تأليف
الوصف
العقلُ صاحبُ الشغبِ والشجارات؛ تارةً يتشاجرُ مع القلبِ فيودي به بضربةٍ قاضيةٍ، وتارةً مع العلمِ فيغلبه العلمُ حينًا ويغلبُ العلمَ حينًا.
مقالة
العقلُ صاحبُ الشغبِ والشجارات؛ تارةً يتشاجرُ مع القلبِ فيودي به بضربةٍ قاضيةٍ، وتارةً مع العلمِ فيغلبه العلمُ حينًا ويغلبُ العلمَ حينًا.
لكنَّه اليومَ اختارَ أنْ يناطحَ قمةً عاليةً، تشملُه وتشملُ منافسيه الذين يفتخرُ عليهم، تحتويهم جميعًا؛ إنَّها الحياةُ بكلِّ ما تحمله من دقائقَ وأسرار.
وقفَ العقلُ في أبهةٍ وافتخارٍ مخاطبًا الحياة: أتدرين؟ أنت مهمةٌ حقًا، كلُّ شيءٍ هنا يحمل نفحةً منكِ، ولا تدبُّ على الأرضِ دابةٌ إلا بنفسِ الحياة فيها، لكنْ ويا للأسف لستِ أنتِ مَن تعطينَ لأحياء قيمتَهم إنّه أنا وأنا فقط من أفعلُ؛ فأنا من أهبُ للأحياء قيمتَهم وأعلِي مكانتَهم، منبعُ الحكمةِ ومناطُ التكليفِ لا قيمةَ لحيٍّ بلا عقل، أنهَى كلامَه رافعًا هامتَه للسماء وقد امتلأ تيهًا.
ربتتِ الحياةُ على كتفِه بحنوٍ قائلةً: كُفَّ عن الغرورِ يا قليلَ الحجمِ وكثيرَ الجدالِ، ما مِن دابةٍ تدبُّ على الأرضِ إلا ولها قيمتُها، لكنَّ الغرورَ يحجبُ عنكَ كاملَ الرؤيةِ كالعادةِ، ثمَّ ألا ترى مِن أصحابِ العقولِ مَن كان عقلُه سببًا في هلكتِه بل أين كانتْ عقولُ المشركينَ حينَ أشركوا وعقولُ الملحدينَ حين ألحدوا؟!، ومَن ساقَه عقلُه لأفعالٍ لا ترضَى بها الحيواناتُ الذين تتعالى عليهم.
ثمَّ قالتْ بحكمةِ الخبيرِ: أنت فقيرٌ جدًا بمفردك، أنت بدون الهدايةِ عضوٌ موضوعٌ في جسدٍ يعيشُ لهواه وشهوته، ثمَّ يموتُ فلا يدري في أيِّ وُديانِ الدنيا هلك!
قطبَ العقلُ جبينَه في دهشةٍ ولم ينطق لكنَّه حدَّث نفسه: حتى إن لم أكن سببًا وحيدًا يمنعُ صاحبَه من الضياعِ فأنا خُلقتُ لنفسِ الغاية، قالتِ الحياةُ ساخرةً: لن تعترفَ بهزيمتي لك هذا مؤكدٌ، ردَّ العقلُ بهدوءٍ: بل سأعترفُ .. لكن أتعلمين؟ ينطبقُ عليكِ نفسُ الشيءِ أيضًا، ردَّتْ بدورِها: نعم .. ولكن أنا موقنةٌ بذلك منذُ وُجِدتُ ولنْ أندهشَ الآنَ مثلَك، سأمضي الآن ونلتقي لاحقًا بعد أن تستفيقِ من دهشتِك..
تقدِّمُ الفطرةُ للإنسانِ طريقًا واضحًا وحدسًا لا يخيبُ، يجده دائمًا يصدحُ بداخلِه كمنادٍ، إذا جدَّ الجدُّ واحتدمَ الخطرُ لا ينادي سوى مولاه وخالقه، عندئذٍ تبدو صورةُ العبدِ المتذللِ لخالقِه واضحةً جليةً، لكنَّها سرعان ما تخبو وتغطِّيها سحبُ الشهوات، ويلقي بها العقلُ في التيهِ إذا تسلَّمَ زمامَ السلطةِ ويعودُ شعورُ الضياعِ من جديد ..
