تواصل معنا

هل الفطرةُ تدُلُّ على وجودِ اللهِ وتوحيدِه؟ (مقالة)

الوصف

كثيرًا ما يُستدَلُّ على وجودِ اللهِ وتوحيدِهِ بالفطرةِ، أليست الفطرةُ قابلةً للشكِّ والخطأ؟

مقالة

الجواب التفصيلي

الجوابُ التفصيليّ:

اللهُ تعالى خلَقَ عبادَهُ على الفطرةِ، والفطرةُ هي المِلَّةُ؛ كما جاء مصرَّحًا به في رواية.

ونُشيرُ أوَّلًا: إلى أنه قد ذهَبَ بعضُ أهلِ العلمِ: إلى أن الفطرةَ المذكورةَ في الحديثِ، هي السلامةُ، بمعنى: أنه ليس معه معرفةٌ ولا إنكارٌ، ولا كفرٌ ولا إيمانٌ.

ويَقدَحُ في هذا القولِ: أن قولَهُ تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم: 30]، أضاف فيه تعالى الفطرةَ إليه إضافةَ مدحٍ، لا إضافةَ ذمٍّ؛ كما أنه أمَرَ نبيَّهُ ^ بلزومِها؛ فكيف تكونُ لا ممدوحةً ولا مذمومةً؟!

وأيضًا: فإن النبيَّ ^ شبَّهها: بالبهيمةِ المجتمِعةِ الخَلْقِ، وشبَّه ما يَطرَأُ عليها مِن الكُفْرِ: بجَدْعِ الأنفِ والأُذُن، ومعلومٌ أن كمالَ الخِلْقةِ ممدوحٌ، ونَقْصَها مذمومٌ؛ فكيف تكونُ قبلَ النقصِ لا ممدوحةً ولا مذمومةً؟!

وإذا ثبَتَ أن هذا القولَ مرجوحٌ، فنبيِّنُ أن القولَ الراجحَ في دَلَالةِ الفطرةِ على معرفةِ اللهِ تعالى: أن الفطرةَ التي فطَرَ اللهُ الناسَ عليها تقتضي معرفةَ اللهِ تعالى الباعثةَ على محبَّتِهِ وشُكْرِه، وأن اللهَ تعالى لو لم يُرسِلْ رسُلَهُ، ولم يُنزِلْ كتُبَهُ، لكان في الفطرةِ والعقلِ ما يقتضي شكرَهُ وإفرادَهُ بالعبادة، كما أن فيهما ما يَقْتضي جلبَ المنافعِ، واجتنابَ المضارِّ، ولا فرقَ بينهما في الفطرةِ والعقل؛ فإن اللهَ فطَرَ خليقَتَهُ على محبَّتِهِ، والإقبالِ عليه، وابتغاءِ الوسيلةِ إليه، وأنه لا شيءَ على الإطلاقِ أحَبُّ إليها منه، وإن فسَدَتْ فِطَرُ أكثرِ الخلقِ بما طرَأَ عليها مما اقتطَعَها واجتالَهَا عما خُلِقَ فيها.

وقد بيَّن الشيخُ عبدُ الرحمنِ المعلِّميُّ رحمه اللهُ تعالى في كلامٍ مُهِمٍّ له ما يتعلَّقُ بإطلاقاتِ «الفطرةِ»، وننقُلُ كلامَهُ بشيءٍ مِن التصرُّفِ لأهميَّتِهِ، وامتيازِهِ في هذا الموضوع:

فقد بيَّن رحمه اللهُ تعالى: أن «الفطرةَ» يُرادُ بها: ما يعُمُّ:

- الهدايةَ الفطريَّةَ، والشعورَ الفطريَّ.

- والقضايا التي يسمِّيها أهلُ النظَرِ: «ضروريَّاتٍ وبدَهيَّاتٍ».

- والنظَرَ العقليَّ العاديَّ، ونعني به: ما يتيسَّرُ للأُمِّيِّين ونحوِهم ممن لم يَعرِفْ علمَ الكلامِ ولا الفلسفةَ.

