تأليف
الوصف
مقالة
أدله وجود الخالق
يقول بعض الملحدين إنه ليس هناك من خالق لأنه لا دليل على ذلك من عقل ولا حس. ويقول بعض المؤمنين من المسلمين وغير المسلمين: بلى إن للكون خالقاً. ولكنهم يوافقون الملحدين في أنه لا دليل عقلي على وجوده، وأن التصديق بوجوده أمر يعتمد على الإيمان القلبي فحسب، لا دليل عقلي، أو هو أمر يعتمد فحسب على تصديق الرسل فيما أتوا به.
أما كون الإقرار بوجود الخالق أمراً إيمانياً قلبياً؛ فلا شك في ذلك، وأما كونه أمراً تعززه رسالات السماء؛ فلا شك في ذلك أيضاً. ولكن من قال إن الإيمان والعلم لا يجتمعان ؟! ومن قال إن القلب يطمئن إلى ما لا يدل عليه عقل ؟!(1)
إن الإيمان الصحيح المعتبر هو الإيمان القائم على العلم، إلا لم يكن هنالك من فرق بين مَن يؤمن بوجود خالق ومَن يؤمن خالقين، ومن لا يؤمن بخالق؛ لأن كلا منهم يمكن أن يقول إن اعتقاده أمر قلبي لا يخضع للمناقشة العقلية. ولم يعد من حق واحد منهم أن يقول للآخر إنك مخطئ في اعتقادك.
ـــــــــــ
(1) ليس في لغة الغرب ولا استعمالات القرآن الكريم هذا التقابل الشائع بين القلب والعقل، بل إنما يسمَّى في الاصطلاح الشائع عقلاً هو الذي يسمَّى في القرآن الكريم ولغة العرب قلباً. وأما العقل فإنما هو – في لغة العرب والاستعمال القرآني – فعل القلب. فالقلب هو المحل، والعقل هو ما يحدث في ذلك المحل؛ لذلك لم تأت كلمة (العقل) في القرآن الكريم إلا فعلاً، ولم تأت اسماً قط. حتى حين تستعمل في غير القرآن الكريم اسماً فإنما المقصود به المصدر، فتقول عقل عقلاً كما تقول قرأ قراءة. وقد يقال العقل ويراد به القلب من باب تسمية الشيء بمحله، وقد يكون العكس أيضاً. وإذن فبالقلب يفكر الإنسان، وبه يتأمل ويستنتج، وبه يحب ويكره. وغني عن القول أن المقصود بالقلب هنا ليس هو مجرد ذلك العضو الحسي؛ وإنما المقصود به أساساً الروح التي بها تكون كل أنواع الوعي البشري. وأما الجسم قلباً أسميناه أم دماغاً فليس مصدراً ولا محلاً للوعي، لكن له به تعلقاً لتعلقه هو بالروح. (انظر في هذا: فتاوى ابن تيمية ج9)، وانظر كذلك: .John Ecclec, Facting Reality
ـــــــــــ
ولو كان الأمر كذلك لكان من حق من شاء أن يؤمن بما شاء من غير تثريب عليه. وإذا كان بعض المتدينين من غير المسلمين يلجؤون إلى مثل هذه الأقوال المتهافتة ليستروا بها عيب اعتقاداتهم الفاسدة؛ فما هكذا ينبغي أن يكون موقف المؤمن المسلم وهو يقرأ في كتاب ربه:
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ ﴾ ]محمد : 19[
﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾ ]الحج : 54[
فالعلم أولاً، ثم الإيمان المترتب على هذا العلم ترتيباً تعبر عنه فاء السببية ﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ﴾، ثم الإخبات المترتب على الإيمان ﴿ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ﴾.
ويقرأ في عشرات من آياته تشديد النكير على الذين يتبعون الظن وأهواء النفوس ويتكلمون بغير علم ويدعون في مجال أصول الدين دعاوى لا تسندها الأدلة والبراهين، ويعدهم من الجاهلين، بل من غير العاقلين، ويتوعدهم بأشد أنواع الوعيد:
﴿ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ]البقرة : 111[
﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ ] الأنبياء : 24[
﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى ﴾ ]النجم : 23[
﴿ هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ ] آل عمران: 66[
إذا قلت هذا قال لك بعضهم: نحن لا ننكر أن يكون على وجود الصانع – تعالى – دليل أي دليل، وإنما نقول إنه لا يوجد دليل من النوع الذي يسمَّى بالدليل العلمي (بالمصطلح الحديث) أو الدليل المنطقي البرهاني. لكن هذا ليس بالكلام الدقيق إلا إذا فهم هذان الدليلان فهماً ضيقاً يجعلهما خاصين ببعض العلوم . وإلا فما معنى الدليل العلمي؟ ما الأدلة التي يقبلها العلماء الطبيعيون من فيزيائيين وكيميائيين وأحيائيين وغيرهم؟
إنهم يقبلون الدليل الحسي المباشر؛ فكل ما شهد الحس بوجوده شهادة مباشرة فهو موجود لا شك في وجوده. وهذا دليل مقبول عند كافة العقلاء وله في الدين مكانة كبيرة، لكن الأدلة العلمية ليست محصورة في هذا الدليل، فما كل ما يصدق العلماء الطبيعيون، أو عامة العقلاء بوجوده هو مما شوهد مشاهدة مباشرة بالحواس المجردة أو الآلات المساعدة؛ بل إن الإصرار على عدم قبول دليل غير هذا الدليل الحسي المباشر هو نفسه من علامات عدم العقلانية. ولو أن العلماء الطبيعيين وسائر العقلاء لم يقبلوا دليلا ً غير هذا الدليل لما تقدم علم من العلوم بل ولا قامت لعلم قائمة؛ ولهذا فإن القرآن الكريم حين يستنكر حصر الأدلة في هذا الدليل وينعى على المطالبين به في غير موضعه؛ إنما يقرر حقيقة يسلم بها كل العقلاء من بني البشر.
﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾ ]النساء : 153[
﴿ إِنَّ هَؤُلَاء لَيَقُولُونَ{34} إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ{35} فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ{36} ﴾ ]الدخان : 34 - 36[