تواصل معنا

الأدلة المبسطة في نقد السفسطة (مقالة)

الوصف

إنَّ لِنزعة السفسطة في المجتمعات شرَّةً وفترةً، وأمَّا في عصرنا فنحن أقرب إلى شرته من فترته؛ ولهذا أصبح من مهام المؤمنين بالحقائق أنْ يتصدوا لهذه النزعة، ويسلِّطون الضوء على مشكلاتها ومآلاتها الفاسدة؛ حتى تفتُرَ، وتعودَ البشرية إلى فطرتها السليمة.

مقالة

بسم الله الرحمن الرحيم

إنَّ لِنزعة السفسطة في المجتمعات شرَّةً وفترةً، وأمَّا في عصرنا فنحن أقرب إلى شرته من فترته؛ ولهذا أصبح من مهام المؤمنين بالحقائق أنْ يتصدوا لهذه النزعة، ويسلِّطون الضوء على مشكلاتها ومآلاتها الفاسدة؛ حتى تفتُرَ، وتعودَ البشرية إلى فطرتها السليمة.

ما هي السفسطة ؟ 

تُعرّف السفسطة على أنَّها “مذهبٌ يونانيٌّ فلسفيٌّ، يقوم على نفي الحقائق، أو الشك فيها، أو كونها تابعةً للاعتقاد.”[١] أو “صنفٌ من الناس نَفوا الحقائق جملةً أو شَكوا فيها أو قالوا : هي حقٌ عند من هي عنده حق، وهي باطلٌ عند من هي عنده باطل”.[٢]
وقد يقسِّمهم البعض إلى ثلاثِ فِرقٍ: الأولى اللاأدرية: وهم من يشكون في كل شيء، والثانية العنادية: الذين يزعمون أنَّه لا موجود أصلاً، والثالثة العندية: وهم الذين يقولون: إنَّ حقائق الأشياء تابعة للاعتقاد، فمذهب كل طائفة حق بالنظر إليهم، وليس في نفس الأمر شيء بحق[٣]
ظهرت نزعة الشك في القرن الخامس قبل الميلاد على يد مجموعة من اليونانيين يُطلقُ عليهم “السفسطائيون” (sophists)، وقد أسهمَ في ظهور نزعة الشك هذه عواملٌ؛ منها الاختلافُ الكبيرُ بين الفلاسفة حول أصول الوجود وماهيته؛ فتحوَّلت أنظارُهم نتيجةَ هذه الاختلافات إلى الذات بدلاً من العالم الخارجي. وكان لديهم – أي السفسطائيون- المقدرةُ على تأييد الرأي ونقيضِه؛ ومنها العاملُ الاجتماعيُّ المتمثِّلُ في احتكاك الأثينيين مع الشعوب المجاورة لهم وتعرُّفهم على تقاليدٍ وآراءَ وقوانينَ مُغايرةٍ لِما هم عليه؛ مِمَّا جعلهم يتساءلون مَن الذي يملك الصواب؟ ومَن هو صاحب الحقِّ؟ فكانت النتيجة أنْ نَفَوا إمكانَ الوصول إلى الحقيقة؛ فانتشر بذلك الشَّكُ واتَّخذ أنماطًا وصورًا متعددة.[٤] ومن السِّمات المشتركة بين المُسَفْسِطَةِ جميعًا: إنكارُ البدهيات، خصوصًا في مجال المعرفة البشرية؛ فمنهم من قد يشك في المحسوسات، ومنهم من قد يشك في المعقولات، ومنهم من يشك في كلاهما أو في أكثر مصادر المعرفة.

السفسطة في التاريخ الإسلاميِّ: 

كان في التاريخ الإسلامي بعضُ النَمَاذج لهذه النزعة كما هو مشهور في حال بعض المتكلمين كالغزالي – رحمه الله -، فقد روى عن نفسه قائلاً ” فأقبلت بِجِد بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات، وأنظر: هل يمكنني أن أُشَكِّك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذ يتسع الشك فيها {..} [٥] وانتهى به الأمرُ إلى التشكيك في المحسوسات والمعقولات معًا. لكنَّ السفسطة المعاصرة التي أقصدها هنا ليست هي تمامًا كالحالة التي مرَّ بها الغزالي. فإنَّ الغزالي مرَّ بما يمكن أن نُسميه السفسطة العَمَلية أو الحالية، وليست سفسطة نظرية كما يكثُر انتشارها اليوم. هذا الفارقُ مهمٌ، وقد ذكره الغزالي قائلًا: ” فأعضل هذا الداء، ودام قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم المقال[٦] .