وسيكونُ الجوابُ عن الشبهةِ المذكورةِ بالحديثِ عن هذه الأنواعِ الثلاثة: «الهدايةُ والشعورُ الفطريُّ»، و«الضروريَّاتُ والبَدَهيَّاتُ»، و«النظَرُ العقليُّ العاديُّ»؛ كما قرَّر ذلك الشيخُ المعلِّميُّ رحمه الله:

فالهدايةُ والشعورُ الفطريَّان:

يتَّضِحانِ ويتَّضِحُ عُلُوُّ درجَتِهما بالنظَرِ في أحوالِ البهائمِ، والطيرِ، والحَشَرات؛ كالنحل، والنمل.

نذكُرُ مِن ذلك مِثالًا واحدًا: لو أنك أخَذْتَ فِراخَ حَمَامٍ عَقِبَ خروجِها مِن البَيْضِ، فاعتنَيْتَ بحفظِها وتغذيتِها وتربيتِها بعيدةً عن جنسِها، لَوجَدتَّها بعد أن تكبُرَ يأتلِفُ الذكَرُ والأنثى منها؛ فلا يَلبَثانِ أن يبادِرا إلى تهيئةِ موضعٍ مناسِبٍ لوضعِ البَيْضِ وحفظِهِ وحَضْنِه، فيختارانِ موضعًا صالحًا لذلك، ثم يتلمَّسانِ ما يمهِّدانِهِ به مِن الحَشِيشِ ونحوِهِ، ثم تضَعُ الأنثى البيضَ، ثم يتناوَبانِ حَضْنَهُ، فإذا خرَجَتِ الفِراخُ، تناوَبَا حَضْنَها وتغذيتَها بما يصلُحُ لها، فإذا كَبِرَتْ وقَوِيَتْ على تناوُلِ الحَبِّ والماءِ بأنفُسِها، أخَذَا يُلجِئانِها إلى ذلك بالإعراضِ عن زَقِّها، فإذا قَوِيَتْ على الطيَرانِ، هجَرَاها وطرَدَاها، كأنهما لا يَعرِفانِها؛ فإذا تدبَّرْتَ هذا الصنيعَ ونتائجَهُ، وجَدتَّهُ صوابًا كلَّه.

ولعلَّك لو تتبَّعْتَ أحوالَ الطيرِ، لوَجَدتَّ ما هو ألطَفُ مِن هذا وأدَقُّ، وكذلك مَن تتبَّعَ أحوالَ النحلِ والنملِ، وجَدَ أكثرَ مِن هذا وألطَفَ.

فإن كان للحَمَامِ شعورٌ بأن الائتلافَ سببُ البَيْضِ، وأن البيضَ يحتاجُ إلى ما ذُكِرَ، فتخرُجُ منه فِراخٌ، إلى غيرِ ذلك، فهذا هو الشعورُ الفطريّ.

وإن لم يكن هناك شعورٌ، وإنما هو انسياقٌ إلى تلك الأفعالِ، مع الجهلِ بما يترتَّبُ عليها، فتلك هي الهدايةُ الفطريَّة.

وعلى كلِّ حالٍ: فالإصابةُ في ذلك أكثرُ مِن إصابةِ الإنسانِ في كثيرٍ مما يستدِلُّ عليه بعقلِه.

ومَن تدبَّر حالَ الإنسانِ، وجَدَ له نصيبًا مِن ذلك في شأنِ حفظِ حياتِه، وبقاءِ نَسْلِه.

نعم؛ إنه اكتُفِيَ له في بعضِ الأمورِ بعقلِهِ، لكنَّ ذاك العقلُ العاديُّ، فأما العقلُ التعمُّقيُّ، فلم يُوكَلْ إليه في الضروريَّات.

والذي نريدُ أن نصلَ إليه - بعد ما تقدَّم في الجوابِ على هذه الشبهة -: أن نقولَ: إذا أحاطت العنايةُ الربانيَّةُ الطيرَ والبهائمَ والحشَراتِ إلى تلك الدرَجة، وأحاطت الإنسانَ أيضًا في حفظِ حياتِه، وبقاءِ نَسْلِه، وغيرِ ذلك، فما عسى أن يكونَ حالُها في حِياطةِ الإنسانِ فيما إنما خُلِقَ لأجلِه؟!