ولهذا السببِ فالبشريةُ منذ مراحلِها البدائية تركضُ لاهثةً باحثةً عن منهجٍ يحميها من هذا الشعورِ المريرِ، تضعُ الخططَ و تعيدُ ترتيبَ الخطواتِ من جديدٍ علَّها تجدُ إجابةً شافيةً للأسئلةِ الكبرى التي لا تكفُّ عن الدورانِ في فلكِ العقلِ بلا إجابةٍ تاركة الروحَ ظمأى والقلبَ في شقاءٍ، عصورٌ طويلةٌ مرَّت لم يكفّ الإنسانُ فيها عن البحثِ، ما الطريقةُ الصحيحةُ لحياةٍ يقنعُ بها العقلُ وتطيبُ بها الروحُ ويهنأ القلبُ؟
فلاسفةٌ وحكماءُ ألَّفوا الكتبَ الضخامَ المليئةَ بما لا يقلُّ عنها ضخامةٌ من كلماتٍ ومفاهيمَ، دياناتٌ وضعها البشرُ لأنفسِهم، تحرِّمُ وتحلِّلُ وتعطي وتمنعُ ظنًا منها أنَّه الطريقُ القويمُ، لكنَّ الذي خلقَنا وأنعمَ علينا بنعمةِ الحياةِ حاشاه أنْ يتركَنا نضيعُها في البحثِ ثم لا نصلُ إلا إلى السرابِ، بل أعطانا الفطرةَ والعقلَ والإرادة ثم أرسلَ لنا الرسلَ تدلُّنا على الطريقِ الذي إذا اتبعناه وجدنا في جوهره الفطرةَ وانتهت حيرةُ العقلِ وأُجيبت أسئلته وأَعملتِ الإرادةُ فيه منتهى طاقتِها لتصلَ للنهايةِ الصحيحةِ، يقولُ سبحانه:{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا تُرجعون (١١٥) فَتَعَلَى الله المَلِكُ الحق لا إله إلّا هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ} [سورة المؤمنون ١١٥ – ١١٦]
فالذي جاءت به الرسلُ وقدَّمته الأديانُ هو المنهجُ ولا شيء غيره .
خلقَ اللهُ الإنسانَ وأعطاه مع العقلِ نعمًا جليلةً أخرى، فالحياةُ في ذاتها نعمةٌ والإرادةُ نعمةٌ، وهي التي ترفعُ الإنسانَ لمرتبةٍ فوقَ مرتبةِ الملائكةِ إذ أنَّه فاعلٌ مخيرٌ ذو ضميرٍ يختارُ بإرادتِه أنْ يفعلَ الخيرَ أو الشرَ، وأعطاه الطبيعةَ بكلِّ ما تحويه من عناصرَ ومخلوقاتٍ مسخرةٍ لخدمتِه مُفسحةً المجالَ أمامه؛ لكي يقومَ بالدورِ المنوطِ به من عبادةِ اللهِ وتنفيذِ مرادِه بالسعي والتغييرِ اللازمِ لها؛ حتى تصلَ إلى النموذجِ الأسمى للحياةِ البشريةِ، والذي لا يعني الاكتمالَ بقدرِ ما يعني أنْ يؤدي كلُّ فرد دورَه المطلوبَ منه قدرَ استطاعتِه، يقول سبحانه:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}[سورة الكهف:٧]
وقد جاءتِ الأديانُ السماويةُ الثلاثُ الكبرى برسالاتٍ وشرائعَ وتعاليمَ تتضمنُ هذه المعاني، غير أنَّ تحريفًا قد أصابَ اثنينِ منها؛ وهي المسيحيةُ و اليهوديةُ فحادتْ عن الطريقِ وأثمرتْ تفاعلًا تطرَّفَ بكلٍّ منها باتجاهٍ عكس الأخرى..
