تواصل معنا

الإلحاد في العصر الحديث (مقالة)

الوصف

مقالة

الفصل الأول
الإلحاد في العصر الحديث

1- ظاهرة الإلحاد :

كان الناس في الماضي يعتقدون اعتقاداً جازماً بوجود خالق مدبر للكون، وكانوا يعدُّون هذا من البدائه العقلية، وكان الإلحاد بمعناه الحديث الذي هو إنكار وجود هذا الخالق – أمراً شاذاً لا يقول به إلا فرد بعد فرد من الناس.

وظل الأمر كذلك حتى القرن الثامن عشر الميلادي تقريباً(1) ، ثم بدأ الإلحاد يحل محل الإيمان عند كثير من قادة الفكر الأوروبي، وصار بعد مقدم الشيوعية هو (الدين الرسميلدُوَلها.

ولمَّا صارت للإلحاد هذه المكانة في الغرب، ولمَّا كانت هذه الحضارة الغربية هي الحضارة السائدة في عصرنا؛ فقد انتشر هذا الإلحاد، وانتشرت أكثر منه لوازمه في أرجاء المعمورة انتشاراً لم يعهد له مثيل فيما مضى من الزمان(2).

-------------------------------------------------
(1)
أول كتاب يصرح بالإلحاد ظهر في أوروبا عام 1770م، وفي بريطانيا في عام 1782م.
(Atheism in Britain, p.3)

(2)
هذا مع أن الملحدين ما زالوا – من الناحية العددية – قلة قليلة حتى في الديار الغربية. ففي استطلاع للرأي العام أجرته صحيفة نيويورك تايمز – (27/2/1993م، ص9)، (ثقافة الكفر، ص4) – صرح 96% من الأمريكان بأنهم يؤمنون بالله.

وفي استطلاع أحدث أجرته مجلة US News and World Report كانت النسبة قريباً من ذلك. فقد صرح 93% بأنهم يؤمنون بالله، وصرح 5% فقط بأنهم ملحدون. (4/4/1994م، ص48).
مثل هذه الإحصاءات تُحرج كثيراً من الملحدين الذين يريدون أن يربطوا بين التقدم العلمي والرفاه المادي وبين الإلحاد. فالولايات المتحدة أكثر الدول الغربية تقدماً في الأمرين معاً، وأكثرها ديمقراطية لكنها أكثرها ديناً.
-------------------------------------------------


وكان من نتائج ذلك:

أن صار الإلحاد – من الناحية العلمية والعقلية – هو الموقف الطبيعي الذي لا يحتاج إلى دليل ولا برهان !! وصار المؤمن هو المطالب بمثل هذا الدليل .

وأن صار الملحد هو الذي يتحدى المؤمن ويتهمه بعدم العلمية، وعدم العقلانية، وبالتقليد، والانسياق وراء العواطف !

وأن صار إظهار الاهتمام بالدين ولا سيما في وسائل الإعلام العامة – أمراً مستغرباً بل منكراً !

يقول صاحب كتاب (ثقافة الفكر):

"
إنه ما أن نشرت مجلة نيوزويك مقالاً عن الدين حتى جاءها خطاب – نشرته – من قارئ يلومها على إفساح المجال لمثل هذا الهراء"،

ثم يعلق على ذلك قائلاً:
"
من حيث الإحصاء ، فإن كاتب الخطاب ينتمي إلى الأقلية
أما سياسياً وثقافياً فإنه ينتمي إلى التيار الأمريكي الغالب؛
لأن أولئك الذين يُصلُّون بانتظام – بل أولئك الذين يؤمنون بالله – يحرصون على إبقاء ذلك في السر، بل على عدِّه سراً يخجل من[إفشائه].
وذلك أنه فيما عدا الالتجاء إلى الله الشعائري [الظاهري] المتوقع من سياسيينا؛ فإن الأمريكي الذي يأخذ دينه مأخذ الجد، ويعدُّه شيئاً مأموراً به لا مجرد خيار؛ يخاطر بان يُعدَّ من المارقين" (1).
-----------
(1)
ثقافة الكفر، ص4.
-----------

وأن صار الدين هو (الظاهرة الاجتماعية) التي تحتاج إلى تفسير، وأما عدم التدين فهو الأمر الطبيعي الذي لا يستدعي دراسة ولا بحثاً ولا تنقيباً !!

وأن صار الإلحاد هو القاعدة – المعلنة أو المضمرة – التي تقوم عليها فلسفة العلوم، طبيعية كانت أم اجتماعية أم إنسانية !! فصار الإلحاد لذلك جزءاً من مفهوم العلم !!

ومن هنا جاءت المقابلة بين ما يسمى بالتفسير العلمي والتفسير الديني !
فالتفسير العلمي : هو التفسير الذي يفترض أن الكون مكتف بنفسه، لم يخلقه ولا يصرِّف أمره خالق !
وأما التفسير الديني فهو الذي يجعل للإرادة الإلهية تدخلاً في حوادث الكون.

وإذا كان العلم قد وُضع – بسبب فلسفته الإلحادية – في مقابل الدين !

فقد وُضع الدين – مهما كان نوعه !! – في زمرة الكهانة والسحر وسائر أنواع الشعوذة والأساطير !!

أو عُدَّ – حين يحترم – من قبيل : الأدب والفن الذي يعبِّر عن المشاعر ولا يقرر الحقائق !


وقد صاحب هذا الإلحاد في أوروبا تطور هائل لم يعهد له مثيل في مجالات العلوم الطبيعية، وما يقوم عليها من تقنية دخلت نواحي الحياة المختلفة وسهلتها.

فربط الناس في الغرب بين هذا وذاك؛ فاعتقدوا أن هذا التطور ما كان ليحدث لولا اطِّراح الدين وإحلال الفلسفة المادية الإلحادية العقلانية التجريبية محله !!

وتبع الغربيين في هذا الاعتقاد خلق كثير من الأمم الأخرى، فظنوا أنهم لا يمكنهم أن يبلغوا شأو الغربيين في التقدم العلمي والتقني، إلا إذا هم حذو حذوهم في اطِّراح الدين واعتماد الفلسفة الإلحادية !

ولم يقتصر أثر هذا الفكر الإلحادي على مجال العلوم، بل دخل حياة الناس الاجتماعية والسياسية.

فكما أن الدين أُقصي عن المجال العلمي المشترك بين العلماء، وصار في أحسن حالاته مسألة خاصة بالعالم لا يجرؤ على ذكرها، دعك من الدفاع عنها أو الدعوة إليها !

فقد أُقصي أيضاً عن المجال السياسي حتى في البلاد الإسلامية – إلا ما رحم ربك – وكاد أن يصير – كما قد صار في الغرب – مسألة ذاتية تخص الفرد، ولا تتعلق بدساتير البلاد وقوانينها وسياستها الداخلية أو الخارجية أو التعليمية أو الإعلامية.

المرفقات

أضف تعليقا