تواصل معنا

رمتني بدائها وانسَـلّـت (1) الإسقاط من تقنيات أسلاف الحداثيين (مقالة)

الوصف

مقالة

المقدمة:

تزوَّجت رُهم بنتُ الخزرج بنِ تيم الله بن رُفيدة بن كلب بن وَبْرة من سعد بن زيد مَناة ابن تميم، وكانت ذاتَ جمال، وكان لها ضرائر، فكنَّ يشتمنَها ويعيِّرنها ويقُلن لها: يا عَفلاء، فأرهقها ذلك من ضرائرها، فذهبت تشتكي ذلك الحال لأمِّها، ولكن أمها نصحتها بأن تبدأ هي بالسبِّ والتَّعيير والشتمِ بما يسبُّونها به.

فجعلت رُهم تعيِّر ضرائرها بذلك، وتقول لمن رأت منهنَّ: يا عفلاء.

فقالوا لها: رمتني بدائها وانسلَّت.

فذهب مثلًا يُضرب عند العرب

واليومَ قَد عظُمت مَوجةُ الشبهات الموجَّهة إلى الدين الإسلامي، ومن يتتبَّع تلك الشبهات والإشكالات التي يوصَم بها الإسلام وشرائعه وأحكامه صباحَ مساء، ويتفكَّر في أصولها وأوائل من قالها يستطيع أن يلاحظ وبكل سهولة أنَّ هذا المثل ينطبِق على أصحابها المثيرين لها، فمن الواضح عمل المستشرقين من يهود ونصارى على اصطحاب إشكالاتهم في دينهم وعيوبهم في عقائدهم وضخِّها في ميادين الفكر الإسلامي، فقد حاولوا أن يلبسوا الإسلام ثيابهم التي مزقتها الشبهات وشهوات رجال الدين، وإن اختلف قياس الثوب مع الجسم الجديد، وإن اختلفت أصول كل دين عن الآخر، فكثير من المستشرقين حين ينظرون إلى الإسلام ينظرون بعيونهم وبواقعهم لا بما هو الإسلام في حقيقته وواقعه، ثم نجدهم يتحدَّثون عن ذلك بشكلٍ استعراضي خاص؛ لخَلْق نوع من الإبهار والدهشة حتى ينقدح في ذهن المتلقِّي قوة تناسب تلك الثياب المنحولة والمعاني المكذوبة مع الإسلام، وبثِّ روحٍ من الانهزامية النفسية في نفوس الشباب المسلم، ووضع حواجز وحوائل دون من يفكِّر في الدخول فيه من غير أهله خاصة من الأوربيين.

إنه الإسقاط بعينه، واحد من تقنيات مثيري الشبهات وأساليبهم، وما أقبحها من تقنية!

وفي هذه الورقة نريد تسليط الضوء على إسقاطاتهم وحيلهم، ضاربين بأسهمنا في التراث الاستشراقي؛ إذ هم سلف من بعدهم ممن يثير الشبهات وحتى اليوم.

ويقتصر عملنا في هذه الورقة على بيان الإسقاط دون التعرض لإبطال أصل الشبهة وحقيقة الإشكال كيلا يطول البحث.

فاللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

تمهيد:

(رمتني بدائها وانسلت) مثلٌ عربيٌّ طارت به الركبان، وقد بوَّب له الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام (224هـ) رحمه الله في كتابه الأمثال بابًا سمَّاه: “باب تعيير الإنسان صاحبه بعيب هو فيه”، ومما قال فيه: “وللعامة في هذا مثل مبتذَل، وهو قولهم: عير بجير بجره، نسي بجير خبره، ومنه البيت السائر في الناس للمتوكل الكناني ثم الليثي:

لا تنهَ عن خلقٍ وتركب مِثلَه          عارٌ عليك إذا فَعلتَ عَظيم

قال الأصمعي: ومثله قولهم: محترس من مثله وهو حارس. يضرب للرجل يعيب الفاسق لفعله، وهو أخبث منه.

قال أبو عبيد: ومنه الحديث الذي يُروى إنَّ في بعض الحكمة: كيف تبصر القذاة في عين أخيك وتدع الجذع المعترض في حلقك؟! وروي عن مطرف بن الشِّخِّير -أو عن غيره من العلماء- أنّه قال لأصحابه: لو كنت عن نفسي راضيًا لقليتكم، ولكني عنها غير راضٍ.