جاءت اليهوديةُ بدينٍ يمثلُ في جوهرِه الفطرةَ كما هو حالُ كلِّ الأديانِ السماويةِ، فالتوحيدُ هو مبتدَؤها وهدفُها إلا أنَّ ما تغيَّر بعد ذلك كانَ في سير الأتباعِ في دينِهم ودنياهم على المنهجِ الذي أرادَه اللهُ لهم، فبعدَ تحريفِ نصوصِ التوراةِ أُفرِغتِ الشريعةُ من روحِها وأهدافِها السامية، فأصبحتْ مجردَ نصوصٍ يفضِّلُ بها اليهودُ أنفسَهم عن سائرِ البشرِ، لا لمزيدِ عبادةٍ ولا لفعلِ خيرٍ، بل لأنَّهم وُلِدوا يهودًا فحسب، فهم أبناءُ اللهِ وأحباؤه كما يظنون أنفسَهم، وكما حكى القرآنُ عنهم وعن غرورِهم الذي أعماهم عن اتباع الحقِّ حتى أصبحتِ المغالاةُ في المظاهرِ دون تمسكٍ حقيقيٍّ بقيمِ الشريعةِ سمةً سائدةً لدي اليهود، يقول سبحانه {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }[المائدة (١٨)].
والحياةُ الدنيا في العقيدةِ اليهوديةِ المحرفةِ هي منتهى الآمالِ التي يسعون إليها إذ لا وجودَ حقيقيّ مؤثرٌ للدارِ الآخرةِ في فلسفتِهم فمَن يعمل خيرًا يُجازَى عليه في الدنيا جزاءً ماديًا يتمثلُ في كثرةِ الزروعِ والنعمِ والأولادِ، ومن يسئ العملَ فعقابُه هلاكُ الحرثِ والنسلِ وموتِ الزرعِ والماشيةِ.
وهكذا انحرفتْ بوصلةُ الحياةِ بهم إلى وجهةٍ مغرقةٍ في الماديةِ: ( إِذَا سَمِعْتَ لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. مُبَارَكًا تَكُونُ فِي الْمَدِينَةِ، وَمُبَارَكًا تَكُونُ فِي الْحَقْلِ. وَمُبَارَكَةً تَكُونُ ثَمَرَةُ بَطْنِكَ وَثَمَرَةُ أَرْضِكَ وَثَمَرَةُ بَهَائِمِكَ، نِتَاجُ بَقَرِكَ وَإِنَاثُ غَنَمِك. مُبَارَكَةً تَكُونُ سَلَّتُكَ وَمِعْجَنُكَ) ، ( «وَلكِنْ إِنْ لَمْ تَسْمَعْ لِصَوْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ لِتَحْرِصَ أَنْ تَعْمَلَ بِجَمِيعِ وَصَايَاهُ وَفَرَائِضِهِ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ، تَأْتِي عَلَيْكَ جَمِيعُ هذِهِ اللَّعَنَاتِ وَتُدْرِكُكَ. مَلْعُونًا تَكُونُ فِي الْمَدِينَةِ وَمَلْعُونًا تَكُونُ فِي الْحَقْلِ. مَلْعُونَةً تَكُونُ سَلَّتُكَ وَمِعْجَنُكَ. مَلْعُونَةً تَكُونُ ثَمَرَةُ بَطْنِكَ وَثَمَرَةُ أَرْضِكَ، نِتَاجُ بَقَرِكَ وَإِنَاثُ غَنَمِكَ). سفر التثنية ،الإصحاح (28)
