لها كتابات كاملة بإذن الله) – وكذلك تحدثنا عن الفرق بين إرادتين لله تعالى – إرادة شرعية (أي التي يحبها عز وجل ويأمر بها) وإرادة كونية (أي التي يترك بها الفرصة لشرور العالم وشر الأشرار للظهور لكي يؤاخذ الناس على أعمالهم) وإلا :

كيف يقتضي كمال عدل الله أن يؤاخذ الأشرار بمجرد علمه النافذ ؟ ماذا لو قالوا له أنت عذبتنا دون أن نفعل شيئا ؟! ورغم أنهم لا يمثلون شيئا في ملكه عز وجل ولا يأبه لاعتراضهم – إلا أنه من كمال عدله سبحانه ألا يكون لأحد عليه حجة قبل عذابه أو اعتراض على نعيم وثواب الآخرين

 

ومن هنا : فنحن أمام نقطة من أكبر النقاط الفارقة بين الإيمان والإلحاد – بين الإيمان الذي ينظر إلى الأحداث بعينين : عين الدنيا وعين الآخرة (الثواب والعقاب والخلود) – وبين الإلحاد الذي ينظر بعين واحدة فقط إلى الدنيا (فلا يرى إلا الآلام والمعاناة والشرور) دون أن يرى ثوابا ولا عقابا أو يؤمن بهما !! ويا له من وضع بئيس لمَن كان هذا ظنه بعدل ورحمة الله !! بل : الأعجب أن نظرته تلك وتسخطه على الله لن يغير شيئا !! فلا الشرور توقفت ولا الألم والمعانة توقفوا – وإنما هو مَن خسر نفسه !!

 

إذن …

اصطناع الشبهات عزفا على وتر الابتلاء وإبراز الشرور التي في العالم والألم والمعاناة وخاصة للأطفال والضعفاء والمرضى إلخ : هو من أكبر أبواب الإلحاد – بل هو الباب العام الذي لا يتوقف على (نوعية معينة) من الضحايا للإلحاد – وذلك بعكس الشبهات الفلسفية مثلا أو الشبهات العلمية سواء فيزيائية أو تطور وبيولوجيا إلخ !!

هو الابتلاء الذي يستطيع أن يفهمه كل أحد – بل ويتأثر به أي أحد – من الطفل الصغير للإنسان الكبير

 

ولكن يبقى السؤال : هل يستطيع العلم أن يزيل ذلك المصدر للشبهات ؟ والإجابة بكل تأكيد : نعم .. كل علم بالله وكل علم نافع يستطيع بسهولة جدا إزالة هذه الشبهات بإذن الله إذا انصلح قلب صاحبها – وذلك ببيان الآتي (وهو ما سنفعله بالفعل في منشورات قادمة كثيرة) :

 

1- بيان الفرق بين معاني (الرحمة) و (الرأفة) بالنسبة لله تعالى – وما يقابلها من معاني (الرقة) و (الشفقة) في الإنسان – ولنأخذ مثالا سريعا لنعرف مدى اختلاف المعنى الحقيقي عما هو سائد بين الناس للأسف – حيث سنأخذ مثلا معنى (الرحمة) ونسأل : هل من معاني الرجمة ألا يصاب الإنسان بمكروه أبدا ؟ أم أن من معانيها هو وقوع المسرة والفوز والنجاة ولو أصابك قبلها بعض المكروه والألم ؟ والحقيقة أن المعنى الثاني هو الصواب – فالطبيب الذي يعالج المريض من دائه تماما ولو من بعد بعض الألم في العملية الجراحية ولو من دون بنج : فهو في الحقيقة قد (رحمه) !! والعكس صحيح – فهو لو أشفق عليه وتغلبت رقته على قلبه ولم يعرضه لألم العملية الجراحية فمات المريض : فهو بهذه الصورة قد أضره ولم يرحمه !! إذن : نحن بالفعل في حاجة للتعريف بمعاني بعض الكلمات والأوصاف لمن يجهلها – وماذا تعني بالنسبة لله – وماذا تعني بالنسبة للإنسان

 

