تأليف
الوصف
مقالة
مقدمة:
تَعظيم الشعوبِ المسلمة للنُّصوص الشرعية أمرٌ بدهيٌّ معروف، وكلُّ مَنِ اطَّلع على التراث الإسلاميِّ يجد أنَّ السمَة التي اتَّسمت بها الشعوب الإسلامية في مختلف العصور هي التسليم للنصوص الشرعية وتعظيمُها، ويَظهر هذا جليًّا في كتاباتهم ورسائلهم؛ فهذا الشافعي -رحمه الله- سأله رجل عن مسألة، فقال: يُروى فيها كذا وكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له الرجل: يا أبا عَبدالله، أتقول به؟ فأرعدَ الشافعيُّ وانتفَض، وقال: أيُّ أرض تُقلُّني، وأي سماء تُظلُّني إذا رويتُ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم أقل به؟! نعم على السمع والبصر. وقال وكيع بن الجراح لشخصٍ اعترَض عليه بقول أحدِ التابعين: أقول لك: قال رسول الله، وتقول: قال إبراهيم؟! ما أحقَّك أن تُحبَس ثم لا تَخرج حتى تَنزِع عن قولك هذا!. وأمثال هذه الشواهد كثيرة.
إذًا فالشَّعب المسلم هويته واضحَة منذ شروق شمس الإسلام على العالم، وهي تعظيم النصوص، والانطلاق منها نحو فهم الحياة ومستجدَّات العصر، واستمرَّ الحال حتى وُجد المتكلِّمون ومَن بعدهم ممن يقدِّمون العقلَ على النَّقل، ويُقلِّلون من هيبة النُّصوص، إلا أنَّه ما لَبث أن كُشف عوارهم، وأُظهر ضلالهم، فلا تظنّ أنَّ الشعب المسلم يرضَى أن يقتحم أحدٌ سياجَ الإسلام المنيع بمصادمة النصوص أو الوقوف ضدَّها، ولكن ظهرت فئةٌ من الناس تدَّعي الاجتهاد في الدين في كلِّ شيء، وأنها تريد قراءةَ النص الدِّينيِّ قراءةً معاصرةً جديدة لم يقرأها السابقون، فأتوا بأحكامٍ أجنبيَّة عن الرُّوح الإسلامية، وبعيدة كل البعد عن النُّصوص الشرعية، وما هي إلا قيمٌ من ثقافاتٍ أخرى يحاولون إلباسَها لبوسًا إسلاميًّا، أو هي محاولةٌ لنزع المسلَّمات من الدِّين حتى يكونَ حسب مقاسِ ثقافات أخرى؛ لترضى عن هذا الدين وأهلِه! فيصوِّرونه للناس بصورةٍ مائعة، يظنُّون أنهم بذلك ينفون عن الدين التشدُّد والغلوَّ، وهم في الحقيقة يسعونَ في تشويه الإسلام، ويقفون حجر عثرة أمامَ وصولهِ بنقائِه وصفائِه وجماله إلى النَّاس.
تمهيد:
حينمَا فتح الشَّرع باب الاجتهاد ودعا إليه كان قد وضَع قبل ذلك محكماتٍ لا تُمس، وجعل الاجتهاد في غير تلك المحكمات حتى تكونَ الشَّريعة متَّفقةً ومُتماشِيَة مع كلِّ عصر، وفي الوقت ذاتِه تكونُ لها هويتها وشعائرها الخاصَّة والتي لا تذوب في ثقافاتِ الآخرين وهويَّاتهم مهما تقدَّم الزمن، فهذا الدِّين صالحٌ لكلِّ زمان ومكانٍ، والنَّبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله الله رحمةً للعالمين، ولا معنى لهذهِ العالمية إن أصبَحَ الدِّين مادةً هلاميَّة يُشكِّلها كل واحد كما يريد، وهو ما ابتُليت به الأمَّة للأسف مع موجة الحداثة بعد أن تصادَم الفكر العرَبي والفكر الغربي، وانبهَر بعض الناس بالمكينةِ المعرفية الغربية، فتأثروا بها وبكلِّ منتجاتِها، فراحوا يطبقون كثيرًا من نظرياتهم على الإسلام والنصوص الشرعية والعبادات المحكمة، ومن ذلك مسألة صيام رمضان ووجوبه.
