تأليف
الوصف
مقالة
يرد علينا كثيرًا احتجاج فئام من الملاحدة واللادينيين على تكليفهم بالإيمان والطاعات من قبل الله مع علمه تبارك وتعالى بأنهم سيكفرون وتكون عافبتهم النار ، ويرون أن هذا من الظلم المبين والجور الشديد ، ولا يتفق مع وصف الله بالعدل والحكمة وتنزيهه عن الظلم والسخافة والعبث ..
وهم - أي: الملاحدة واللادينيين - يرون أن الحكمة كانت تقتضي بأن لا يخلق الله الكافر أصلاً بدلاً من أن يخلقه ولا يؤمن فيعذب في النار ..
وهذا الاعتراض غير صحيح ..
وهو يكون صحيحًا لو أن الله تعالى أعطى المؤمن شيئًا ، وسلبه من الكافر ..
والحقيقة أن الأمر غير ذلك :
فالله لم يفعل بالكافر إلا مثل ما فعله بالمؤمن من إرسال الرسل ودعوته إلى الإيمان والطاعات وتعريضه للثواب الأخروي ..
ومن هنا كان خلق الكافر كخلق المؤمن سواء بسواء ..
والتكليف بالإيمان والطاعات للكافر كتكليف المؤمن سواء بسواء ..
وكفر الكافر ومعصيته وسوء اختياره لا يغير من إحسان الله عز وجل إليه ولا يبطل إنعامه عليه ..
وإنما يرجع في اللوم إلى نفسه بالإساءة التي فعلها في حق نفسه ..
والأمر في ذلك يشبه حال الإنسان وقد رأى غريقين قد أشرفا على الهلاك ، فأدلى إليهما بحبل النجاة ..
فأمسك أحدهما بالحبل فنجا ، ورفض الآخر فهلك ..
أو حال من قدم طعامه إلى جائعين قد استولى عليهما الجوع وأشرفا على الموت ..
فتناول من الطعام أحدهما فعاش ، ورفض الآخر فهلك جوعًا ..
فإن من قدم الطعام والحبل في المثالين السابقين يكون منعمًا متفضلاً محسنًا على الرجلين ..
وكون أحدهما قد رفض الطعام أو حبل النجاة لا ينفي حقيقة أن صاحب الطعام أو الحبل قد أنعم عليه وأحسن إليه ..
لأنه قد أراد إنقاذهما جميعًا ، وليس أحدهما فقط ..
ولهذا لا يمكن القول بقبح تكليف من يعلم الله صدور الكفر منه ؛ لأن هذا القول قد جانبه الصواب من عدة وجوه :
الوجه الأول :
أن علم الله سبحانه وتعالى ليس سببًا في قبح الكفر الذي يصدر عن الكافر ..
فالكفر قبيحٌ في نفسه ، كما أن الإيمان حسنٌ في نفسه ..
فعلم الله غير مؤثر في ذلك ..
الوجه الثاني :
لا يصح وصف خلق الكافر بالظلم ؛ لأن مجرد خلقه وإيجاده حسنٌ كإيجاد الحيوان والجماد وسائر الموجودات ..
خاصةً مع إنعام الله عليه بالعقل والقدرة والشهوة واللذة ..
والعقل والمنطق يقرران أن الوجود خيرٌ من العدم ..
ولو خلقه الله تعالى ولم يكلفه شيئًا ، لما لحقه أي ضرر من مجرد خلقه وإيجاده ..
وهذا يدل على أن الضرر لا يتعلق بالخلق ، وإنما بشيء آخر ..
الوجه الثالث :
لا يصح وصف تكليف الكافر بالظلم لسببين :
(1)
لا يمكن أن يكون الظلم في التكليف راجعًا إلى تعريض الكافر للمنفعة والثواب الأخروي بالتكاليف ..
لأن العقل يقضي بحسن التعرض للمنفعة ، وتعريض الكافر لنيل الدرجات العليا حسنٌ في ذاته كتعريض المؤمن لها ..
وكما لا يقبح تعريض المؤمن للثواب ، فلا يقبح تعريض الكافر ..
وليس القبول شرطًا في حسن فعل التعريض للثواب ..
ولو كان الإيمان شرطًا في حسن التكليف لما حسن من أحد أن يقدم نعمة أو إحسانًا إلى الغير إلا بعد أن يتيقن أن إحسانه سيقبل منه ..
وخلاف ذلك معلوم بالضرورة ، وعدم تقبل الإحسان لا ينفي عن المحسن صفة إحسانه وتفضله ..
(2)
عدم تقبل الكافر للإيمان إنما هو من جهة نفسه ، ولسوء اختياره حيث فضل الكفر على الإيمان ..
أما فعل التكليف نفسه فمن جهة الله عز وجل ، ولا يصح أن يتعلق قبح فعله تعالى بقبح فعل غيره ..
لأن قبح القبيح يكون لوجه يقع عليه الفعل من جهة فاعله ، ولا يتوقف على أمر يتعلق بفعل غيره ..
الوجه الرابع :
لا يصح وصف تكليف الكافر بالعبث ؛ لأن العبث هو الفعل الذي لا غرض للفاعل فيه ولا حكمة من ورائه ..
والله تعالى قد خلق الكافر وكلفه بالإيمان ليمتحن به المؤمنين ويبتليهم فتعلو درجاتهم وترتفع ..
فإنه سبحانه أراد أن يتخذ من عباده أنبياءً ورسلاً وأولياءً وشهداءً يحبهم ويحبونه ..
فخلى بينهم وبين أعدائه من الكفار وامتحنهم بهم ..
فلما آثروه وبذلوا نفوسهم وأموالهم في مرضاته نالوا من محبته ورضوانه والقرب منه ما لم يكن لينال بغير ذلك أصلاً ..
فدرجات الرسالة والنبوة والشهادة والحب في الله والبغض فيه وموالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين عنده من أفضل الدرجات ..
ولم يكن لينالها أحدٌ إلا على هذا الوجه الذي قدره وقضاه من خلق الكافر وتكليفه بالإيمان والطاعة ..
فيظهر من هذا البيان أن تكليف الكافر فيه مصلحة لغيره ، فلا يصح وصفه بالعبث المجرد من الحكمة ..
والخلاصة
أن الله تعالى قد كلف جميع عباده أن يعبدوه ، سواء في ذلك المسلم والكافر ..
وهو منح جميع المكلفين القوة والقدرة على إتيان ما كلفهم به ، وقوى دواعيهم إلى ذلك ، وأزاح عنهم العلل والعوائق ..
ومكنهم مما كلفهم به بالأدوات المناسبة لعبادته من العقل والجوارح ..
وهذه الأمور ثابتة في حق المؤمن والكافر والبار والفاجر على سواء ..
ولا فرق بين المؤمن والكافر في كون كل منهما قد أوتي كل المؤهلات اللازمة للنهوض بالتكليف ..
فالله أعطى الجميع ولم يحرم أحدًا تحقيقًا لمعنى العدل ..
الفرق في ذلك هو أن المؤمن أحسن الاختيار لنفسه ، واستعمل عقله فهداه الله إلى الإيمان ..
أما الكافر فأساء الاختيار ، وأهمل عقله فلم يهده الله فكفر ..
وسوء اختيار الكافر لا يخرج فعل الله تعالى عن نطاق العدل ، كما أنه لا ينزع عنه سبحانه حقيقة إنعامه وإحسانه إليه ..
والضرر الذي لحق بالكافر إنما كان من قبل نفسه لسوء اختياره ؛ لأنه كان يستطيع أن يختار الإيمان على الكفر ..
والله أعلم .