الوصف
مقالة
س(1) تفسير: ما معنى قوله تعالى (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ) "الإسراء: 59"؟ وما الجمع بين ذلك وما حدث من انشقاق القمر بعد أن سأل بعضُ المشركين رسولَ الله صلى الله عليه وسلم آيةً؟
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
تكاد تكون كلمة المفسرين في تأويل تلك الآية: قائمًا على كون المانع من المعاجلة باستنزال الآيات - المعجزات - مما طلبه مشركو مكة = هو ما سبق في الغابر من تكذيب المكذبين لأضرابها؛ مما كان سببًا في كونهم عُوجِلوا بالعذاب الحاضر، والغضب المتواتر!
ولو أن قريشًا سلكتْ تلك السبيل التي سلكها المكذبون قبلهم إزاء تلك الآيات؛ لجاءهم الموت من كل جانب، وأتتْهم نقمة الجبار من حيث لا يشعرون، ولأصبحوا أحاديث للناس كما أصبح عاد وثمود.
قال جار الله الخوارزمي في ( تفسيره ): ( وعادة الله في الأمم أن من اقترح منهم آيةً فأجيب إليها ثم لم يؤمن، أن يُعاجل بعذاب الاستئصال، فالمعنى: وما صرفنا عن إرسال ما يقترحونه من الآيات إلا أن كذّب بها الذين هم أمثالهم من المطبوع على قلوبهم كعادٍ وثمود، وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك، وقالوا هذا سحرٌ مبين، كما يقولون في غيرها، واستوجبوا العذاب المستأصل، وقد عزمنا أن نؤخِّر أمر من بُعِثْتَ إليهم إلى يوم القيامة).
قلت: ومستندهم في ذلك: حديث ابن عباس المشهور : (قَالَ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ الْجِبَالَ عَنْهُمْ، فَيَزْرَعُوا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ أَنْ تَسْتَأْنِيَ بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ نُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا، فَإِنْ كَفَرُوا أُهْلِكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ، قَالَ: «لَا، بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59]).
وهذا الحديث: أخرجه أحمد والنسائي في الكبرى وجماعة، وقد صححه الحافظ الذهبي وجماعة، وجوَّد سنده العمادُ ابن كثير، ورجاله ثقات مشاهير.
وأخرج أحمد أيضًا وغيره بإسناد ثابت عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ( قَالَتْ قُرَيْشٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُصْبِحْ لَنَا الصَّفَا ذَهَبَةً، فَإِنْ أَصْبَحَتْ ذَهَبَةً اتَّبَعْنَاكَ، وَعَرَفْنَا أَنَّ مَا قُلْتَ كَمَا قُلْتَ: فَسَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَتْ لَهُمْ هَذِهِ الصَّفَا ذَهَبَةً، فَمَنْ كَفَرَ مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، عَذَّبْتُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنْ شِئْتَ، فَتَحْنَا لَهُمْ أَبْوَابَ التَّوْبَةِ، قَالَ: «يَا رَبِّ، لَا، بَلِ افْتَحْ لَهُمْ أَبْوَابَ التَّوْبَةِ» ).
وعند البيهقي في ( الدلائل) بإسنادٍ صالح من مرسل الربيع بن أنس البكري قال: ( قال الناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو جئتنا بآية كما جاء بها صالح والنبيون فقال رسول الله إن شئتم دعوت الله فأنزلها عليكم فإن عصيتم هلكتم يقول ينزل العذاب فقالوا لا نريدها)!
قلتُ: وأشكل على هذا ما صح من انشقاق القمر بعدما سأله السائلون من رسول الله؟
وأجيب عنه بثلاثة أجوبة بل أربعة:
أولهما: ما قاله بعضهم من أن حكمة الله اقتضت أن يُظْهِر هذه الآية - يعني انشقاق القمر - في أول العهد المكي، فلما كذّبها الكفار وقالوا إنها سحرٌ اقتضت حكمة الله أن يكون ذلك الموقف السلبي المنطوي في الآيات التي نزلت بعد هذه السورة، مثل قوله: وما منعنا أن نرسل بالآيات ) وغيرها.