فهل يمكن أن يكونَ للتقدُّم العلميِّ والازدهار المعرفيِّ دور في الاجتهاد مرةً أخرى في فرضية الصيام، بل وفي تغيير الحكم؟ وهل يمكن أن يؤثِّر الفرق بين مفهوم الفدية ومفهوم الكفَّارة على حكم الصيام؟ وهل يمكن أن يقضي الطرح الحداثي لحكم الصيام على الفقر في العالم؟!
في هذه الورقة سنناقش المهندس محمد شحرور في قراءته الجديدة للصيام كما يدَّعي.
الصيام فرضٌ محكم:
الصِّيام من آكَد الفرائِض التي فرضها الله على عباده، فقد جاءت في فرضه وبيانِه نصوصٌ محكمة، وهو يمثِّل أحدَ أركان الإسلام الخمسة والتي تشكِّل الإسلام، فمن أدلَّة وجوب صيام رمضان المحكمة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، ثم تفصيل ذلك في الآيات التي بعدَها والتأكيد على الوجوب مرة أخرى، يقول تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].
ومن الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحجّ، وصوم رمضان»
ومنها حديثُ الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثائِر الرَّأس، فقال: يا رسول الله، أخبرني ماذا فرض الله عليَّ من الصلاة؟ فقال: «الصلوات الخمس، إلا أن تطَّوَّع شيئًا»، فقال: أخبرني ما فرض الله عليَّ من الصيام؟ فقال: «شهر رمضان، إلا أن تطَّوَّع شيئا»، فقال: أخبرني بما فرض الله عليَّ من الزكاة؟ فقال: فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم شرائع الإسلام، قال: والذي أكرمك، لا أتطوَّع شيئًا، ولا أنقص مما فرض الله عليَّ شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أفلح إن صدق»، أو: «دخل الجنة إن صدق
ولسنا هنا بصدد التأصيل للمسألة فله مواضعه وعلى هذا بقيت الأمَّة تعمل بهذهِ النُّصوص، وترى فرض شهر رمضان على من توفَّرت فيه الشُّروط، فمن شهد الشَّهر وهو مقيم صحيح خاليًا من الموانع فإنه يصوم، ومن كان مسافرًا أو مريضًا فعدَّة من أيام أخر، ومن عجز عن الصَّوم فإنه يطعم عن كل يوم مسكينًا. هذه الأحكام الواضحة للصيام مضت عليها الأمة، بل وأجمعت عليها، يقول الكاساني: “وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على فرضية شهر رمضان، لا يجحدها إلا كافر”، ويقول ابن رشد الحفيد: “وأما الإجماع: فإنه لم ينقل إلينا خلافٌ عن أحد من الأئمة في ذلك”، ويقول ابن قدامة رحمه الله: “وأجمع المسلمون على وجوب صيام شهر رمضان”.
فالصِّيام أمرهُ واضحٌ بيِّنٌ للأمَّة، تواتروا على العمل به، حتى ظهرت فِئةٌ تدَّعي قراءة التُّراث قراءةً جديدةً معاصرة تأويليّة، خارجة حتى عن المعهود اللغويِّ، فضلًا عن كونها خارجةً عن العُرف الشَّرعي، وقد استمدُّوا آليات هذه القراءة من تجاربِ الغرب، غير مكترثين بالاختِلاف الديني، ولا بالعِصمة والحفظ، ولا بالتَّحريف والتغيير، فاستخدموا نفس ما استخدموه من بنيويَّةٍ وتفكيكية وسيميائية كما هي في الفكر الغربي، والتي كانت وليدةَ الصِّراع الحداثيذِ الغربي مع الدِّين الكهنوتيِّ، ومن هؤلاء الذي يزعمون أنهم يقدمون قراءة معاصرة وفكرا جديدًا للدين: المهندس محمَّد شحرور!
شحرور الذي منذ سنوات وهو يزعم أنه يقدِّم فكرًا جديدًا، ويقسِّم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسبما يريد ويشتهي، يأتي إلى العبادات فيقرؤها هي الأخرى قراءةً جديدة، فيقرِّر تارةً بأنَّ الحج يمكن أن يكون طيلة أربعة أشهر، وأنَّه ينبغي توزيع الناس على هذه الأشهر، ويقرر أخرى أنَّ الصيام المفروض ليس في شهر رمضان الذي نصومه، وإنما في الشَّهر الميلادي التاسع وهو شهر سبتمبر، كما أنَّ الصِّيام ركنٌ من أركان الإيمان وليس ركنًا من أركان الإسلام، ويرى أنَّ الإنسان مخيَّرٌ بين أن يصومَ أو يطعمَ عن كل يوم مسكينًا إذا لم يُرِدِ الصيام لأي سببٍ كان! وهذا الأخير هو ما نريد مناقشته في هذه الورقة.