فإذا وجَدْنا للإنسانِ شيئًا مِن هذا القَبِيلِ في شأنِ وجودِ اللهِ تبارَكَ وتعالى، وعُلُوِّهِ على خلقِه، وعلمِهِ وقدرتِهِ وغيرِ ذلك مِن صفاتِه، فمِن الحقِّ على العقلِ: ألا يستهِينَ بذلك، زاعمًا أنه قضيَّةٌ وهميَّةٌ، كيف وقد شَهِدَ له العقلُ والشرع؟!

 وأما القضايا الضروريَّةُ والبَدَهيَّة:

فقد اتفَقَ علماءُ المعقولِ: أنها رأسُ مالِ العقل، وأن النظَرَ والاستدلالَ إنما يُرْجَى منه حصولُ المقصودِ ببنائِهِ عليها، وإسنادِهِ إليها.

وأما إنكارُ بعضِ الناسِ أن يكونَ العقلُ مِن أسبابِ المعرفةِ أصلًا، محتجِّين بأن أحكامَهُ متناقِضةٌ، وهذا منهم تعنُّتٌ ومكابَرةٌ -: فإن العلومَ الثابتةَ ببديهةِ العقلِ ضروريَّةٌ، كالمحسوساتِ؛ مثلُ العِلمِ بـ «أن الشيءَ أعظمُ مِن جزئِه، وأن جزأَهُ أصغرُ مِن كلِّه»، وكالعِلمِ بالمستوِيَيْنِ في الزمانِ إذا اتَّصَفَ أحدُهما بالتناهي في الوجودِ، كان الآخَرُ متناهِيًا مثلَهُ ضرورةً.

ولو أراد أحدٌ أن يشكِّكَ نفسَهُ في مثلِ هذه الأحكامِ العقليَّةِ الضروريَّةِ الفطريَّةِ، لعَجَزَ عن ذلك.

فمَن أنكَرَ حُكْمَ الفطرةِ على الإطلاقِ، وأن تكونَ مِن أسبابِ المعارفِ -: فهو بمنزلةِ مَن يُنكِرون الحواسَّ، ويُعامَلُ معامَلتَهم:

كأن يقالَ له: «بِمَ عَلِمتَ أن الفطرةَ ليست مِن أسبابِ المعرفة؟»:

فإن قال: «بالفطرةِ والضرورةِ العقليَّة»، نقَضَ مذهَبَه.

وإن قال: «بالحسِّ الظاهر»، كذَبَ؛ فإن الفطرةَ والعقلَ عَرَضٌ (معنًى) لا يُحَسُّ بالحواسِّ الظاهرة؛ وهو يُنكِرُ الحسَّ أصلًا.

وإن قال: «بالسمع»، فهذا أكثرُ دَلالةً على نقضِ مذهبِهِ؛ فإن معرفةَ صحَّةِ السمعِ لا تكونُ إلا للعقلاءِ الذين صَحَّ منهم النظرُ العقليُّ.

فلم يَبْقَ لهم دليلٌ على زعمِهم إلا المكابَرةُ والعنادُ، وقد أجمَعَ العلماءُ أنه لا مناظَرةَ مع هؤلاء.

وأما النظَرُ بالعقلِ العاديِّ:

فقد اعتدَّت به الشرائعُ، وبنَتْ عليه التكليفَ، ودعَتْ إليه، وحضَّت عليه.

وعلماءُ المعقولِ مصرِّحون بأن الدليلَ العقليَّ كلما كان أقرَبَ مَدرَكًا، وأسهَلَ تناوُلًا، وأظهَرَ عند العقلِ، كان أجدَرَ بأن يُوثَقَ به.

ولا ريبَ في قصورِ العقلِ العاديِّ في بعضِ المطالبِ، لكنَّ ذلك فيما ليس مطلوبًا شرعًا.

فأما المطلوبُ شرعًا: فإن اللهَ تعالى أعَدَّ العقولَ العاديَّةَ لإدراكِهِ، وأعَدَّ لها ما يسدِّدُها فيه؛ مِن الفطرةِ، والآياتِ الظاهرةَ في الآفاقِ والأنفُسِ، ثم أكمَلَ ذلك بالشرعِ، فإذا انقاد العقلُ العاديُّ للشرعِ، وامتثَلَ هُداهُ، واستضاء بنورِه، فقد أَمِنَ ما يُخْشى مِن قصورِه.