 

مغالطات سفسطية معاصرة : 

انتشر في العصور الأخيرة التقليلُ من شأن العقل في الحضارة الغربية عمومًا، وفيما يخص مجال الإلهيات خصوصًا، ومالت كفَّةُ الثقة على الحواس والتجربة، وانعكس التفريطُ في المعقولات على الإفراط في يقينية التجريبيات، ولن أدخلَ في تفاصيل الخطأ في هذا المذهب والمُسمَّى بالعِلموية، ولكنَّه مبحثٌ مهمٌ يَبحثُ في فلسفة العلوم التجريبية وتأريخها. إنَّالإفراط في يقينية المنهج التجريبي يدل على أنَّنَا لا نتحدث عن سفاسطةٍ حقيقيين يُنكِرون إمكان المعرفة بإطلاق، وإنَّما نتحدث عن ثقافةٍ تُشَغّب على كلِّ ما قد يَنتُج عَنه إيمانٌ بالغيب أو الأديان عمومًا.

فالعقل، كمصدرٍ معرفي وآداة اكتشاف، هي الحَجَر الأساس الذي ينبني عليه أي استنتاجٍ، سواءٍ كان تجريبيًا أم لم يكن. كما أنَّه المُنَظّمُ الأهمُّ في جميع المعاملات الإنسانية، وهو مناطُ التكليف عند أهل الفقه كما هو معلوم.

إنَّ من يستقرئ المغالطات المنتشرة في المشهد الحِواري العام يَتَنَبَّه إلى الكثير من الاشتراك والتشابه بينها، وجمعتُ مِن تِلك المغالطات ثلاثة، أزعمُ أنَّها أكثرهم انتشارًا، ونحاول أنْ نسلِّطَ الضوء على الإشكالات المنهجية المُتَضَمِنَة فيهم :

المغالطةُ الأولى: التفريقُ بين المتماثلات: والمقصود بهذه المغالطة هي الحُكم على شيئين متماثلين في طبيعتهما بِحُكمين مختلفين، مثالُ ذلك: من يقول إنَّه يؤمن بنتائج التجربة دون نتائج العقل، فنقول له: إنَّ العلم التجريبي لا يقوم إلا على بعض الأصول العقلية كالاستنباط والاستقراء والقياس، والتشكيك فيه يؤدي من باب أوْلَى إلى التشكيك في المنهج التجريبي كَكُل وهذا تناقض منهجي بيّن.

المغالطة الثانية: المُشاحَة في الأمثلة: هناك قاعدة مشهورة تقول “لا مُشاحة في الاصطلاح” أي لا شِجار في مُصطلحات الأشياء ما دام النَّاسُ مُتَّفِقين على نفس المعنى المقصود. وكذلك لا يَصِح المُشاحة في الأمثلة التَقريبية التي يُقصَد مِنها تقريب المفهوم للمحاور. مثلًا: يُستخدم كثيرًا مِثالُ الشُرطي والسَّجين المشهور؛ لتوضيح فكرةِ استحالة تَسلسُل الفاعلين، وأنَّ العَقل لا يتَصوَّر أنَّ الشرطي سيطلقُ الرصاصةَ على السجين دون أن يكون هناك صاحبُ قرارٍ أوَّل لا يحتاج الاستِئذانَ؛ لإطلاق الرصاصة، وبَغَّض النَّظَر عن مسألة التسلسل، لا يَصِح إنكارُ المثال والتشغيبُ حوله بالسُّؤال عن سبب سِجن المَسجون في المِثال أو سبب احتياج الشرطي للاستئذان قبل إطلاق النار، فإنَّ هذه الأسئلة خارجة عن موضوع البحث، ولن تُغيِّرَ الإجاباتُ شيئًا -مهما كانت- في صحةِ المثالِ التقريبي.