فغايةُ الحياةِ عندهم أنَّهم مفضَلونَ مرفوعونَ فوق سائرِ الخلقِ؛ لأنهم شعبُ اللهِ المختارِ، يعيشُ الواحدُ منهم من أجلِ دنياه فحسب، ومهما فعلَ من خطايا فهو ناجٍ في النهاية وداخلٌ في مملكةِ الربِّ التي هي لليهودِ دونَ غيرِهم، والتي سيحيا فيها اليهودُ منعمينَ للأبدِ، وعليهم في سبيلِ ذلك أن يحيوا من أجلِ الحفاظِ على نسلِهم وعدمُ السماحِ لأيٍّ من البشرِ بالدخولِ في ديانتِهم إلا في نطاقٍ ضيقٍ، وقد تخلوا في سبيلِ ذلك عن كلِّ معاني الشرفِ والمروءةِ والشجاعةِ، وصارَ مقياسُ الخيرِ والشرِ لديهم متعلقًا بالنفعِ أو الضرر الذي يُلحقه أحدُهم ببني جنسِه من اليهودِ، حتى أنَّهم قد سولتْ لهم أنفسُهم بتشويهِ صورِ الأنبياءِ عليهم السلام وأبنائِهم وتصويرِهم في أحطِ الصورِ فقط من أجل مسالةِ الحفاظِ على الذريةِ اليهوديةِ؛ ففي سفرِ التكوينِ الإصحاحُ التاسع عشر وردَ حوارٌ بينَ ابنتي لوطٍ ذُكر فيه : (هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلًا) ..
ومملكةُ الربِّ عند اليهودِ ليستْ مرادفًا للدارِ الآخرةِ بل هي عالمٌ دنيويٌ لا يشقى فيه اليهودُ وتكونُ لهمُ الرفعةُ والغلبةُ ..
ولم يرد ذكرُ الجنةِ والنارِ والثوابِ الآخروي في كتبِهم إلا في العصورِ التي شهدتْ ذلَهم وزوالَ سلطانِهم، والجنةُ لديهم مقتصرةٌ على اليهودِ وذرياتِهم، أمَّا باقي الأجناسِ والشعوبِ فهم مطرودونَ منها ..
ولهذا لم تحقق اليهوديةُ لأتباعِها الغايةَ التي من أجلِها خَلقَ اللهُ الانسانَ، فهم عزلوا أنفسَهم عن الناسِ، واعتمدوا وسائلَ غيرَ شريفةٍ للوصولِ إلى غاياتٍ وضعوها لأنفسهم إذ لا وجودَ في الحقيقةِ لمكانةٍ استثنائيةٍ لليهودِ عندَ اللهِ سبحانه انطلاقًا من جنسِهم أو عرقِهم.
جاءت بعد ذلك المسيحيةُ لتصححَ تلك البوصلةَ المعوجةَ، فكانت رسالةُ المسيحِ عيسى عليه السلام لتؤصِّل لمبادئ؛ كالإخلاص وصدقِ النيةِ وحبِّ الخيرِ للناسِ والمساواةِ بين البشرِ جميعًا، كان من المتوقعِ أن تصلحَ ما فسدَ من عقائدِ الناسِ في وقتِها وخصوصًا أنّها جاءت في وقتٍ كانت قد اشتهرت فيه الفلسفةُ الإغريقيةُ التي تقدِّسُ الإنسانَ بفضائلِه ورذائله وصفاتِه كلِّها سيئها وحسنِها ولكن للأسفِ ذهبَ بها أتباعُها إلى طرفٍ نقيضٍ من هذا تمامًا فبدلًا من الاعتدال انقلبَ الأمرُ إلىشططٍ ومبالغةٍ حيث جاءت عقيدةُ الصلبِ لكي توصمَ الإنسانُ بالخطيئةِ وصمًا مؤبدًا، فجعلت الإنسانَ حاملًا لخطيئةِ أبيه آدم.
وقسمت حياةَ الإنسانِ على الأرضِ لقسمين؛ قسمٍ اتسمَ فيه الإنسانُ بالفطرةِ الإلهيةِ قبل خطيئةِ آدم، وعهدٍ آخر بعد الخطيئةِ حيث أصبحَ الإنسانُ يُولدُ من بطنِ أمهِ مذنبًا حاملًا لذنبٍ لم يفعله بل ولا يستطيعُ بنفسِه تطهيرَ نفسِه، ولا بدَّ من فداء يقومُ به الإلهُ (جل شأنه)، (إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ . مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ .الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ) (رسالة بولس الى اهل رومية الاصحاح الثالث) ..