والذي يقَعُ به التناقُضُ في أحكامِ العقلِ هو الإخلالُ بأحدِ شروطِ صحَّةِ النظَرِ العقليِّ؛ وهي ثلاثةٌ:

أوَّلُها: أن يكونَ الناظرُ كامِلَ الآلةِ، بأن يَعرِفَ كيفيَّةَ ترتيبِ الأدلَّةِ بعضِها على بعض.

ثانيها: أن يكونَ النظرُ في دليلٍ لا في شبهةٍ؛ ومِن ههنا أخطَأَ مَن لم يُوفَّقْ لإصابةِ الدليل؛ حيثُ كان نظرُهُ في شبهةٍ.

ثالثُها: أن يستوفِيَ الدليلَ بشروطِه؛ فيقدِّمَ ما يجبُ تقديمُه، ويؤخِّرَ ما يجبُ تأخيرُه، ويعتبِرَ ما يجبُ اعتبارُه، ويُلغِيَ ما يجبُ إلغاؤُه؛ لأنه متى لم يستوفِ الدليلَ بشروطِه، بل تعلَّق بطرَفِ الدليل، أخطَأَ الحُكْمَ، ولم يصلْ إلى المقصود.

اللهُ تعالى خلَقَ عبادَهُ على الفطرةِ، والفطرةُ هي المِلَّةُ؛ كما جاء مصرَّحًا به في رواية.

ونُشيرُ أوَّلًا: إلى أنه قد ذهَبَ بعضُ أهلِ العلمِ: إلى أن الفطرةَ المذكورةَ في الحديثِ، هي السلامةُ، بمعنى: أنه ليس معه معرفةٌ ولا إنكارٌ، ولا كفرٌ ولا إيمانٌ.

ويَقدَحُ في هذا القولِ: أن قولَهُ تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ} [الروم: 30]، أضاف فيه تعالى الفطرةَ إليه إضافةَ مدحٍ، لا إضافةَ ذمٍّ؛ كما أنه أمَرَ نبيَّهُ ^ بلزومِها؛ فكيف تكونُ لا ممدوحةً ولا مذمومةً؟!

وأيضًا: فإن النبيَّ ^ شبَّهها: بالبهيمةِ المجتمِعةِ الخَلْقِ، وشبَّه ما يَطرَأُ عليها مِن الكُفْرِ: بجَدْعِ الأنفِ والأُذُن، ومعلومٌ أن كمالَ الخِلْقةِ ممدوحٌ، ونَقْصَها مذمومٌ؛ فكيف تكونُ قبلَ النقصِ لا ممدوحةً ولا مذمومةً؟!

وإذا ثبَتَ أن هذا القولَ مرجوحٌ، فنبيِّنُ أن القولَ الراجحَ في دَلَالةِ الفطرةِ على معرفةِ اللهِ تعالى: أن الفطرةَ التي فطَرَ اللهُ الناسَ عليها تقتضي معرفةَ اللهِ تعالى الباعثةَ على محبَّتِهِ وشُكْرِه، وأن اللهَ تعالى لو لم يُرسِلْ رسُلَهُ، ولم يُنزِلْ كتُبَهُ، لكان في الفطرةِ والعقلِ ما يقتضي شكرَهُ وإفرادَهُ بالعبادة، كما أن فيهما ما يَقْتضي جلبَ المنافعِ، واجتنابَ المضارِّ، ولا فرقَ بينهما في الفطرةِ والعقل؛ فإن اللهَ فطَرَ خليقَتَهُ على محبَّتِهِ، والإقبالِ عليه، وابتغاءِ الوسيلةِ إليه، وأنه لا شيءَ على الإطلاقِ أحَبُّ إليها منه، وإن فسَدَتْ فِطَرُ أكثرِ الخلقِ بما طرَأَ عليها مما اقتطَعَها واجتالَهَا عما خُلِقَ فيها.