تحت المجهر:
يرى شحرور أنَّ الأمَّة قد أخطأت في فهم آيات الصِّيام، وأنَّ الواجب على المسلمين ليس هو صيام رمضان كاملًا دون أيّ خيارٍ آخر، وإنما هو التَّخيير بين أن يصومَ الإنسان أو يطعم عن كلّ يوم مسكينًا. ولا يظن ظانٌّ أنَّ هذا للعاجز أو المريض، كلا؛ وإنَّما هذا الحكم للإنسان الصَّحيح المقيم القادر على الصيام لكن ليس له رغبة فيه، وهذا هو ما قرَّره شحرور في كثير من مقالاتِه وكتُبِه وهو ما يبثُّه في لقاءاتِه، ويستدلُّ على ذلك بعدَّة أدلَّة سنمرُّ عليها من خلال كلامه ثم نناقشها.
الدليل الأول: معنى {يُطِيقُونَهُ}
أظهرُ دليلٍ يتمسَّكُ به شحرور هو أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي: على الذين يقدِرُون على الصيام، فمن يقدر على الصيام مخيَّرٌ بين أن يصوم أو يدفع فدية.
يقول شحرور: “فالآية الأولى -أي: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}- هي المحكمة فيما يتعلَّق بالصِّيام، وما بعدها تفصيلٌ لها، وفي الآية الثَّانية حدَّد حالتين اثنتين: الأولى: حالة من لا يملكُون الطَّاقة للصِّيام جراء مرضٍ أو سفر، حيث بإمكانِهم تأجيل الصيام لحين المقدرة، والثانية: حالة من يملكون الطَّاقة؛ فإما دفع فدية مقابل عدم الصِّيام، أو الصيام وهو الأفضل؛ {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}” ويقول: ” أو (يطيقونه) أي: يتحمَّلون الصيام لكنهم لا يريدون لسببٍ ما، فعليهم دفع فدية ويقول أيضًا: “فهذا الشقّ من الآية يتوجَّه بالخطاب إلى الذين يطيقون صيام رمضان، أي: يقدرون على أدائه لكنَّهم لا يرغبون في ذلك لسببٍ أو لآخر، وهؤلاء تمَّ بيان حالتهم في هذا الشقِّ من الآية، وجعل لهم التنزيلُ الحكيم فدية مقابلةً عدمَ صيامهِم رمضانَ ممثَّلة في إطعامِ مسكين… لأنَّه مسألة اختياريَّة، ولا إجبار فيها
وقبل أن نُناقِش شحرورًا في هذا المعنى نودُّ أن نبيِّن أنَّ العبادات عند شحرور من المفترض أنَّها محكمة أي: لا يدخلها الاجتهادات، وهو ما أكَّده شحرور حين عرَّف المحكم بأنَّه “مجموعة الأحكام التي جاءَت إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، والتي تحتوي على قواعد السلوك الإنساني (الحلال واحرام) أي: العبادات والمعاملات والأخلاق والتي تشكِّل رسالته”. ولم يكتف شحرور بذلك، بل أكَّد أنَّ الصيام من المحكمات، فقد مثَّل بآية الصيام على المحكم في كتاب الله فقال: “وآياتُ الشَّعائر في التنزيل الحكيم كغيرها من الآيات المحكمات، جاءت مفصَّلة بآياتٍ لا مُحكمة ولا متشابهَة، وذلك لإتمام إحكامها وغلق بابِ الاجتهاد الإنساني فيها، مصداقًا لقوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]. ولنضرب على ذلك مثالَ الصَّوم الوارد في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، فهذه الآية المحكمة الوحيدة في موضوع الصَّوم تبيِّن أن الصِّيام كُتب على الذين آمنوا، ثمَّ تأتي آيات التفصيل لتوضيح كيفية أداء هذه الشعيرة”
فهو يصرِّح هنا أنَّ هناك آيةً واحدةً في الصيام هي محكمة، وباب الاجتهاد فيها مُغلق، وهي قولُه تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، ثم جاءَت الآيات التي بعدها تفصِّلها، وهي ليست محكمة. ويؤكِّد هذا في موطن آخر إذ يقول: “مسألة الصِّيام التي جاءت الآيةُ المحكمة فيها في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، فهذه الآية محكمةٌ لأنَّها مغلقة، ولا اجتهاد فيها بحيث جاءت بصيغةٍ مجرَّدة؛ كي تبين أن الصيام كُتب على المؤمنين من أمَّة الملة المحمدية، كما كتب على الأمم من قبلهِم، ولهذا فلا يسع الاجتهاد في الآية؛ لأنَّه لا يوجد فيها ما يمكننا أن نجتهد فيه لهذا فهي محكمة”
فإذا كان بابُ الاجتهاد مغلقًا في آية الصيام، فمن أين دخل عليها شحرور إذن؟!