وفي بعض الآثار: البلاء موكل بالقول، وهو مع هذا من أمثالهم السائرة. وقال إبراهيم النخعي: إني لأرى الشيء مما يعاب، فما يمنعني من عيبه إلّا المخافة إن أُبتلَى به. وقال عمرو بن شرحبيل: لو عيّرت رجلًا برضاع الغنم لخشيتُ إن أرضعها.

ومن أمثالهم في هذا: لا تسخر من شيء فيحور بك”

ومن ذلك قول الناس اليوم: كلٌّ يرى الناس بعين طبعه.

وهذا هو الإسقاط الذي نتحدث عنه، فما معنى الإسقاط إذن؟

الإسقاط كما يقول أحمد عزت راجح هو: “ملاحظة السلوك الظاهر للغير من إنسان وحيوان وتأويله على أساس من خبراتنا الشعورية نحن… وهو منهج يَفترِض أنَّ الغير يشعرون كما نشعر، ويفكِّرون كما نفكر، ويسلكون كما نسلك نحن لو وُجِدوا في نفس ظروفنا”. وقد عدَّه أحدَ الحيل الخداعية عند الأزمات النفسية في كتابه، وضبط تعريفه بقوله: “حيلة لا شعورية تتلخَّص في أن ينسِب الإنسان عيوبه ونقائصه ورغباته المستكرهة ومخاوفه المكبوتة التي لا يعترف بها إلى غيره من الناس أو الأشياء أو الأقدار أو سوء الطالع… وذلك تنزيهًا لنفسه وتخفُّفًا مما يشعر به من القلق أو الخجل أو النَّقص أو الذَّنب”. فبالإسقاط يحكم المرء على نفسه مع أنه في الظاهر يحكم على غيره، ويعترف بشناعاته وعيوبه بينما هو في الظاهر ينسبها إلى الآخرين

ولكن هل هذا المنهج صحيح أو خطأ؟

قد نحكم على هذا المنهج بالصحة إن كان هناك تطابق بين حال الباحث وما يبحث فيه من حيث الظروف والمواصفات النفسية والدوافع والرغبات ووسائل التفكير، ولكن لا مجال للقول بصحته حين اختلاف حقل البحث والدراسة تمامًا عن حال الباحث وتفكيره ودينه ونفسياته.

يقول أحمد عزت راجح: “فـهذا الإسقاط طبيعي ومشروع متى كان الباحث يقترب من المبحوث في السن والخبرة والطباع ووجهة النظر وطريقة التفكير ونوع الحضارة التي يعيشان فيها، بل وفي التكوين الجسمي أيضًا… ولهذا يجب الحذر حين نتبع هذا المنهج الإسقاطي في دراسة عقليات الأمم والجماعات القديمة والبائدة عن طريق دراسة ما خلَّفوه من آثار عقلية وفنية”.

ولكننا نجد هذه الصفة بهذه الحالة المذمومة في أساليب المستشرقين وأذنابهم من الحداثيين وفي مناهجهم.

وكثير من الأكاذيب والشبهات المشوِّهة والتشكيكات المزعزعة والافتراءات المربِكة لدين الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجًا هي من دسائس المستشرقين، فمن يدرس تاريخهم وكتبهم ودينهم ويرزقه الله البصيرة فيها يرى أن ما لطَّخوا به صورة الإسلام من الشبهات والافتراءات ليس بشيء سوى إسقاط لشبهاتهم وعيوبهم وإشكالاتهم على دين الإٍسلام، وليس هو بإسقاط مجرد، بل هو إسقاط مدروس واعٍ بحيث يكذب اللابس فيهم ثوب البحث وهو يعلم أنه يكذب، فهم يكذِبون؛ لأنهم في كثير من الأحيان صُنعوا للكذب والافتراء على دين الإسلام فحسب، لا لكون دين الإسلام غير واضح أو مليء بالشبهات والإشكالات كما يريدون أن يصوروا، ويصدق عليهم ما قاله فيهم نيتشه: “لا يخطئون فقط في كل جملة يقولونها، بل يكذبون، أي: إنهم لم يعودوا أحرارًا في أن يكذبوا ببراءة وبسبب الجهل