قلت: وهذا جوابٌ ضعيف!
2- وثانيهما: أن الله قد آتى رسوله صلى الله عليه وسلم آياتٍ علميةً وكونيةً، ولكنه لم يجعلها حجةً على رسالته، ولا أمره بالتحدي بها، بل كانت لضروراتٍ استدعتها، كاستجابة بعض أدعيته صلى الله عليه وسلم، كانشقاق القمر، وشفاء المرضى وإشباع العدد الكثير من الطعام القليل فى غزوة بدر وغزوة تبوك، وتسخير الله السحاب لإسقاء المسلمين، وتثبيت أقدامهم التي كانت تسيخ فى الرمل ببدر.
ولذلك لم تكن حجته القائمة إلى يوم القيامة سوى القرآن الكريم وحده.
وقد ثبت في ( الصحيحين ) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ).
قلت: وهذا جوابٌ جيدٌ لا بأس به.
وثالثها: أنه ليس المراد بالامتناع من إرسال الآيات التي طلبها المشركون هو مطلق الآيات!
بل المراد بالآيات هنا: هي آيات الاقتراح والتشهي، مثل تحويل جبل الصفا ذهبًا، وجَرْيِ الأنهار، وغيرها، وهي أنها لا توجب الإيمان بها عند القوم، فقد سألها الأولون فلما أوتوها كذبوا بها فأهلكهم الله، فليس لهم مصلحةٌ في الإرسال بها، بل حكمته سبحانه تأبى ذلك كل الإباء.
فلا يدخل في ذلك: استجابة الرحمن لسؤال القوم بأن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر عيانًا.
قال الخطابي فيما نقله عنه جماعة وهو بصدد بيان الحِكَم من انشقاق القمر: (الحكمة في وقوعها ليلاً أن من طلبها من الرسول صلى الله عليه وسلم بعض من قريش فوقع لهم ذلك ليلاً، ولو أراد الله تعالى أن تكون هذه المعجزة نهارًا؛ لكانت داخلة تحت الحس قائمة للعيان، بحيث يشترك فيها الخاصة والعامة - لَفَعَلَ ذلك؛ ولكن الله تعالى بلطفه أجرى سنته بالهلاك في كل أمةٍ أتاها نبيها بآيةٍ عامةٍ يدركها الحس فلم يؤمنوا، وخص هذه الأمة بالرحمة فجعل آية نبيها عقلية، وذلك لما أوتوه من فضل الفهم بالنسبة إلى سائر الأمم، والله سبحانه وتعالى أعلم).
فَعُلِم بهذا أن طلبه سبحانه وتعالى للقوم بانشاق القمر، لا يتعارض مع قوله تعالى: ( وما منعنا أن نرسل بالآيات .... ).
قلت: وهذا جوابٌ حسنٌ أيضًا.
رابعها: أنه ليس ثمة تعارضٌ بين انشقاق القمر وآية: (وما منعنا أن نرسل بالآيات ... ).
وذلك: لأن الآيات التي لم يرسلها الله تعالى وعلق الهلاك على التكذيب بها هي التي طلبها المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعيانها، وأما انشقاق القمر فلم تطلب منه عليه الصلاة والسلام. وإنما طلبوا آيةً دون تحديد فانشق القمر، كما في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: ( سأل أهل مكة أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر ).
فوقعت تلك الآية: كما تقع خوارقُ كثيرةٌ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم، دون سؤالٍ من أحد لها أو بتعيين أفرادها.
قلت: وهذا جوابٌ قوي.
وهناك أجوبة أخرى لا تخلو من ضعف وتكلف.
وقد أطال محمد رشيد رضا وغيره النَّفَسَ في التعلق بآية الإسراء : ( وما منعنا أن نرسل بالآيات )، وغيرها في سبيل التنكب عما ثبت من قصة انشقاق القمر!
وهذا باعثه: الاحتكامُ إلى قوانين العقل باديَ الرأي! مع ما يصحبه من تلك التكلفات في درء صحاح الأخبار، بما لا يتفق مع أهواء كل حائر محتار!