وحتى إن قال بأنَّ الآيات التي بعدها تفصِّل هذه الآية المحكمة، فإنَّ هذا لا يفيد شيئًا، ولا يصرف دلالةَ هذه الآية المحكمة التي يقول الله فيها: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} دون أن يخيِّر الناس، فإذا كانت هذه الآية محكمةً، والله قد أوجبَ الصيام على الناس فيها، فكيف تأتي الآية بعدها لتقرِّر التخيير؟! فالأمران لا يجتمعان، فلا يمكن أن يقول المدرِّس لطلابه: أنا أوجب عليكم الحضورَ غدًا، ثم يقول لهم: من شاء حضر ومن شاء لم يحضُر، فالكلام الثاني هنا لا شكَّ أنَّه ألغَى الكلام الأوَّل الذي يفيدُ حكمًا جازمًا واحدًا، وهو ما نراه في آية الصوم المحكمَة التي باب الاجتهاد فيها مغلقٌ حسَب قول شحرور، لكنَّه هو أولُ من كسر هذا الباب وأدخل فيه اجتهاداتٍ لم تأتِ بها الأمَّة، وإن كان شحرور يرى أنَّ العبادات لا يجوز فيها الابتداع كما في قوله: “وبناءً عليه فإن الشَّعائر توقيفيَّة، ولا يجوز فيها الإبداع أبدًا أو التجديد؛ لأنَّ الإبداع فيها من الابتداع في الدِّين الإسلاميِّ، وهو مرفوضٌ في كل الملل”. فإنَّه قد رمى بهذا القول عرض الحائط حين ادَّعى أنه يجدِّد في مسألة الصيام.
علمًا أن قضية المحكم وغير المحكم عند شحرور قضيةٌ جدليَّة، ومعيارُه خاصٌّ به، والآيات المحكمَة عنده لا تتجاوز عشرين آية.
نرجِع إلى موضوعنا في التَّخيير فنقول: قال الله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، وهذه آية محكمةٌ باعتراف شحرور نفسه، فلِم لم يبيِّن الله في هذه الآية التخيير؟! فالتَّخيير يناقض إيجاب الشيء الواحد، والله سبحانه وتعالى ذكر أنَّه كتب علينا الصيام، فالواجب علينا إذن هو الصيام، ولسنا مخيَّرين في ذلك، وقد ذكَر ذلك مرةً أخرى بصورة جازمة أيضًا فقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فالله سبحانه إذن أوجَبَ الصِّيام، وبيَّن أنَّه كتبه علينا، والكتابة مُلزمة، ثم بيَّن أنَّ من شهدَ الشهرَ فعليه أن يصومَ، وحتى إن قلنا: إن الآية الثانيةَ مفصِّلة للأولى، وأن الثانية فيها التَّخيير، فماذا نفعل بالتي بعدَها وهيَ قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}؟! وهي متأخرة في ترتيب الآياتِ على آية التَّخيير، وقد لاحظ هذه الورطةَ شحرور في أحد مقاطعِه، فاستدرك وقال عن الآية الثَّالثة: إنها متعلقةٌ بالثَّانية لمن أراد أن يصومَ، فيكون المعنى حسب كلام شحرور: الله سبحانه قد أوجب الصيامَ على الناس، ثم خيَّرهم بين الصيام والفِدية، فمن أراد أن يصومَ أوجب عليه الصِّيام! فهل لهذا الإيجاب الثاني معنى؟! وإن كانت الآية الثالثة متعلقةً بالثانية لمن أراد أن يصوم فلم تكرَّر قوله: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 185]، أليس هؤلاء قد تحدَّث عنهم في الآية التي قبلهَا؟!
