تواصل معنا

التصور المشوه لصفة الحكمة الإلهية (مقالة)

الوصف

مقالة

تعتمد فئة كبيرة من أدلة التطور على الزعم بوجود عيوب في الكائنات الحية مما لا يتفق مع كونها من خلق إله حكيم عليم خبير ، من هذه الأدلة وجود الأعضاء الأثرية الضامرة والانتكاسات التطورية والحمض النووي عديم الفائدة . يتم طرح هذه الأدلة على أنها تمثل البرهان على كون الخلق لا يتصف بالدقة والإحكام والكمال ، وبالتالي فهو أقرب إلى أن يكون نتاجًا للعشوائية المتمثلة في نظرية التطور عن أن يكون من صنع الخالق الحكيم العليم القدير .
 
يقول د. عمرو شريف تحت عنوان الأدلة العلمية على حدوث التطور : ((لقد احتفظ جنين الإنسان بالبراعم التي تشكل الأثداء المتعددة في باقي الثدييات، وبدلاً من أن تضمر كلها (باستثناء اثنين) نشط بعضها عند وصول الفتاة لسن البلوغ، وكوّن ثديًا أو حلمةً زائدةً أو أكثر. كيف يدفع المعارضون لمفهوم الأصل المشترك هذا الدليل؟))
ويقول في نفس الصفحة عن الأعضاء الأثرية: ((هي أعضاء موجودة بشكل ضامر وليس لها استخدام في بعض الكائنات الحية، ولكن لها وجود ووظيفة في الكائنات القريبة منها. مثال ذلك العضلات المسئولة عن حركة صوان الأذن، فقد فقدت وظيفتها (بالرغم من وجودها) في الإنسان بينما ما تزال تعمل في الشمبانزي))
هذان "الدليلان" قدمهما د. عمرو شريف لأنصار الخلق الإلهي المباشر- ضمن أدلة أخرى كثيرة- كبرهان على صحة التطور، الدليل الأول وهو يحكي عن ما يسمى عند التطوريين بالانتكاسات التطورية atavisms وهي عودة ظهور صفة كانت في الأسلاف التطورية في أحد الأنواع على نحو شاذ ، وأشهر مثال لها هو أرجل الحيتان ، فإن ((حوالي حوتًا واحدًا من كل خمسمائة يولد برجلين خلفيتين ناتئتين خارج جدار الجسد)). ويعتقد التطوريون أن سبب هذه الانتكاسات التطورية هو عودة جين أثرى خامل موروث من الأسلاف للعمل أو كما يقول جيري كوين: ((لماذا تحدث تأسلات كهذه على العموم؟ أفضل نظرياتنا أنها تأتي من عودة تعبير جينات كانت وظيفية في الأسلاف، لكنها أسكتت بفعل الانتخاب الطبيعي عندما لم يعد هناك حاجة لها. إلا أن هذه الجينات الخاملة يمكن في بعض الأحيان أن تستيقظ مجددًا عندما يسير شيء ما بشكل منحرف في التطور الجنيني. لا تزال الحيتان تحتوي بعض المعلومات الجنينية لعمل الأرجل، ليست أرجلاً كاملةً، حيث أن المعلومات قد أُفسدت خلال ملايين السنين التي كمنت فيها غير مستعملة في الجينوم، إلا أنها أرجل رغم ذلك. وتلك المعلومات هي هناك لأن الحيتان تحدرت من أسلاف رباعية الأطراف. كأحواض الحيتان التي في كل أفرادها، فإن أرجل الحيتان النادرة دليل على التطور))
فخلاصة هذا الدليل عند أنصار نظرية التطور هو وجود جينات خاملة كامنة بدون وظيفة أو فائدة موروثة من الأسلاف الذين تطور منهم النوع، وهذه الجينات قد تنشط لسبب ما أثناء نمو الجنين فتظهر هذه الأعضاء القديمة لتدلل على الأصل التطوري للكائن الحي، ولهذا يعدها القوم دليلاً على التطور. ويوافق د. عمرو شريف على هذا الطرح مستدلاً بنفس المفهوم على وقوع التطور رغم أن المؤمنين يعلمون ويعتقدون أن الله لا يخلق شيئًا إلا وله حكمة وغاية، ولا يخلق عبثًا أو اعتباطًا، وأن المسلم عندما يواجهه التطوريّ بهذا "الدليل" يقول إنه لا يوجد جينات غير وظيفية في الشريط الوراثي وأن الصواب هو أنها لها وظيفة نحن لا نعلمها بعدٌ، وأن الكثير مما كان يوصف بأنه جينات أثرية بلا فائدة ثبتت فاعليته ووظيفته فيما بعد، وأن تقدم العلم باستمرار يكشف كل يوم المزيد عن الجينات غير معروفة الوظيفة. فنحن لا نقول بوجود جينات بلا وظيفة– بفرض ثبوت وجود هذه الجينات في حالة الانتكاسات التطورية- بل نقول إن لظهور هذه الأعضاء في أفراد معينة له حكمةً خفيةً عنّا، ونحن نعلم أن هذا قد يكون في الإنسان على سبيل الابتلاء والامتحان أو لغيرها من الأسباب، فما المانع عقلاً أن يكون لها حكمة بالغة في بعض أفراد الكائنات الحية الأخرى؟ هذا الفهم وهذا التفسير يتفق مع عقيدة المسلم واستيعابه الصحيح للحكمة الإلهية الواسعة وأنها تفوق حكمة وعلوم البشر، كما أن الفهم والتفسير التطوري يتفق واعتقاد الملحد في عدم وجود حكمة أو غائية أو إله قادر عليم حكيم. فكيف للمسلم أن يتبنى الفهم والاستدلال الإلحادي لإثبات وقوع التطور؟ الملحد ينطلق من مقدمات وفرضيات فلسفية معينة وهي أنه لا خلق ولا حكمة ولا نظام، فجاء تبريره لظهور بعض الأعضاء الشاذة في بعض أفراد الكائنات الحية موافقًا للمقدمات والفرضيات التي انطلق منها، ألم تلاحظ قول كوين في الاقتباس السابق ((لماذا تحدث تأسلات كهذه على العموم؟ أفضل نظرياتنا أنها تأتي من ...))؟؟ وهل يصح أن نتبع افتراضًا نظريًا ليس علمًا يقينيًا قطعيًا ونحتج به فضلاً عن مخالفته لتصورنا الإسلامي عن حكمة الله عز وجل؟ أما المسلم فينطلق من مقدمات مختلفة تمنعه من تبني التفسير الإلحادي وتمنعه من استعماله أو الاحتجاج به، خصوصًا أن هذا التفسير في حقيقة الأمر مجرد افتراض نظري أو محاولة للتفسير بناءً على مقدمات فلسفية معينة تتعارض بشدة مع عقيدة المسلم.
