تواصل معنا

دعوى أن رغد العيش وسعة المنازل دليل على صحة الدين والمعتقد ورضا الرب عز وجل (مقالة)

الوصف

دعوى أن رغد العيش وسعة المنازل دليل على صحة الدين والمعتقد ورضا الرب عز وجل

مقالة

الجواب التفصيلي

   دعوى أن رغد العيش وسعة المنازل دليل على صحة الدين والمعتقد ورضا الرب عز وجل (*)

مضمون الشبهة:

يحتج الكفار والمشركون على صحة ما هم عليه من الدين - من وجهة نظرهم - بأنهم أحسن مقاما من الذين آمنوا وأجمل منازل وأرفع دورا وأحسن نديا وأكثر واردا وطارقا وأعظم أثاثا وأحسن صورا، ويقولون: كيف نكون بهذه المثابة وتلك المنزلة الرفيعة ثم يكون ديننا باطلا؟! إن رفعتنا على المؤمنين في هذه الأمور لأكبر دليل على صحة ما نحن عليه من ديننا ومعتقداتنا. وعن رضا الرب - عز وجل - عنا.

قال تعالى:

وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين

وجوه إبطال الشبهة:

قياس صحة الإيمان بكثرة الأموال قياس باطل، فليس كل من كثر ماله كان دينه حقا.

القرب من الله ليس بكثرة الأموال والأولاد، إنما بالتقوى والعمل الصالح، فقد أهلك الله كثيرا من الأمم التي كانت أغنى من مشركي العرب، أهلكهم بذنوبهم ولم ينظر إلى أموالهم وأولادهم.

الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر امتحانا واختبارا، فضلا عن أنه قد تكون سعة المال استدراجا من الله لهؤلاء المستكبرين، كما حدث مع كثيرين وعلى رأسهم قارون عليه لعنة الله.

التفصيل:

أولا. قياس صحة الإيمان بكثرة الأموال والأولاد قياس باطل، فليس كل من كثر ماله كان دينه حقا:

اغتر المشركون من أهل مكة من السادة والكبراء، والأشراف بكثرة أموالهم وأولادهم وما أعطوا من الترف وسعة العيش، واتخذوا ذلك دليلا لصحة ما هم عليه من باطل، وبطلان ما عليه المسلمون من الإسلام، فقاسوا صحة الدين والمعتقد على كثرة الأموال والأولاد، وهو قياس باطل وزعم مردود، كما استدلوا بالغنى وكثرة الأموال والأولاد التي تقربهم إلى الله - بزعمهم - على انتفاء العذاب عنهم، فحصروا بذلك وسائل القرب من الله في وفرة الأموال، وكثرة الأولاد.

وهذا ليس شأنهم وحدهم، بل هو شأن كثير من الأمم المكذبة بما جاء به الرسل، وحال كثير من المترفين والأغنياء والكبراء، والسادة المعاندين لدعوة الأنبياء، فقوم نوح - عليه السلام - كما حكى عنهم القرآن اعترضوا على الإيمان به بقولهم له:

أنؤمن لك واتبعك الأرذلون

وقالوا أيضا:

ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي

وقوم صالح من المستكبرين يعترضون على دعوته كما حكى القرآن عنهم قائلين:

للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون 

فليس في هذا جديد بل هذه سنة الرسل في أقوامهم أن يكذبهم المترفون ويتبعهم الضعفاء،

قال عز وجل:

وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون

وقال أيضا:

وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون

ويحاول هؤلاء المشركون المترفون إبطال حقيقة الإسلام بدليل سوفسطائي مردود؛ حيث يجعلون كثرة أموالهم وأولادهم حجة على أنهم أهل حظ عند الله - عز وجل - ومظنة عناية عنده، وأن ما هم عليه هو الحق، وهذا تعريض منهم بعكس حال المسلمين وما هم عليه من ضعف وقلة عدد وشظف عيش ليستدلوا على أنهم غير محظوظين عند الله، وهذا من تمويه الحقائق حيث لم يتفطنوا إلى أن أحوال الدنيا مسببة على أسباب دنيوية لا علاقة لها بأحوال الأولاد، وهذا مبدأ سوفسطائي وهمي خطير يقول به أهل العقائد الضالة ومرجعه قياس الغائب على الشاهد، وهو قياس يصادف الصواب تارة، ويخطئه تارات أخرى.

وقد رد الله - عز وجل - عليهم شبهتهم هذه بعدة ردود مقنعة لكل ذي عقل ولب سليم، فمن ذلك أنه بين لهم أن الله هو الذي يبسط الرزق ويوسعه أو يقدره ويضيقه ولا ارتباط لهذا التوسيع والتضييق بمسألة الهداية والضلال، فربما وسع الله الرزق على العاصي وضيقه على المطيع، وربما عكس، فلا يغرنكم هذا ولا ذاك فإنكم لا تعلمون،

ولذا قال عز وجل:

قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ولكن أكثر الناس لا يعلمون

فأكثر الناس تلتبس عليهم الأمور فيخلطون بينها ولا يضعونها في مواضعها، وهذا الإبطال لدعواهم هذه يسمى في علم المناظرة نقضا إجماليا.