وقد بيَّن الشيخُ عبدُ الرحمنِ المعلِّميُّ رحمه اللهُ تعالى في كلامٍ مُهِمٍّ له ما يتعلَّقُ بإطلاقاتِ «الفطرةِ»، وننقُلُ كلامَهُ بشيءٍ مِن التصرُّفِ لأهميَّتِهِ، وامتيازِهِ في هذا الموضوع:

فقد بيَّن رحمه اللهُ تعالى: أن «الفطرةَ» يُرادُ بها: ما يعُمُّ:

- الهدايةَ الفطريَّةَ، والشعورَ الفطريَّ.

- والقضايا التي يسمِّيها أهلُ النظَرِ: «ضروريَّاتٍ وبدَهيَّاتٍ».

- والنظَرَ العقليَّ العاديَّ، ونعني به: ما يتيسَّرُ للأُمِّيِّين ونحوِهم ممن لم يَعرِفْ علمَ الكلامِ ولا الفلسفةَ.

وسيكونُ الجوابُ عن الشبهةِ المذكورةِ بالحديثِ عن هذه الأنواعِ الثلاثة: «الهدايةُ والشعورُ الفطريُّ»، و«الضروريَّاتُ والبَدَهيَّاتُ»، و«النظَرُ العقليُّ العاديُّ»؛ كما قرَّر ذلك الشيخُ المعلِّميُّ رحمه الله:

فالهدايةُ والشعورُ الفطريَّان:

يتَّضِحانِ ويتَّضِحُ عُلُوُّ درجَتِهما بالنظَرِ في أحوالِ البهائمِ، والطيرِ، والحَشَرات؛ كالنحل، والنمل.

نذكُرُ مِن ذلك مِثالًا واحدًا: لو أنك أخَذْتَ فِراخَ حَمَامٍ عَقِبَ خروجِها مِن البَيْضِ، فاعتنَيْتَ بحفظِها وتغذيتِها وتربيتِها بعيدةً عن جنسِها، لَوجَدتَّها بعد أن تكبُرَ يأتلِفُ الذكَرُ والأنثى منها؛ فلا يَلبَثانِ أن يبادِرا إلى تهيئةِ موضعٍ مناسِبٍ لوضعِ البَيْضِ وحفظِهِ وحَضْنِه، فيختارانِ موضعًا صالحًا لذلك، ثم يتلمَّسانِ ما يمهِّدانِهِ به مِن الحَشِيشِ ونحوِهِ، ثم تضَعُ الأنثى البيضَ، ثم يتناوَبانِ حَضْنَهُ، فإذا خرَجَتِ الفِراخُ، تناوَبَا حَضْنَها وتغذيتَها بما يصلُحُ لها، فإذا كَبِرَتْ وقَوِيَتْ على تناوُلِ الحَبِّ والماءِ بأنفُسِها، أخَذَا يُلجِئانِها إلى ذلك بالإعراضِ عن زَقِّها، فإذا قَوِيَتْ على الطيَرانِ، هجَرَاها وطرَدَاها، كأنهما لا يَعرِفانِها؛ فإذا تدبَّرْتَ هذا الصنيعَ ونتائجَهُ، وجَدتَّهُ صوابًا كلَّه.

ولعلَّك لو تتبَّعْتَ أحوالَ الطيرِ، لوَجَدتَّ ما هو ألطَفُ مِن هذا وأدَقُّ، وكذلك مَن تتبَّعَ أحوالَ النحلِ والنملِ، وجَدَ أكثرَ مِن هذا وألطَفَ.

فإن كان للحَمَامِ شعورٌ بأن الائتلافَ سببُ البَيْضِ، وأن البيضَ يحتاجُ إلى ما ذُكِرَ، فتخرُجُ منه فِراخٌ، إلى غيرِ ذلك، فهذا هو الشعورُ الفطريّ.

وإن لم يكن هناك شعورٌ، وإنما هو انسياقٌ إلى تلك الأفعالِ، مع الجهلِ بما يترتَّبُ عليها، فتلك هي الهدايةُ الفطريَّة.

وعلى كلِّ حالٍ: فالإصابةُ في ذلك أكثرُ مِن إصابةِ الإنسانِ في كثيرٍ مما يستدِلُّ عليه بعقلِه.

ومَن تدبَّر حالَ الإنسانِ، وجَدَ له نصيبًا مِن ذلك في شأنِ حفظِ حياتِه، وبقاءِ نَسْلِه.