إذن فالآية ليست خاصَّةً بمن أراد أن يصومَ ولا يريدُ الفدية، وإنما هي لبيانِ الوجوب على النَّاس، فمن شهد الشهر فواجبٌ عليه الصيام، ومن كان مريضًا أو على سفرٍ فعدَّة من أيام أخر، وبهذا التفسير الذي تواتر عليه المفسِّرون من الأمة يستقيمُ المعنى.
أما تفسيره للآية بأنَّ معناها: من يقدر على الصيام فله أن يصومَ أو يفدي؛ لأنَّ معنى (يطيق) هنا أي: يقدر، فرأيه إنَّما هو قائمٌ على الترادُف بين كلمة (يطيق) و(يقدر)، ومن العجيب أنَّ المهندس يكرِّر مرارًا وتكرارًا أنَّ اللغة العربية لا ترادف فيها، وإن كان تأكيده أكثر على أن الترادف لا يوجد في القرآن، إلا أنَّه يقول أيضا برجحان عدمِ الترادف في اللغة العربية؛ لكنه هنا يقول بأن (يقدر) مرادفٌ لـ(يطيق)!
إذن لماذا جاء النَّصّ القرآني بكلمة (يطيقون) بدلا من (يقدرون)؟ هل ثمةَ فرقٌ بينهُما، أم أنَّ (يطيقونه) لا معنى لها إلا (يقدرون) كما يوهِم المهندس شحرور؟
جاءَت هذه الكلمة في المعاجم بمعنيين، أحدُهما: بمعنى يقدر عليه، والثاني: يتكلَّفه ويفعله بغاية المشقَّة والجهد، قال ابن منظور: “والطَّوق الطاقة أي: أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقَّة منه، وقال الزبيدي: “وقال غيره: الطوق: الطاقة، أي: أقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أن يفعله بمشقة منه”. فإذا كانت كلمة (يطيقونه) تأتي على معنى القدرة بمشقة بالغة فلِمَ اختار شحرور المعنى الأول دون الثاني؟! بل لم يذكر الثاني إطلاقًا؟! ما المعيار الذي انطلق منه لهذا الاختيار؟ وما أدلته على هذا الاختيار؟ ومن المعلوم أنَّ كل شيئين استويَا لا يترجَّح أحدهما على الآخر إلا بمرجح، فما المرجِّح عند شحرور؟ كل ذلك لم يبيِّنه، وإنما قال: (يطيقونه) بمعنى يقدرون عليه، ثم بنى عليه هذه المسألة الكبيرة التي تمسّ ركنًا من أركان الإسلام!
وهذا المعنى الثَّاني له شواهدُه الكثيرة؛ ولذلك استدلَّ به كثيرٌ من المفسرين، قال الطبري: “وقال آخرون ممن قرأ ذلك: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}: لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام السَّاعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه -في حال شبابهم وَحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم- إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم فدية طعام مسكين، لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار وهم على الصوم قادرون إذا افتدوا”، وقال الزمخشري: “ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أي: يصومونه جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم”، وقال الرَّازي: “قال ابن جنِّي: أما عين الطاقة فواو كقولهم: لا طاقة لي به، ولا طوق لي به، وعليه قراءة: (يُطَوَّقُونَهُ) فهو يُفَعَّلُونَه، فهو كقولك: يُجَشَّمُونَه، أي يُكَلَّفُونَه” ويقول العز بن عبد السلام: “(يُطَوَّقُونَهُ): يُكَلَّفُونَه فلا يقدرون عليه؛ كالشيخ والشيخة والحامل والمرضع”
وهناك من المفسِّرين من قال بأن (يطيقونه) من أطاق، والهمزة هنا هي همزة السَّلب، وهذا مثل أن تقول: أعجم الكتابَ إذا أزال عجمَته، يقول ابن جني وقد عقد بابًا كاملا في هذا المعنى: “أعجَمت الكتابَ إذا بيَّنته وأوضحته، فهو إذًا لسلب معنى الاستبهام لا إثباته” واستند على هذا أبو الفداء في تفسيره فقال: “وفي تفسير الشيخ: يطيق من أطاق فلان إذا زالت طاقته، والهمزة للسَّلب، أي: لا يقدرون على الصَّوم، وهم الذين قدروا عليه في حال الشَّباب ثم عجزوا عنه في حال الكبر”
ولست هنا بصدَد رصد الأقوالِ في الآية ولكن أنبِّه على أن ما ذهب إليه شحرور مخالفٌ لكلام أئمة التفسير قاطبة.