وبهذه النظرةِ لم يسرِ الإنسانُ في الأرضِ معمِّرًا ومغيِّرًا بل أصبحَ ناقصَ الإرادةِ ومخطئًا لا يستطيعُ تخليصَ نفسِه (أَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدُهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدُهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ. فَإِنْ كُنْتُ مَا لَسْتُ أُرِيدُهُ إِيَّاهُ أَفْعَلُ، فَلَسْتُ بَعْدُ أَفْعَلُهُ أَنَا، بَلِ الْخَطِيَّةُ السَّاكِنَةُ فِيَّ.) ( رسالة بولس الى اهل رومية الاصحاح السابع) ، وأصبحت الدنيا في نظرِهم مكانًا ملوثًا بالخطيئةِ، تُرفضُ فيه كلُّ أنشطةِ الحياةٌ و يُزهدُ فيها على نحوٍ يعطلُ طاقةَ الإنسانِ ولا يضعُ اعتبارًا ولا أهميةً لأيِّ دورٍ دنيويِّ يمكن أن يقومَ به الفردُ لنفسِه أو لمجتمعِه..
وكعقيدةِ اليهودِ تقومُ العلاقةُ بينَ الإنسانِ وربِّه على علاقةِ وعدٍ فيه اصطفاءٌ للمسيحينَ ومَن يتبعُهم، والوعدُ يتمثلُ في حبِه سبحانه لهم والتقدمِ للفداءِ (جل شأنه) من أجلِهم على نحوٍ عاطفيٍّ محضٍ ..
وصارت غايةُ الإنسانِ في دنياه أن يسيرَ بانتظارِ عهدِ الخلاصِ وهو العالمُ المغايرُ لدنيانا هذه والذي يسودُه الخيرُالأسمى ولا وجودَ للشرِ فيه..
وبالطبعِ لا يتساوى البشرُ في العقيدةِ المسيحيةِ بل تعطي لأتباعِها الفضلَ كما لدى اليهودِ، والذي لا يتطلبُ عملًا صالحًا ولا مزيدَ تقوى، فهم حتى القدرة على تطهيرِ أنفسِهم من الذنوبِ مسلوبةٌ منهم بل هو يتمثلُ في ناموسٍ إلهيٍّ يفوزُ به الأتباعُ بمجردِ تعميدِهم فحسب .
وما بعد العالمِ الدنيويّ في المسيحيةِ عالمٌ آخرٌ يسودُه الخيرُ المطلقُ، أمَّا الدنيا فهي صراعٌ مؤقتٌ بين الشيطانِ وقيصروالجسدِ؛ فهم في زهدٍ فيها غيرُ مطالبين فيها بشيءٍ سوى الروحانيات التي تقللُ من شأنِ الدنيا وتحقرُها في أعينِهم ..
وما حققته الكنيسةُ من سيطرةٍ سياسيةٍ وسلطةٍ في القرونِ الوسطي كان مخالفةً لمبادئِها والذي حدثَ بعد ذلك هو ثورةٌ أعادت الكنيسةَ إلى حجمِها الحقيقيّ، وكرَّست لمبادئ الفصلِ بين الدينِ والدولةِ، ولا يمكن في هذا الصددِ إنكارُ بعضِ المبادئ التي حاول الغربُ المسيحيُّ تأصيلَها وغرسَها بما أعادَ لبعضِ الفقراءِ والمظلومينَ حقَهم، ورفعَ الظلمَ والعبوديةَ عن البعضِ، غيرَ أنّ هذه القيمَ جوفاء في حقيقتِها لأنَّها لم تمتد من ميثاقٍ ربانيٍّ غليظٍ يجيبُ عن الأسئلةِ الكبرى، ويوضحُ الطريقَ بلا تشويشٍ ولا خلطٍ ولا يخضعُ لأهواءِ البشرِ وتقلباتِهم ..