نعم؛ إنه اكتُفِيَ له في بعضِ الأمورِ بعقلِهِ، لكنَّ ذاك العقلُ العاديُّ، فأما العقلُ التعمُّقيُّ، فلم يُوكَلْ إليه في الضروريَّات.

والذي نريدُ أن نصلَ إليه - بعد ما تقدَّم في الجوابِ على هذه الشبهة -: أن نقولَ: إذا أحاطت العنايةُ الربانيَّةُ الطيرَ والبهائمَ والحشَراتِ إلى تلك الدرَجة، وأحاطت الإنسانَ أيضًا في حفظِ حياتِه، وبقاءِ نَسْلِه، وغيرِ ذلك، فما عسى أن يكونَ حالُها في حِياطةِ الإنسانِ فيما إنما خُلِقَ لأجلِه؟!

فإذا وجَدْنا للإنسانِ شيئًا مِن هذا القَبِيلِ في شأنِ وجودِ اللهِ تبارَكَ وتعالى، وعُلُوِّهِ على خلقِه، وعلمِهِ وقدرتِهِ وغيرِ ذلك مِن صفاتِه، فمِن الحقِّ على العقلِ: ألا يستهِينَ بذلك، زاعمًا أنه قضيَّةٌ وهميَّةٌ، كيف وقد شَهِدَ له العقلُ والشرع؟!

وأما القضايا الضروريَّةُ والبَدَهيَّة:

فقد اتفَقَ علماءُ المعقولِ: أنها رأسُ مالِ العقل، وأن النظَرَ والاستدلالَ إنما يُرْجَى منه حصولُ المقصودِ ببنائِهِ عليها، وإسنادِهِ إليها.

وأما إنكارُ بعضِ الناسِ أن يكونَ العقلُ مِن أسبابِ المعرفةِ أصلًا، محتجِّين بأن أحكامَهُ متناقِضةٌ، وهذا منهم تعنُّتٌ ومكابَرةٌ -: فإن العلومَ الثابتةَ ببديهةِ العقلِ ضروريَّةٌ، كالمحسوساتِ؛ مثلُ العِلمِ بـ «أن الشيءَ أعظمُ مِن جزئِه، وأن جزأَهُ أصغرُ مِن كلِّه»، وكالعِلمِ بالمستوِيَيْنِ في الزمانِ إذا اتَّصَفَ أحدُهما بالتناهي في الوجودِ، كان الآخَرُ متناهِيًا مثلَهُ ضرورةً.

ولو أراد أحدٌ أن يشكِّكَ نفسَهُ في مثلِ هذه الأحكامِ العقليَّةِ الضروريَّةِ الفطريَّةِ، لعَجَزَ عن ذلك.

فمَن أنكَرَ حُكْمَ الفطرةِ على الإطلاقِ، وأن تكونَ مِن أسبابِ المعارفِ -: فهو بمنزلةِ مَن يُنكِرون الحواسَّ، ويُعامَلُ معامَلتَهم:

كأن يقالَ له: بِمَ عَلِمتَ أن الفطرةَ ليست مِن أسبابِ المعرفة؟:

فإن قال: بالفطرةِ والضرورةِ العقليَّة»، نقَضَ مذهَبَه.

وإن قال: بالحسِّ الظاهر، كذَبَ؛ فإن الفطرةَ والعقلَ عَرَضٌ (معنًى) لا يُحَسُّ بالحواسِّ الظاهرة؛ وهو يُنكِرُ الحسَّ أصلًا.

وإن قال: بالسمع، فهذا أكثرُ دَلالةً على نقضِ مذهبِهِ؛ فإن معرفةَ صحَّةِ السمعِ لا تكونُ إلا للعقلاءِ الذين صَحَّ منهم النظرُ العقليُّ.

فلم يَبْقَ لهم دليلٌ على زعمِهم إلا المكابَرةُ والعنادُ، وقد أجمَعَ العلماءُ أنه لا مناظَرةَ مع هؤلاء.

وأما النظَرُ بالعقلِ العاديِّ:

فقد اعتدَّت به الشرائعُ، وبنَتْ عليه التكليفَ، ودعَتْ إليه، وحضَّت عليه.