ولكن أليس من المفسِّرين من قال بقول شحرور؟! أعني: أليس هناك من قال بأن (يطيقونه) أي: يقدرون عليه؟!
بلى، ولكن كلُّ من قالَ بذلك قد قالوا بعدَه: إنَّ هذه الآية قد نُسخت بالآية المحكمَة بعدها وهي قوله تعالى: {فَلْيَصُمْهُ}، وقد نقل الطبري القول بالنسخ عن معاذ بن جبل وابن أبي ليلى وعلقمة والحسن البصري وغيرهم وممن قال بالنَّسخ في هذه الآية الزجاج، بل قد نقل في هذا الإجماع فقال: “فمعنى طعام مساكين: فدية أيام يفطر فيها، وهذا بإجماع وبنص القرآن منسوخ”. ومنهم ابن أبي حاتم والسمرقندي، والواحدي، والزمخشري والنسفي، وأبو الفداء، وغيرهم.
ومن العجيب أنَّ شحرورًا راح يتَّهم المفسِّرين بأنَّهم أقحَموا في الآية ما ليس منها، فهم قد قالوا في تفسير قوله: {يُطِيقُونَهُ} أي: (لا يطيقونه)، يقول: “فمن يطيق الصيام هو من له طاقة به، أمَّا ما نجده في كتب التفاسير عن معنى {يُطِيقُونَهُ} هو (لا يطيقونه)، ولا يدري أحد كيف أقحمت (لا) هذه!” ويقول أيضا: “لكن ما حدث أن الفقه الموروث فسَّر الآيات على هواه، فقال: إنَّ الآية الثالثة نسخَت الثانية، بمعنى أنَّ الله وضع في الكتاب آياتٍ لا داع لها، أما {يُطِيقُونَهُ} في كتب التفاسير فتعني: (لا يطيقونه)!”.
ويا سبحان الله! لك أن تقرأ وتتعجَّب! المفسرون يفسِّرون حسب أهوائِهم لأنهم يذكرون أدلتهم لما يقرِّرونه! ويبينون من أينَ أخذوا هذا القول! بل لا يقولون قولًا إلا إن كان لهم سلف من الصَّحابة الكرام، وكل هذا صار اتِّباعًا للهوى! أمَّا الاستناد إلى مجرَّد اللغة في كلمة {يُطِيقُونَهُ} ثم اختيار معنى واحد دون الثَّاني، ورمي كل كلام المفسرين عرض الحائط دون أن يقدِّم دليلا واحدًا يبرِّر له اختياره، فهذا اتباعٌ للحق وانقيادٌ للدليل!!
هذا التَّفسير الذي أتى به شحرور هو ما يدور عليه مجمَل كلامه في هذه المسألة، وإن كان يعرِّج على أشياء أخرى يذكرها اعتضادًا لهذا الدليل، وسنمرُّ عليها ونناقشها أيضًا بعون الله.
الدليل الثاني: التيسير
وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ومعنى هذا اليسر عند شحرور أن الناسَ إن أرادوا الصيامَ صاموا، وإن لم يريدوا أخرجوا الفدية، وفي هذا يقول: “ومن هنا نفهم قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وإلا أين اليُسر في صيام شهرين متتاليين كفارة عن إفطار يومٍ في رمضان لظروفٍ معيَّنة خارج المرض أو السَّفر؟! علمًا أنَّ هذه العقوبةَ لم ترد في التنزيل الحكيم إلا لقاءَ القتل غير العمد أو الظِّهار، وأين اليسر في صيام عامل بنَّاء يعمَل تحت الشمس، أو في صيام ما يتجاوز العشرين ساعة في بعض البُلدان؟!”، ويقول: “ولا أعلم كيف فسَّر السادة الفقهاء {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} إذا لم يترك أي فسحة لأن يفطر المرء غير المرض أو السفر؟!” ويقول أيضًا: “والمفارقة هنا أن السادة المفسرين وضعوا (لا) قبل {يُطِيقُونَهُ}، فيجد الباحث عن تفسير {يُطِيقُونَهُ}: (لا يطيقونه)، أو (يطيقونه بصعوبة)، وللخروج من هذا التَّناقض قالوا بأن الآية الثانية نسخَت الأولى، وحرَّموا على الناس الإفطار برمضان مهما كانت الأسباب عدَا المرض والسفر، وإلَّا صيام شهرين متتاليين، وقد يغفرُ الله وقد لا يغفر، مع أنَّ التنزيل الحكيمَ لم يقل بذلك، وصيام شهرين متتاليين هو كفَّارةُ قتل النفس بالخطأ، أو الظهار، فالصيام عقوبة لما فيه من مشقة”
بدايةً يا شحرور، ألم يكن عليك أن تفتح أيَّ كتاب في فقه الصيام لتُلقي نظرة واحدةً فقط عليه؛ حتى تعرف أحكام صيام رمضان، وكفارة الإفطار فيه، فمن أين لك بهذه الفهوم، أم أنها من تجليات القراءة التجديديَّة المعاصرة؟!