ثانيا. القرب من الله ليس بكثرة الأموال والأولاد وإنما بالتقوى والعمل الصالح:

أما ما توهموه من أن بسط الرزق علامة على القرب عند الله عز وجل، وضد ذلك علامة على ضده، فليس هذا بصحيح، وبهذا أخطأ أحمد بن الراوندي في قوله:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه

وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا

هذا الذي ترك الأوهام حائرة

وصير العالم النحرير زنديقا

ولو كان عالما نحريرا حقا لما تحير فهمه وما تزندق، ولكن أداه إلى ذلك ضيق أفقه وعطن فكره.

فأبطل الله مقالتهم هذه، وأوضح أنه لا يقرب إلى الله إلا الإيمان والعمل الصالح، فإن الله يعطي المال والدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، لكنه لا يعطي الآخرة إلا لمن أحب،

قال عز وجل:

وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون

وهذا ارتقاء في الرد من إبطال الملازمة التي توهموها إلى الاستدلال على أنهم ليسوا بمحل الرضى عند الله عز وجل، وهذا ما يسمى في علم المناظرة نقضا تفصيليا لإبطال دعوى الخصم.

ثم بعد أن أبطل الله مزاعم المشركين في أن تكون الأموال والأولاد بذاتها وسيلة قرب لدى الله - عز وجل - أبان لهم أن المال إن استعمل في طلب مرضاة الرب بالإنفاق فيما أذن فيه الشرع فإن الانتفاع به ثابت بما يجلبه من الثواب وما يدخره الله - عز وجل - للمنفق، فقال - عز وجل - عقب الآيات السابقة:

قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين

ثالثا. الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده امتحانا واختبارا فضلا عن كونه استدراجا للمستكبرين كما حدث مع قارون:

ومن اللفتات الطيبة التي نبه عليها الحق - عز وجل - في كتابه بشأن هذه المسألة في موطن آخر ما أرشد إليه القرآن من أن إعطاء الأموال والأولاد لهؤلاء المغرورين ليس لكرامتهم على الله ولا معزتهم لديه، فليس الأمر كما يزعمون ويتوهمون، لقد خاب رجاؤهم وضل مسعاهم، فإنما يفعل بهم ذلك استدراجا وإنظارا وإملاء،

قال عز وجل:

أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون

وقال أيضا:

إنما نملي لهم ليزدادوا إثما

وقال:

ذرني ومن خلقت وحيدا (11) وجعلت له مالا ممدودا (12) وبنين شهودا (13) ومهدت له تمهيدا (14) ثم يطمع أن أزيد (15) كلا إنه كان لآياتنا عنيدا (16) سأرهقه صعودا 

وقال:

لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد (196) متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد 

وقال:

نمتعهم قليلا ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ

وقال أيضا:

ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون

وقال:

فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون

وأوضح مثال على ذلك ما حدث مع قارون؛ فقد زعم أنه أوتى المال بمهارته وذكائه وليس من فضل الله وتوفيقه، فقد قال مقولة يقولها كل من قل علمه إذا رأى من وسع الله عليه حيث يقول: لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي ما أعطي، ولولا أنه عند الله خصيص وذو حظوة ما خوله هذا، ولولا رضا الله عنه ومعرفته بفضله ما أعطاه هذا المال، كما قال الله - عز وجل - مخبرا عن شأن الإنسان عموما في حال جحوده:

فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم

وتلك مقولة كثير ممن سلف من الأمم ودعوى يدعيها كل جاحد،

قال عز وجل:

قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون

وقد رد الله عليه هو وأمثاله ادعاءهم هذا، وأبطل زعمهم أنهم أوتوا ذلك بسبب علمهم وفطنتهم وتدبيرهم، وبين لهم أن هذا من باب الفتنة فليس ما أنتم فيه من خير نتيجة لمساعيكم، بل ما أوتيتم من نعمة إنما آتاكم الله إياها ليظهر للأمم مقدار شكركم وهو فتنة تختبرون بها،

قال عز وجل:

بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون

فإن سعة الرزق قد تكون استدراجا ومكرا، وتقتيره قد يكون رفعة وإعظاما، وفي هذا عبرة لمن يعتبر من المؤمنين المتفكرين،

قال عز وجل:

أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون

ومن ردود القرآن في مواضع أخرى ما أنكره الله على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله - عز وجل - عليه في الرزق فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان، كما

قال عز وجل:

أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين (55) نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون

وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق يعتقد أن ذلك من الله إهانة له، ولذا قال - عز وجل - عقب ذلك:

فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن (15) وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن 

أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا، فإن الله - عز وجل - يعطى المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في كل من الحالين على طاعة الله، إذا كان الإنسان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرا بأن يصبر.