المغالطة الثالثة: الخلطُ بين الإمكان الذهني والإمكان الخارجي:
مِن أكثر ما يُشَّغِّب به سَفاسِطةُ العصر: الاستدلالُ بالاحتمالات الذهنية المجردة على عدم يقينية البدهيات، فيُقال: أليسَ هُناك احتمالٌ -ولو ضئيل- بأنَّنا نعيش في داخل عالم افتراضي لا حقيقة له كما في فيلم the matrix ؟ أوليس هناك احتمالٌ-ولو ضئيل- أنَّنا لا نملك حريةَ الإرادة؟ ثم تتسع وتتضخم هذه الفكرة – وإن بَدَت ساذِجة في أول الأمر- إلى خارج نطاق الأفكار وإلى حَيِّز الاعتقاد بالإمكان الخارجي حقًا، وهنا يَحصُل اللَّبس، فإنَّ الإمكان الذهني هو مجرد عدم العلم باستحالة الفكرة عقلًا، لكنَّ الفكرة لا ترتقي إلى الإمكان الخارجي – أي إمكان الوجود في الحقيقة – إلا بدليلٍ يَدلُّ عليها أو يَدل على ما يُشبهها. ولو كان هذا كافيًا للتشكيك في البدهيات، وخشية أن تكون وهميةً؛ لثبت القدح في عامة البدهيات، وطُوِيَ بساطُالعقل وحقَّتْ السفسطة[٧]والصحيحُ هو التعامل مع الأشياء بالبديهة والفطرة، وألَّا يتزحزح الجَزم بمجرد الإمكان الذهني، بل يُرَدُّ ما هو مشكوك فيه إلى ما هو مجزوم به فطريًا ولا تُتْرك البديهة إلا بدليلٍ أقوى منها عملًا بحديث (دَع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك[٨]).

 

السفسطة وقوة الفطرة:

هناك بعضُ القصص الطريفة التي يَرِد فيها مثل هذا الإشكال، ومَن تأملها يتبيَّن له أنّ الرُجوع إلى العامل الفطري والتّمسك به هو السَّبيل الأكثر ضمانًا؛ للخروج من هذا المأزق الفكري. فقد رُوِيَ أنّ بيرون (٢٧٠ ق.م.) – وهو أحد مؤسِسِي النّزعة السُفسطائية – اضْطَر ذات يومٍ إلى الهربِ من كلبٍ يلاحقه، فأخذ يركض وهو يقول: ” ما أصعب التخلص من الطبع”[٩]

 وذكر محمد بن عيسى النّظام “مات ابنٌ لِصالح بن عبد القدوس، فمضى إليه أبو الهذيل ومعه النّظام، وهو غلام حدث، كالمتوجع له، فرآه منحرفًا فقال له أبو الهذيل: لا أعرف لجزعك وجهًا إذا كان الناس عندك كالزرع؟ فقال له صالح : يا أبا الهذيل، إنما أجزع عليه لأنه لم يقرأ كتاب الشُّكوك، فقال أبو الهُذيل: وما كتاب الشكوك ؟ قال : هو كتاب وضعته من قرأه يَشُك فيما قد كان حتى يتوهم أنه لم يكن، وفيما لم يكن حتى يظن أنه قد كان، فقال له النّظام : فشُك أنت في موت ابنك، واعمل على أنه لم يمت، وإن كان قد مات فشُك أيضاً في أنه قد قرأ الكتاب، وإن كان لم يقرأه[١٠].

 وحكى أبو القاسم البخلي “أنَّ رجلًا من السفسطائية كان يختلف إلى بعض المتكلمين ،فآتاه مرة فناظره، فأمر المتكلم بأخذ دابته، فلما خرج لم يرها، فرجع، فقال : سُرقت دابتي، فقال: ويحك! لعلك لم تأت راكباً، قال بلى، قال: فَكِّر، قال: هذا أمر أتَيقّنه، فجعل يقول له : تَذكر!، فقال: ويحك! ويحك! ما هذا موضع تذكر، أنا لا أشُّك أنني جئت راكبًا!، قال: فكيف تدَّعي أنه لا حقيقة لشيءٍ، وأن حال اليقظان كحال النائم؟! فوجم السفسطائي ورجع عن مذهبه”[١١].