ولكن لنتجاوز هذا إلى الأمر الآخر، وهو أنَّ عمَّال المناجم أو من هم في بلدان تطول فيها ساعات الصوم ويشقُّ عليهم الصيام لهم أن يفطِروا، يقول: “فالعاملُ في المنجم أو في الحرِّ لا يمكنه الامتناعُ عن الماء، ومن يعيش في شمال أوروبا قد لا يُمكنه صيام تسعة عشر ساعة أو أكثر في بعض الأحيان، والله تعالى أعطاه الحل بدفع الفدية”
نقول: هذه مسألة فرعيَّة اجتهادية تكلَّم فيها العلماء، ولم ينتظروا حتى يأتي شحرور ويبين للناس أن عمَّال المناجم وأصحابَ الأعمال الشاقَّة مخيَّرون بين الصيام والفدية! والمشكلة عند شحرور أنَّه يريد أن يأخذَ الاجتهادَ من هذه المسألة الضيِّقة، فيعمِّمها على كل الناس!
ثمَّ يأتي شحرور ويلمز الفقهاء ويقول: “إذا طبَّقنا هذا المفهوم في العصر الحالي نجده يتماشى مع ما نجده حاضرًا بحيث أنَّ انتشار المؤمنين من أمة المؤمنين (الملة المحمدية) في كل أصقاع العالم يدفعنا لإعادة الاجتهاد في الصِّيام؛ لأننا نجدهم حتى في المناطق التي يمتدُّ فيها اليوم إلى 20 ساعة أو أكثر، فهل يُعقل لهم صيام كل هذه المدة من اليوم حتى ولو كانوا يطيقون الصيام، أي: غير مسافرين وغير مرضى، وهناك من يكونُ في بلدٍ تغرب فيه الشمس مرةً كلَّ ستة أشهر، فهل يصوم السَّنة كلَّها أم يتَّبع توقيت مكة كما يفتي بذلك السادة الفقهاء المتقوِّلون على الله؟!”.
فانظر -يا رعاك الله- كيف جعل اجتهادَ الفقهاء في هذه المسَائِل تقوُّلًا على الله، أمَّا تحليله الإفطار ونقلُه رمضان من الشهر التاسع الهجري إلى التاسع الميلادي وجعلُه الحجَّ في أربعةِ أشهر كلُّ هذا ليس تقوُّلًا على الله!
والشَّاهد أنَّ اليُسر المذكور في الآية واضح الدلالة، فإن الله قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فحين رخَّص للمريض والمسافر بيَّن أن ذلك من اليسر، فلا يريد أن يشقَّ عليهم مع ما هم فيه من سفر أو مرض.