2- بيان قصر وقت الدنيا – إذ مهما طال العذاب فيها (ولنتخيل مثلا شخصا يتعذب فيها منذ ولادته إلى مماته بعد 70 أو حتى 100 سنة) السؤال : كم يساوي هذا بالنسبة إلى معنى (الخلود) إلى الأبد في الجنة مثلا ؟ هل يساوي شيئا ؟!! وسبحان الله العظيم – إن الإنسان منا يكون في الظروف الصعبة أو في المرحلة الصعبة في حياته (مثل الدراسة في الثانوي أو الجامعة أو عمل شاق أو سجن ظلم أو عذاب أو حتى حمل الأم بجنينها إلخ) فيخيل إليه أن الوقت لا يتحرك أو أنه يمر ببطء شديد يكاد يفقد معه أمله في تجاوز هذا الأمر – ثم ما إن يمر وينتهي حتى يكاد ينظر إلى ما مر منه وكأنه كان وقتا قصيرا – إذنن : كل ما له نهاية : لا يعطي معنى للألم المستمر – وعليه : فالله تعالى وعد كل صاحب ألم ومعاناة في الدنيا ومع صبره واحتسابه بالثواب المفتوح يوم القيامة حتى أنه (وكما جاء في بعض الروايات الصحيحة) يتمنى أهل العافية يوم القيامة أن كانت جلودهم تقرض بالمقاريض في الدنيا : من سهولة ما يرون من حساب أهل البلاء !! هذا عن الحساب فماذا عن ثوابهم في الجنة في الخلود إلى الأبد ؟ ماذا عن الغمسة التي إذا غمسوا فيها في الجنة نسوا كل ما كان بهم من بلاء ؟! ولهذا نجد دوما أن صاحب الإيمان هو أقدر بأضعاف مضاعفة على تحمل الشدائد والمعانة ممَن فقد الدين وفقد بوصلته في الحياة فلم يعرف إلا طعم الألم – ولن يبقى معه إلا الألم للأسف الشديد

 

3-بيان ما في الإسلام من أوامر بالرحمة حتى بالحيوان – وهذا البيان مما يحرج أصحاب هذا التفكير وهم يحاولون تصوير الله عز وجل أو الإسلام وكأنهما مصدرا للشرور والألام والمعانة !! ووالله لولا الجهل المتفشي بين الشباب وأجيال الضياع بالتعليم والإعلام لما كانت وجدت مثل هذه الأفكار ولا الشبهات طريقا إلى مسلم

 

كيف وهو يقرأ في أحاديث رسول الله مثلا :

” إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم (يعني في الحرب أو في إقامة الحد ونحوه) فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم (أي الأنعام للأكل والأضحية ونحوه) فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته (أي يجعلها حادة لسرعة القتل)، وليرح ذبيحته”. رواه الإمام مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

فانظر كيف يأمر الإسلام بالإحسان حتى في القتل !! يعني لا تمثيل بالجثث ولا تعذيب ولا حتى الصبر إلى الموت (الصبر أي منع الإنسان أو الحيوان عن الطعام والشراب حتى الموت) !! فهل هناك دين أو أي نظام في العالم جاء بمثل ذلك ؟!

 

وكذلك عن رسول الله :

 

” لعن مَن اتخذ شيئاً فيه الروح غرضاً “. (أي قتله لمجرد اللعب بالرمي عليه بالنبال وغيرها)

 

وكذلك لما مر على حمار موسوم في وجهه (وهي علامة بالكي بالنار في الوجه لتمييزه) فقال :

 

” لعن الله الذي وسمه ” وذلك لأن الوجه من كل شيء (إنسان أو حيوان) هو عضو خاص لا يجب إهانته أو ألمه !!

 

وبالطبع الحديث الشهير الذي يذكرنا به صلى الله عليه وسلم :

 

“عُذبت امرأة في هرة (أي قطة) سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار؛ لا هي أطعمتها وسقتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”.

 

وقد روى أبو داود في سننه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة (وهي طائر صغير) معها فرخان، فأخذنا فرخيها (أي للاكل)، فجاءت الحمرة تعرش (أي ترفرف وتحوم) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : مَن فجع هذه بولدها ؟ ردوا ولدها إليها ورأى قرية نمل قد حرقناها، فقال: من حرق هذه ؟ قلنا: نحن . قال: إنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار “.

 

فإذا كان هذا في الحيوان والطير – فماذا عن تعذيب الإنسان ؟

 

روى الإمام مسلم في صحيحه عن هشام بن حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه مر بالشام على أناس من الأنباط (أي الفلاحين من عجم هذه المنطقة غير العرب)، وقد أقيموا في الشمس وصُب على رؤوسهم الزيت (أي لكي يغلي في حرارة الشمس فيحرق رؤوسهم كنوع من التعذيب)، فقال: ما هذا؟ قيل: يُعذبون في الخراج (وفي رواية: حُبسوا في الجزية). فقال هشام: “أشهد لسمعت رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول: إن اللَّه يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا” فدخل على الأمير فحدثه، فأمر بهم فخلوا (أي خلوا سبيلهم).