ومن هنا يبين القرآن أن الرزق قد جعل الله له أسبابا وسننا في هذه الحياة الدنيا، ولذا قال لمن ادعوا أنهم أوتوا المال على علم:

أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر

فمن ادعى أن الإعطاء دليل الكرامة والاستحقاق والقرب إلى الله فزعمه باطل مردود، وتأويله فاسد مدحض،

ولذا قال عز وجل:

وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا

وقال:

قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا (103) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا (104) أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا 

فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه، ورب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، فمناط الردع جعل الإنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير علامة على إرادة الإهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإهانة؛ لأن الله - عز وجل - أهان الكافر بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق، وهكذا شأن الله في معاملته للناس في هذا العالم، له أسرار وعلل لا يحاط بها، وأهل الجهالة والضلالة، بمعزل عن إدراك سرها بأقيسة وهمية، والأولى لهم أن يطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله، وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها، وأن يستنتجوا الفروع من غير أصولها، أما العلماء فهم يضعون الأشياء في مواضعها ولا يخلطون ولا يخبطون، ولذا أعقب الله الرد على من ادعوا أنهم أوتوا المال بسبب علمهم وذكائهم وحيلهم

فقال:

بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون

وقال لقارون:

أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا

والمعنى: أو لم يعلم قارون حين زعم أنه أوتي الكنوز لفضل علم عنده فاستحق بذلك أن يؤتى ما أوتي من الكنوز، أن الله قد أهلك من قبله من الأمم من هو أشد منه بطشا، وأكثر جمعا للأموال، ولو كان الله يؤتى الأموال من يؤتيه لفضل فيه وخير عنده ولرضاه عنه لم يكن يهلك من أهلك من أرباب الأموال الذين كانوا أكثر منه مالا؛ لأن من كان الله راضيا عنه فمحال أن يهلكه الله وهو عنه راض، وإنما يهلك من كان عليه ساخطا.

الخلاصة:

·غرض هؤلاء المشركين من هذه الشبهة إدخال الشك على المستضعفين من المؤمنين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه المحق في دينه، ومن قل ماله دل على أن ما هو عليه من دين هو باطل، وكأنهم لم يروا في الكفار فقيرا ولا في المؤمنين غنيا، ولم يعلموا أن الله - عز وجل - نـحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها.

·هذه الشبهة طالما أثارتها كثير من الأمم الضالة المكذبة لرسلها، فقوم نوح يقولون له: )قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون (111)( (الشعراء) وقوم صالح من المترفين يقولون للمستضعفين منهم: )أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه( (الأعراف: ٧٥)س، ويقولون أيضا له: (إنا بالذي آمنتم به كافرون)(الأعراف)، وأهل مكة يقولون: (لو كان خيرا ما سبقونا إليه) (الأحقاف: 11).

·يقصدون بذلك المستضعفين من المؤمنين أمثال بلال، وصهيب، وعمار، وخباب، ونحوهم - رضي الله عنهم - وقد أبطل الله زعمهم وأبان أنه أهلك قرونا كثيرة كانوا أرفه من مشركي العرب متاعا، وأجمل منهم منظرا وأحسن أثاثا، وأجمل صورا ومناظر، فأهلكناهم وغيرنا صورهم، وبدلنا النعمة والبهجة التي كانوا فيها لكفرهم واستكبارهم، فقال عز وجل: (وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا)(مريم).

·وقد رد الله على هؤلاء شبهتهم في مواضع كثيرة من كتابه وأبان أنها قائمة على حجة موهومة ودليل سوفسطائي مزعوم؛ إذ لم يفطنوا إلى أن أحوال الدنيا في الغنى والفقر مسببة على أسباب قدرها الله ولا علاقة لها بصحة الدين أو بطلان المعتقد، وقد يرزق الله الإنسان رغدا في العيش وسعة في الرزق استدراجا وإملاء، كما قال عز وجل:(إنما نملي لهم ليزدادوا إثما) (آل عمران: 178)، وقال: (ونذرهم في طغيانهم يعمهون)(الأنعام:110)، وعلى هذا فمقولتهم تلك ناشئة عن غلط في الفهم وفساد في الفكر وخطأ في القياس، وقد فصلنا الرد على هذه الشبهة عند الحديث عن قوله عز وجل: )وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين)(سبأ:35)، وكذلك عند قوله عز وجل: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) (الأحقاف: 11).

 

المرفقات

المصدر

أضف تعليقا