الدليل الثالث: الفرق بينَ الفدية والكفَّارة
ونعرِّج على دليل آخرَ من أدلته، أو على ما يستند إليه في تخييره بين الصيام والإفطار، وهو: أن الفدية قد سمَّاها الله فديةً لا كفارة، والفدية بدَل، أمَّا الكفارة فعقوبةٌ. وفي هذا يقول: “والثَّانية حالة من يملكون الطاقة، فإما دفع فدية مقابل عدَم الصيام، أو الصِّيام وهو الأفضل: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184]، ولم يقل: كفَّارة؛ لأن الكفارة للذنب، ولا يوجد ذنب مرتكَب هنا، بينَمَا الفدية هي استبدال أمرٍ مقابل آخر” وقال: “علماً أنَّ الفدية تختلف عن الكفارة، حيث لا ذنبَ لتكفِّر عنه إن أنت أفطرت، بينما الكفارة تُدفع لذنبٍ قمت به”، ويكرِّر هذا كثيرًا في مواضع كثيرةٍ، لا نحتاج إلى نقل كل كلامه؛ فإن المعنى واحد
وهذا الكلام لا طائِلَ منه، فإنَّنا لا ننكر أنَّ المطلوبَ هنا فدية، وأنَّ الفدية بدَل، ولم نقل: إنَّها كفارة! والفدية هنا بدل عن الصيام للكبير العاجز والمريض الذي لا يرجَى برؤه ومن في حكمهما، فهؤلاء يخرجون فديةً لا كفارة، فلا دليل له هنا البتة، ولا أدري كيف أن هذا يدلُّه على التخيير بين الصِّيام وعدمه؟!
الدليل الرابع: القضاء على الفقر
وهذا الدليل لا يقلُّ غرابةً عما قبلَه، فيرى شحرور أن السَّبيل للقضاء على الفقر في العالم هو إخراج هذه الفدية! يقول: “وتخيَّلوا لو أن نسبة 3% مثلًا من المسلمين الصائمين غصبًا دفعوا ما يعادِل إطعام شخص عن كل يوم أفطَروا به، ألا يكفي ذلك لإطعام كل جوعى العالم؟!”
وهل ضاقت السُّبل حتى نخترع الفطرَ في رمضان ونهدم مُحكمةً شَرعيَّة حتى نطعم الناس؟! من كمال هذا الدين الحنيف أنه لم يترك شيئًا هملًا، فهذا الجانب الذي يتكلَّم عنه شحرور قد غطَّته الشَّريعة بالزكاة والنَّدب إلى الصدَقة، وكوننا نحبّ أن يختفي الفقر من العالم وأن نطعم الجوعَى ونسد الفاقة لا يعني أن نسير إليه عبر هدمِ شيءٍ آخر هو من أركان الدين وأُسُسِه العظام!
وأخيرًا، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، والكتابةُ تعني الإلزام، وهي آيةٌ محكمةٌ من كلام الله، وأكَّدها الله مرةً أخرى بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وترك الله الخيارَ للمسافر والمريض أن يفطِروا ويقضُوا، وهو دليلٌ آخَر لنا؛ إذ كيف يأمرُ الله المريضَ والمسافر بالقضاء ثم يخيِّر الصَّحيحَ المقيم؟! أليس المريض والمسافر أولى بالفدية وعدم القضاء؟! لكن لَمَّا ألزمهم الله بالقضاء عرَّفنا أن غيرهم عليهم الأداء في وقته، ولا مجال هنا للتخيير، وشحرور الذي يلمز الفقهاء ويدَّعي أنه أتى بما لم تأت به الأوائل نسِي أن لا جديدَ في العبادة التي شرعَها الله وأحكَم دليلها، ولكن يأبى شحرور إلا أن يبرز عضلاته ويعلِي من اجتهاده فيقول: “إنَّ الاجتهاد بالمنهج المعاصر في شعيرة الصيام فيه من الميسرة للجميع؛ بحيثُ من أراد الصِّيام له ذلك، ومن أراد الفدية له ذلك، دون أن يخطئ أحدهما الآخر… وهذا ما لم يفهمه الفقهاء المعاصرون عندما تمسَّكوا بفقه القرون الثلاثة الأولى للبعثة المحمَّدية… على عكسنا نحن الآن الذين بفضل تطوُّر العلوم والتَّراكم المعرفي والمعلوماتي تمكَّنَّا من الوصول إلى إعادة فهم هذه الآية بعد الاجتهاد فيها لمعرفة مجال تطبيقِها كما جاءت به الرسالة المحمَّدية”. ولا أدري في الحقيقة ما دخل تطوُّر العلوم والتراكم المعرفي والمعلوماتي في الاجتهاد في مسألة الصِّيام، فالصيام ليس مسألةً فيزيائية، ولا معضلة رياضيَّة، ولا مكتشفًا كونيًّا كشف عنه الزمن! وإنما هي مسألة شرعية بيَّنها الله في كتابه، وليت شحرورًا يخبرنا بالمعادلات التي استخدمها والتي ساعدته في الوصول إلى إعادة فهم هذه الآيات فهمًا يخالف كلَّ ما كانَت عليه الأمة!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.