 

فكل هذه التعاليم من الإسلام لم تكن حبرا على ورق وإنما تعلمها المسلمون وعلمها بعضهم البعض وأبلغها مَن سمعها إلى مَن لم يسمعها – فلم تكن للشعارات الرنانة للأمم المتحدة والتي لا يعمل بها أحد ولا تمس أصحاب (الفيتو) الكبار في حروبهم ومعاملتهم (أمريكا وروسيا والصين وانجلترا وفرنسا) !!

والعجيب أنك ترى شخصا من هؤلاء (رقيقي القلب) وقد غلب تأثره العاطفي والنفسي على عقله فصار يردد الشبهات بلا حتى أدنى تفكير يقول :

انظر إلى جرائم المسلمين حول العالم ووحشيتهم – هذا هو الدين – ولذلك ألحدت !! في حين : أن المسلمين هم أكثر أهل الأرض تضررا وضحايا لوحشية غيرهم شرقا وغربا !! من الفلبين إلى روسيا إلى الصين إلى أندونيسيا إلى كشمير إلى بورما إلى أفغانستان إلى العراق إلى سوريا إلى وسط أفريقيا إلى الصومال إلى كوسوفو والقائمة تطول !!

والسؤال : إن أعمت عينه تلك الغشواة : فهل عمت عن عشرات ومئات القتلى يوميا بصواريخ وطائرات الغرب (المتحضر الراقي المتمدن) !!

إذن :

الغشاوة العاطفية والنفسية للأسف الشديد تفعل الأفاعيل والله المستعان

 

4- بيان أنه ليس من الحكمة للمسلم عموما (أو أي إنسان) ولأصحاب القلوب الرقيقة خصوصا : أن يتتبعوا أخبار القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث والمسلمين وغيرهم وتتبع تفاصيل ذلك والفيديوهات الأليمة إلخ – فهذا ليس من الحكمة بمكان ولا من العقل ولا المنطق إذ :

ماذا سيجنيه فاعل ذلك إلا الحزن القاتل ؟ أو التثبيط المقعد عن العمل أو الجهاد أو السعي ؟ أو أخيرا (وهذا المهم في موضوعنا هنا) : الفتنة في الدين والردة أو الإلحاد والعياذ بالله ؟!!

لأن أصحاب هذه القلوب الرقيقة لم ينتبهوا إلى وجود الفتن والابتلاء الشديد في القرآن للأنبياء والمؤمنين (وهم صفوة الله من خلقه) !! بل ولم ينتبهوا إلى سورة البروج وعذاب المؤمنين فيها الذي يحكيه الله عز وجل تحت سمعه وبصره !! ” النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود ” فظنوا بجهلهم أن النبوة أو الإيمان مانعين من القتل أو التعذيب (ولاحظوا كم مرة ذكر الله في القرآن قتل أنبيائه) !! ونسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :

” أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل ” !!

وإلا : فكيف سيكون لهم أعلى الدرجات في الجنة حيث ينسون كل آلام الحياة والدنيا وما فيها وما عليها بجوار ربهم الكريم ؟!

إذن :

ليس من الحكمة لأصحاب هذه القلوب (ولا لغيرهم) تتبع مثل هذه القصص والمشاهد للأسف – فقط يكفي العلم بها والإلمام بأحوالها – وانظروا يا رعاكم الله إلى حكمة رسول الله ورحمته وفهمه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح التالي في مسند الإمام أحمد وغيره عن عروة قال:

“أخبرني أبي الزبير رضي الله عنه أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى (أي تصل إليهم وتراهم) قال: فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم، فقال: “المرأة المرأة”. قال الزبير رضي الله عنه: فتوسمت أنها أمي صفية (وهي عمة النبي وأخت حمزة رضي الله عنهما)، فخرجت أسعى إليها فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى” !!

فانظر كيف منعها من رؤية القتلى

إن بعض المشاهد تنطبع في النفس والذاكرة فلا تمحوها الأيام ولا تورث إلا القهر والحزن المتواصل للأسف – إذن :

الإسلام دين واقعي – دين عملي – ليس فيه مثالية زائفة – وليس فيه جمود وبرود يكبت النفس – ولكن فيه ابتعاد عن التقصير أو الغلو

 

وفي النهاية :

هذا كان عرض سريع لهذه النقطة الهامة (والتي سوف نتوسع فيها لاحقا أيضا كما قلنا) فتابعونا….

المرفقات

التصنيفات العلمية

أضف تعليقا