والضعف والجبن والشعور بالنقص أمام قوة المنظومة الإسلامية بعقائدها وشعائرها جعل منهم من يرى إسقاط عيوبه على الإسلام منجًى له من الحيرة وعدم القدرة على إبطال أو نقض دين الإسلام بكليته، كيف وقد أجبرهم الواقع على أن يقفوا مندهشين متعجِّبين أمام سرعة انتشار الإسلام بقوة أفكاره وعقائده وشرائعه ومنهجه؛ حيث هو أول الأديان انتشارًا في العالم حتى اليوم، بينما تنحسر أديانهم وعقائدهم على أنفسهم، وتبقى معابدها ودور عبادتها خاوية على عروشها وآبارهم معطلة عن سقاتها

يقول أ. د. محمد أمحزون: “إن المستشرقين في كثير من الأحيان يحكمون على الإسلام والتاريخ الإسلامي معتمدين على قيمهم ومقاييسهم الثقافية الخاصة، بدلًا من الاعتماد على المصادر التاريخية وأعراف ومبادئ المجتمع الإسلامي، ولا شك أن مصدر الخطأ في منهجهم هو التدخل بالتفسير الخاطئ للأحداث التاريخية وفق مقتضيات وأحوال عصرهم الذي يعيشون فيه، دون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة، وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها.

وبصرف النظر عن الحقد والتعصب لديهم يمكن القول بأن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الطريق هو القياس الفاسد، فلما كانت الخلافة الإسلامية عندهم لا تختلف عن أية حكومة مذهبية، وكأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد أشخاص لا يختلفون عن سائر الناس في المطامع والكيد السياسي، فإن الخلاف الذي وقع بينهم لا يعدو في نظر هؤلاء أن يكون أزمة صراع على السلطة من ذلك الذي تشهد الحكومات الأوربية في العصور المتأخرة.

فمثلًا عندما يعرض المستشرق الفرنسي (لامنس) لحادثة سقيفة بني ساعدة -وهي سابقة رائعة لتطبيق الشورى الإسلامية حيث اقتنعت الأكثرية برأي الأقلية-، فإن صور المؤامرات في البلاط الفرنسي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر تشوِّه رؤيته لأحداث السقيفة، حين يزعم أن الصراع حول الخلافة بين المهاجرين والأنصار قد بلغ غايته مباشرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن أبا بكر وعمر تآمرا على انتزاع الخلافة والتعاقب عليها لغير صالح علي”.

وبعدُ: حان الوقت لنسلط الضوء على بعض الشبهات التي تعامل فيها المستشرقون بهذا المنهج، منتهِجين بذلك منهج الاختصار، فبعض الربيع ببعض العِطر يُختَصر، فمن أهم إسقاطاتهم:

1- دعوى أن دين الإسلام دين محمدي:

نجد كثيرًا من المستشرقين يتشبَّثون بهذا الاسم عندما يتحدثون عن دين الإسلام، ولا يسمونه باسم الإسلام ولا بغيره، وهذا نوع إسقاط للحالة المعيبة في الدين النصراني، فهم يسمُّونه بالدين المسيحي منسوبًا إلى المسيح؛ إذ هو إله عندهم وهو المرجع والمعبود، ولا شكَّ أن كون المعبود في الديانة المسيحية بشرًا كان يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لهو من أكبر الإشكالات التي يتم نقاشها عند دراسة الدين المسيحي.

والمسيح عليه السلام في الديانة النصرانية هو المتكلم بما في الإنجيل، لا رب المسيح؛ ولذا لم يبذل الباحثون فيه كبير جهد لنسبته إلى المسيح عليه السلام، بعكس حال النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم الذي جاء به أخبر أنه كتاب منزل من رب العالمين، محفوظ من الشك والريب والخطأ والزيف.

ولكننا نجد المستشرقين مصرين على تسمية الإسلام بالدين المحمدي؛ ليصموا الإسلام بتلك العيوب والإشكالات، ومن ذلك نجد تسمية كثير منهم كتبهم عن الإسلام بهذا الاسم، كتسمية المستشرق جب كتابه: (المذهب المحمدي)، وتسمية جولدتسيهر كتابه: (دراسات محمدية)، وتسمية المستشرق شاخت كتابه: (أصول الفقه المحمدي) أو (أصول الشريعة المحمدية)، وتسمية المستشرق جون جرونباوم كتابه: (الأعياد المحمدية).