كيفية التعامل مع السفسطة: 

اختلفت مواقف الفلاسفة والعلماء في المنهجية الصحيحة في التعامل مع السفسطائيين، ورجعت إلى ثلاثةِ طُرقٍ أساسية؛ منهم من ذهب إلى أنّهم يُترَكوا ولا يُنَاقَشوا ولا يُجَادَلوا؛ لأن النقاش والجدل المفيد لا يقوم إلّا على أصول مُسّلمة بين المُتحاورين، وعلى الإيمان بوجود حقائقٍ يمكن الوصول إليها. ومنهم من اختار وجوب الدخول مع الشّكاك في النقاش والجدل، وقرروا أن إبطالَ مذهبهم والكشفَ عن ما فيه من مخالفاتٍ منطقية مُمكنٌ بالطرقِ العلمية والجدلية الصحيحة. ومنهم من أشار إلى أنه ينبغي أن يُعاقبوا بقطع الجوارح والضرب المبرِّح ومنع الطعام والشراب، فإذا استغاثوا وضجروا وطلبوا الطعام والشراب، قيل لهم: لا حقيقة للقطع والضرب ولا للجوع ولا للعطش، وإنَّما ذلك كله حسبانٌ منكم وظنٌ، وهو في الحقيقة إيصالٌ للراحة إليكم وإنعام عليكم[١٢]. والصحيحُ عندي هو معاملة كلِّ إنسانٍ بحسب حالته، فإن ظُنّ في المخالف خيرٌ فليُبَيَّن له أخطاءه المنهجية بالدليل والاستشارة، وأمَّا إن كان يشغّب ويجادل من أجل الجدال -وهم كُثُر- فيُترك أو يُعاقب.

فساد السفسطة عقلًا:

 

أمَّا فيما يتعلق بالطُّرُق العقلية للكشف عن الخلل المنطقي في الموقف السفسطائي فله أساليب عِدّة، سنكتفي هنا بذكر أهمها.
يَردُّ ابنُ حزم على شُبهات السفسطائية رَدًا جامعًا مانعًا فيقول: يكفي مِن الرّد عليهم أن يُقال لهم “قولكم إنه لا حقيقة للأشياء” أحقٌ هو أم باطل؟ فإن قالوا “هو حق” أثبتوا حقيقة ما، وإن قالوا “ليس هو حقاً”، أقروا ببطلان قولهم، وكفوا خصومهم أمرهم[١٣]وإن قالوا “لا ندري أهو حق أم باطل”، قيل لهم: وهل تدرون أنكم لا تدرون؟! فإن قالوا “لا ندري”، أعيد عليهم السؤال، حتى يصلوا إلى أمور بينة بنفسها أو يقعوا في التسلسل الممتنع[١٤]. أو يقال لهم أشَكُّكُم موجودٌ صحيحٌ منكم أم غير صحيح ولا موجود؟ فإن قالوا: هو موجود صحيح منا أثبتوا أيضًا حقيقة ما، وإن قالوا: غير موجود،نَفَوا الشكّـ وأبطلوه. وفي إبطالِ الشك إثباتُ الحقائق أو القطع على إبطالها[١٥].

أمَّا من يقول بنسبية الحقيقة، أي أنَّ الحقيقة حقٌ عند من هي عنده حق، وهي باطلٌ عند من هي عنده باطل، يُقال له: إنّ الشيء لا يكون حقًا باعتقاد من اعتقد أنّه حق، كما أنه لا يَبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل. وإنما يكون الشيء حقًا بكونه موجودًا ثابتًا، سواءً اعتقد أنَّه حقٌ أو اعتقد أنَّ باطلٌ. ولو كان غير هذا لكان معدومًا موجودًا في حال واحدة في ذاته. وهذا عين المحال. (.. ) مع أنَّ هذه الأقوال لا سبيلَ إلى أن يعتقدها ذو عقلٍ البتّة، إذ حِسّه يَشهَد بخلافها، وإنَّما يُمكن أن يلجأ إليها بعض المُتَنَطِّعين[١٦] على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق[١٧].

وبهذا يتبين لنا أن السفسطةَ كمذهبٍ نظري ساقطٌ عقلًا وحِسًا وفِطرةً، وأنَّ كل مقولاته ذاتية التدمير، تُدَّمر نفسها بنفسها، وأنَّها بوابةٌ للسفسطة العَمَلية التي قد تؤدي إلى حالةٍ مَرَضيةٍ حقيقيةٍ -كما حصل مع الغزالي- يحتاج فيها استشارةَ  أهل الاختصاص من الأطباء وعلماء النفس. وأنَّ الحفاظ على سلامة الفِطرة هو طَوقُ النجاة الآمن. والله أعلم.

المرفقات

التصنيفات العلمية

المصدر

أضف تعليقا