جاءَ الإسلامُ الدينُ الخاتمُ، والشريعةُ المتوازنةُ العملِ الذي لا يفضي إلى الماديةِ والعبادةِ التي لا تفضي إلى انقطاعٍ عن الدنيا، يبدأُ بالفطرةِ ثمَّ لا ينحرفُ يمينًا ولا يسارًا بل يقدمُ للإنسانِ طريقًا واضحًا يسيرُ فيه فبعدَ أن دلتِ الفطرةُ الإنسانَ على وحدانيةِ الخالقِ سبحانَه وكمالِه وقدرتِه، وأنه المتحكمُ في كلِّ شيءٍ، الفعَّالُ لِما يريدُ وبعدَ أن أنعمَ اللهُ عليه بنعمةِ الحياةِ والإرادةِ جعل الإنسانَ من نفسِه رقيبًا عليها، وجعلَه في مراقبةٍ دائمةٍ للهِ في أفعالِه وأقوالِه، وفي حالةِ انضباطٍ ذاتيٍّ يسعى إلى الخيرِ في دنياه، الخيرِ بمعناه الشاملِ القائمِ على إصلاحِ الدينِ والدنيا وصلاحِ النفسِ والمجتمعِ والكونِ هو محلُ العملِ فهو بكلِّ ما يشملُه من نعمٍ مسخرٌ للإنسانِ؛ ليسيرَ فيه منفذًا للنموذجِ الرباني الذي يريدُه اللهُ على قدرِ طاقتِه واجتهادِه ..
والبشرُ في الإسلامِ متساوون جميعًا لا تمييزَ لعرقٍ بعينِه ولا للونٍ ولا جنسٍ بل ما يفضلُ بعضَهم على بعضِهم هو العملُ والعملُ فقط {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[ الحجرات (١٣)]
والإنسانُ في الإسلامِ يولد خاليًا من الذنوبِ لا يحملُ خطيئةَ أحدٍ إلا نفسُه؛ لأن اللهَ خلقَه كاملَ الإرادةِ وهيأه ليختارَ برغبتِه الكاملةِ الطريقَ الذي يريدُه فإنْ اختارَ طريقَ الخيرِ وسارَ على مرادِ اللهِ فازَ بموعودِ اللهِ وإلا فلا يحملُ إلا خطيئتَه، قال تعالى: { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۚ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [الانعام (١٦٤)]
وعلاقةُ الإنسانِ بالخالقِ سبحانه في الإسلامِ ليس فيها تمييزٌ ولا اصطفاءٌ إلا بالعملِ الصالحِ، يقول النبي ﷺ ” ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى” – صححه الالباني، فهي علاقةُ عهدٍ بين الإنسانِ وربِه، متى ما وفي الإنسانُ نالَ جزاءَ وفائِه، وليست علاقةَ وعدٍ لا يتحمل فيه الإنسانُ أيَّ التزامٍ أو تكليفٍ؛ فالأولُ يجعل الإنسانَ دائمَ السعي لا يكفُّ ولا يفترُ عن العبادةِ ولا عن عمارةِ الأرضِ وتغييرها للأفضلِ وبما يحققُ المنهجَ الربانيَّ، وأمَّا الثاني ففيه من الغرورِ ما يجعلُ الإنسانَ مفسدًا غير مصلحٍ وغيرَ مبالٍ بما يفعلُ ..