وعلماءُ المعقولِ مصرِّحون بأن الدليلَ العقليَّ كلما كان أقرَبَ مَدرَكًا، وأسهَلَ تناوُلًا، وأظهَرَ عند العقلِ، كان أجدَرَ بأن يُوثَقَ به.

ولا ريبَ في قصورِ العقلِ العاديِّ في بعضِ المطالبِ، لكنَّ ذلك فيما ليس مطلوبًا شرعًا.

فأما المطلوبُ شرعًا: فإن اللهَ تعالى أعَدَّ العقولَ العاديَّةَ لإدراكِهِ، وأعَدَّ لها ما يسدِّدُها فيه؛ مِن الفطرةِ، والآياتِ الظاهرةَ في الآفاقِ والأنفُسِ، ثم أكمَلَ ذلك بالشرعِ، فإذا انقاد العقلُ العاديُّ للشرعِ، وامتثَلَ هُداهُ، واستضاء بنورِه، فقد أَمِنَ ما يُخْشى مِن قصورِه.

والذي يقَعُ به التناقُضُ في أحكامِ العقلِ هو الإخلالُ بأحدِ شروطِ صحَّةِ النظَرِ العقليِّ؛ وهي ثلاثةٌ:

أوَّلُها: أن يكونَ الناظرُ كامِلَ الآلةِ، بأن يَعرِفَ كيفيَّةَ ترتيبِ الأدلَّةِ بعضِها على بعض.

ثانيها: أن يكونَ النظرُ في دليلٍ لا في شبهةٍ؛ ومِن ههنا أخطَأَ مَن لم يُوفَّقْ لإصابةِ الدليل؛ حيثُ كان نظرُهُ في شبهةٍ.

ثالثُها: أن يستوفِيَ الدليلَ بشروطِه؛ فيقدِّمَ ما يجبُ تقديمُه، ويؤخِّرَ ما يجبُ تأخيرُه، ويعتبِرَ ما يجبُ اعتبارُه، ويُلغِيَ ما يجبُ إلغاؤُه؛ لأنه متى لم يستوفِ الدليلَ بشروطِه، بل تعلَّق بطرَفِ الدليل، أخطَأَ الحُكْمَ، ولم يصلْ إلى المقصود.

مختصر الجواب

مضمونُ السؤال:

صاحبُ هذا السؤالِ يَرَى أنه لا دَلالةَ للفطرةِ أو العقلِ الضروريِّ على التوحيدِ والمعرفةِ، وهو يريدُ الوصولَ مِن ذلك إلى القولِ بأن معرفةَ اللهِ تعالى وتوحيدَهُ مسألةٌ وِجْدانيَّةٌ عاطفيَّةٌ فحَسْبُ، لا يُتوصَّلُ إليها بواسطةِ الفطرةِ، أو العقلِ الضروريّ.

مختصَرُ الإجابة:
إن الفطرةَ جاء ذكرُها في القرآنِ والسُّنَّةِ في صيغةِ المدحِ، وأخبَرَ النبيُّ ^ بأن كلَّ مولودٍ يُولَدُ على الفطرةِ، لكنَّ الفطرةَ قد يَعرِضُ لها ما يُخرِجُها عن أصلِها، مِن التحريفِ والتبديل، وليس ذلك قادحًا في دَلَالتِها على معرفةِ اللهِ تعالى، وتوحيدِهِ، ومحبَّتِه.
فإن الفطرةَ تَشمَلُ الهدايةَ إلى جلبِ المنافعِ، واجتنابِ المضارِّ، وتَشمَلُ المعارفَ الضروريَّةَ البدَهيَّةَ، وتَشمَلُ الاستدلالَ العقليَّ النظريَّ السليمَ؛ وهذه الثلاثةُ معتبَرةٌ في الوصولِ إلى معرفةِ اللهِ تعالى وتوحيدِه.
ويؤدِّي القدحُ في أجناسِ هذه الأدلَّةِ إلى القدحِ في المحسوس، ولا يخلو القادحُ فيها مِن الوقوعِ في التناقُضِ؛ إذْ إنه لا بدَّ أن يكونَ مهتديًا بهَدْيِ الفطرةِ في تحصيلِ مصالحِهِ اليوميَّة، والسعيِ في معايشِه.

 

المرفقات

المصدر

أضف تعليقا