أما الدليل الثاني الذي قدمه د. عمرو شريف فهو عن ما يسمى بالأعضاء الأثرية vestigial organs ويصفها بأنها أعضاء ضامرة ليس لها وظيفة أو استخدام لكن لها وظيفة في أسلافها التطوريين، فوجود هذه الأعضاء التي بدون فائدة أو وظيفة دليل على أنها موروثة من سلف سابق! وهذا دليل معروف يستخدمه التطوريون لأجل نفي وجود الحكمة والتصميم الحكيم في خلق الكائنات وبالتالي نفي خلقها عن طريق إله قادر عليم حكيم؛ يقول التطوري المشهور دوجلاس فوتوياما: ((نجد أن عظام طائر الدودو الذي لا يطير والبطريق هي أيضًا مجوفة، وكأنها معدة للطيران وأن (حيوان) الخلد وسمندر الكهف لهما أيضًا عدسات وشبكية لا وظيفة لهما، ولكل كائن مثل هذه السمات من الأعضاء التي لا وظيفة لها والتي يمكن أن تكون فقط بقايا من تكيفات في الماضي، لماذا يوجد لدينا ما يسمى بضروس العقل، إلا إذا كان فكنا قد أصبح أصغر، حتى إن أسنان أسلافنا لم تعد تلائمنا؟ ولماذا لا بد لنا، مثل الرئيسيات الأخرى لكن تختلف عن أغلب الفقاريات الأخرى، نحتاج لفيتامين ج في وجباتنا، إذا لم يكن ذلك نابعًا من أن أسلافنا حصلوا على ما يكفيهم من فيتامين ج في وجباتهم من الفاكهة؟ فهل نجد هنا دليلاً على تصميم عاقل؟))
فوتوياما يسأل مستنكرًا عن الأعضاء الأثرية عديمة الوظيفة هل تدل على تصميم حكيم؟ فهي تدل –عنده– على انعدام التصميم، وبالتالي إثبات التطور القائم على العشوائية، ثم يأتي بعض المسلمين ليتبعه في استدلاله لنفي التصميم ونفي الحكمة الإلهية بزعم خلق أعضاء بلا وظيفة. وهل يمكن أن يعتقد المسلم أن الله يخلق خلقًا بلا حكمة ولا وظيفة ولا غاية ولا هدف؟ أو أن يخلق الله عبثًا واعتباطًا؟ بل المسلم ينفي وجود أعضاء أو تراكيب حيوية بلا وظيفة، فكل عضو له وظيفة علمناها أو لم نعلمها، وتقدم العلم يكشف باستمرار هذه الوظائف التي كنا نجهلها في الماضي أو ما زلنا نجهلها، بل لو استجاب العلماء للأحكام التي يصدرها التطوريون بخصوص وظائف الأعضاء لما سعوا لمعرفة هذه الوظائف ولتوقف تقدم علم الأحياء بالكامل، بل إن هناك علمًا كاملاً اسمه علم وظائف الأعضاء physiology مختص بدراسة الأعضاء ووظائفها، فهل سيكون هناك فرصة لتقدم هذا العلم وتنميته في ظل فلسفة علمية تؤمن بأن هناك من الأعضاء ما ليس له وظيفة، بل هو مجرد نفايات باقية من أسلاف سابقين؟! يقول البروفيسور ديفيد منتون: ((مما لا شك فيه أن عقيدة التطوريين فيما يتعلق بالأعضاء الأثرية قد تدخلت بالسلب في تقدم مسار العلم التجريبي . فقط عندما تجاهل العلماء دعاوى التطوريين صار لديهم القدرة على تعيين وظائف ما كانت يومًا ما أعضاءً أثرية مثل الغدة الجاردرقية والغدة التيموسية والجسم الصنوبري والغدة النخامية والغدة الكظرية)
لكن هنا يجب أن نستدرك على وصف د. عمرو شريف للأعضاء الأثرية بأنها ليس لها استخدام أو وظيفة، فهذا الوصف ليس في محله وهو خطأ من جانب الدكتور، يقول جيري كوين: ((النظرية التطورية لا تقول إن الخصائص الأثرية ليس لها وظيفة بالضرورة. فيمكن لصفة أن تكون أثرية ووظيفية في نفس الوقت. إنها أثرية ليس لأنها لا وظيفية، بل لأنها لم تعد تقوم بالوظيفة التي تطورت لأجلها. فجناحا النعامة مفيدان، لكن هذا لا يعني أنهما لا يقولان شيئًا عن التطور. ألن يكون غريبًا لو ساعد الخالقُ النعامَ على موازنة أنفسهم بإعطائهم لواحق يصادف تمامًا أن تبدو مثل الأجنحة الضامرة، ومبنية بنفس الطريقة بالضبط التي للأجنحة المستخدمة للطيران؟)) فهنا كوين ينكر على من يقولون إن الأعضاء الأثرية لا بد أن تكون بلا وظيفة، ويرى أنها قد تكون أثرية وذات وظيفة في نفس الوقت، لكنها غير وظيفتها الأصلية، ويضرب مثلاً بأجنحة النعام، فهو طائر لا يطير لكنه يستخدم أجنحته في حفظ توازن الجسم أثناء الركض، فهنا صارت الأجنحة تستخدم في وظيفة أخرى غير وظيفتها الأصلية التي هي الطيران. وهذا في الحقيقة تحايل بارع من كوين تجاه كون الأعضاء المزعوم أثريتها لها وظيفة أو وظائف حيوية في الكائن الحي، لكنه لا يساعده كثيرًا لأن المؤمن بالخالق الحكيم لن يمثل له هذا أي مشكلة، فوجود نفس العضو في كائنات مختلفة بوظائف مختلفة لا يطعن في حكمة الخالق، بل بالعكس يدل على البراعة والإبداع، فمثلاً الكاتب إذا استعمل نفس الكلمة بمعانٍ مختلفة في سياقات مختلفة فإن هذا يدل هذا على براعته الشديدة وتمكنه الأدبي البالغ من أدواته البلاغية، كذلك الخالق تبارك وتعالى إذا جعل لنفس العضو وظائف مختلفة في كائنات مختلفة فهذا يدل على تمام الحكمة وكمال الإبداع ولا يطعن إطلاقًا في حكمته سبحانه بل يبرزها.
 