والحياةُ الدنيا في الإسلامِ ليست محتقرةً مزهودًا فيها، فقد ورد عن النبي ﷺ في حديثِ الرهطِ الذين عزمَ أحدُهم على قيامِ الليلِ أبدًا والثاني على صيامِ الدهرٍ وعزمَ الثالثُ ألا يتزوج، أنه ﷺ قال لهم : ” أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي” رواه البخاري ، كما أنها في ذاتِ الوقتِ ليست الغايةَ ولا القبلةَ التي يتخذُها الإنسانُ في حياتِه، فليسَ المطلوبُ هو الاستغراقُ فيها سعيًا وطلبًا لها، يقول سبحانه : { يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} – [فاطر (٥)] ، بل هي وسيلةٌ يتخذُها الإنسانُ في سعيهِ نحوَ الآخرةِ، والأرضُ التي يبذرُ فيها بذورَ العملِ والتقوى في انتظارِ ثمارِ ما زرعَ في الآخرةِ، فهو مأمورٌ بالسعي والتغييرِ وعدمِ الجمودِ والإعراضِ متخذًا من الحلالِ والحرامِ ميزانًا يزنُ به أفعالَه ويقيمُ نفسه، فهو لا يسيرُ في عمارةِ الأرضِ على هواه بل بالتزامٍ أخلاقيٍّ يريدُه اللهُ عز وجل له ..
وبينما انتجتِ اليهوديةُ بكلِّ تفاصيلِها في النهايةِ مجتمعًا يقومُ على العنصريةِ، ويكرِّس لها خاليًا من الفضائلِ ومغرقًا في الشهوات، وانتجت المسيحيةُ اللانظام إذ لا مجتمعَ أصلًا، فبذلُ الجهدِ من أجلِ تنظيمِ المجتمعِ وسنِّ قوانينِه مرفوضٌ؛ لأن الدنيا برمتِها مرفوضةٌ، انتجَ الإسلامُ نظامًا اجتماعيًا كان هو الغايةُ الدنيويةُ للشريعةِ؛ فهو دينٌ ينظمُ حياةَ الناس ويضمنُ حقوقَهم بما يتيحُ لهم أداءَ المهمةِ التي أتوا من أجلِها على أتمِ وجهٍ، وبالنظرِ للشريعةِ نجدُ أن الجزءَ الأكبرَ من تعاليمِها يختصُ بمعاملاتِ الناسِ وشؤونِ الحياةِ وقوانينِها، بينما الجزءُ الأقلُّ يختصُ بالعباداتِ والشرائعِ.
بل إن كثيرًا من العباداتِ والشعائرِ تحملُ طابعًا اجتماعيًا كالحجِ والصلاةِ إذ لا يفرضُ الإسلامُ على أتباعِه الانعزالَ عن مجتمعِهم الذي يعيشونَ فيه بل يضعُ لهم القوانينَ التي تنظمُ معيشتَهم؛ ليمضوا سائرينَ عليها قائمينَ بدورِهم ومسؤوليتهم تجاه هذا المجتمعِ، وكذلك النظامُ الأخلاقيُّ الفريدُ الذي وضعته الشريعةُ يحتاجُ في تطبيقِه إلى تفاعلٍ اجتماعيٍّ في مجتمعٍ متوازنٍ ينظمُ الدنيا ولا يركنُ إليها ولا ينعزلُ عنها. فالأمانةُ تطبقُ في عملياتٍ كالبيعِ والشراءِ بين الناسِ وإخراجِ الزكاةِ والصدقاتِ يتطلبُ وجودَ أغنياء وفقراء يعاونُ ويساعدُ بعضُهم بعضًا، ولا يمكنني في مقالي هذا حصرَ وصايا الدين الحنيفِ بالجارِ والضيفِ وذوي القربى والأرحامِ والأبناءِ والوالدين وببقية المسلمين من أهلِ الملةِ وبغيرِهم من أهلِ الذمةِ، فالإحسانُ في الإسلامِ يشملُ البشرَ والحيواناتِ، ولذا نجدُ المجتمعَ المسلمَ يحتلُّ مكانةً أساسيةً في قلبِ الشريعةِ؛ لأن الدينَ يبدأُ من الفردِ ثمَّ ينتهي بالأمةِ الإسلاميةِ الكبيرةِ والتي يتضح لنا مجملُ الرسالةِ التي علينا تأديتُها من خلالِ الآيةِ الكريمةِ: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) – [آل عمران (١٠٤،١٠٥)].