أليس من العجيب بعد كل هذا أن يتم طرح هذه "الأدلة" بواسطة المسلمين المؤمنين بالتطور ليثبتوا لغيرهم أن التطور حقيقة يجب الإيمان بها واتباعها، فهل يدركون اللوازم العقدية المترتبة على موافقة التطوريين في دلالة هذه الأدلة؟ نحن عندما نجيب عن هذه الدلالة المزعومة لهذه الأطروحة التطورية نتحصن بحكمة الله عز وجل ونقول إن ما لا نعلم حكمته يختلف عما نعلم عدم حكمته، وأن التفريق مهم، ثم نقوم بحمل المتشابه الذي لا نعلم حكمته على المحكم الذي نعلم حكمته في خلق الإنسان وجميع الكائنات الحية. وفي هذا السياق نحمد الله تبارك وتعالى أن العلم لم يتوقف عند كلمة التطوريين الذي يصدرون الأحكام على الأعضاء والأنظمة الحيوية والأحماض النووية بأنها عديمة القيمة أو بقايا أثرية بلا فائدة، فما زال العلم يتقدم وينمو وما كان مجهولاً بالأمس صرنا نعلمه اليوم، وكثيرٌ من الأعضاء المتهمة بأنها دون فائدة وأجزاء الحمض النووي المحكوم عليها بعدم القيمة عرفنا الآن قيمتها وفائدتها ووظيفتها، وما زال قطار العلم يمضي نحو مزيد من الاكتشافات في هذا الباب.
لكن الأمر المثير للتساؤل هو موقف المسلمين الذين يروجون لنظرية التطور عن طريق طرح هذه الأدلة ويوافقون التطوريون في دلالتها على التطور العشوائي الذي ليس فيه مكان للخالق العليم الحكيم الذي أتقن كل شيء صنعه

المرفقات

أضف تعليقا