يقول المستشرق إدوارد مونتيه: “إن الدين المحمدي قد أحدث رقيًّا عظيمًا جدًّا في تدرج العاطفة الدينية، فقد أطلق العقل الإنساني من قيوده التي كانت تجعله أسيرًا حول المعابد بين أيدي الكهنة من ذوي الأديان المختلفة” وقال الخوري الحداد “إن الدعوة المحمدية كانت في العهد المكي كتابية إنجيلية توراتية مسيحية يهودية، وإن القرآن نسخة عربية من الكتب السماوية السابقة، المنزلة على الأنبياء السابقين، ومقتبس منها، وإنه كتابي توراتي إنجيلي يهودي نصراني في موضوعه ومصادره وقصصه وجدله”

وهكذا نجد كثيرًا من المستشرقين المسيحيين ينسبون الدين الإسلامي إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبغض النظر عن هذه النسبة ودراسة بطلانها وتفصيل ذلك فليس هو مجال بحثنا؛ إلا أن المقصود من نسبة الدين إلى محمد واضح في جعله دينًا بشريًّا لعبت به الأيدي البشرية، حاله حال الأديان التي اخترعها البشر أو نالتها أيدي التلاعب والتحريف، وعلى هذا يعلق حسن حنفي قائلًا: “والمنهج الإسقاطي هو المنهج الذي يسقط فيه المستشرق من ذاته على الموضوع، فتتحول ذاته إلى موضوع، كما هو الحال في النرجسية، وتتحول الموضوعية الخالصة إلى ذاتية خالصة، فيسمى الإسلام مثلا: المحمدية، كما فعل جِبْ قياسا على المسيحية نسبة إلى المسيح أو البوذية نسبة إلى بوذا أو الكونفوشوسية نسبة إلى كونفوشيوس أو التاوية نسبة إلى تاو… مع أن الإسلام غير مشتق من اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، بل من لفظ: سلم، أي: الاستسلام لله”

فاجتماع المستشرقين ومِن بعدِهم مَن تأثر بهم من الحداثيين وغيرهم على تسمية الإسلام بالدين المحمدي والإعراض عن اسمه (الإسلام) هو إسقاط من المستشرقين النصارى لا غير.

2- دعوى أن القرآن من صنع محمد:

كان من مزاعم المشركين أن القرآن إفك افتراه النبي صلى الله عليه وسلم وأعانه آخرون عليه، ورغم أن هذا الافتراء قد أبطل من حينه إلا أنه بات من المألوف عند المستشرقين تكرار ذات الزعم، فيدَّعي كثير منهم أن القرآن من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم مثل غوستاف لوبون وويلز وغيرهم

وإذا أدرنا عدسة البحث لننظر في الدين النصراني وجدنا هذا الإشكال مغروس في التاريخ النصراني، فقد قرر رسميًّا في مجلس كانتربري الكنسي أن الكتاب المقدس لم يكن خاليًا من تزييف البشر([15])، يقول الأستاذ محمد أبو زهرة: “وهذه الأناجيل الأربعة هي التي تعترف بها الكنائس وتقرها الفرق المسيحية وتأخذ بها، ولكن التاريخ يروي لنا أنه كانت في العصور الغابرة أناجيل أخرى قد أخذت بها فرق قديمة وراجت عندها، ولم تعتنق كل فرقة إلا إنجيلها، فعند كل من أصحاب مرقيون وأصحاب ديصان إنجيل يخالف بعضه هذه الأناجيل، ولأصحاب ماني إنجيل يخالف هذه الأربعة، وهو الصحيح في زعمهم، وهناك إنجيل يقال له السبعين ينسب إلى تلامس والنصارى ينكرونه، وهناك إنجيل برنابا، وهناك إنجيل اشتهر باسم التذكرة، وإنجيل سرن تهس، ولقد كثرت الأناجيل كثرة عظيمة، وأجمع على ذلك مؤرخو النصرانية، ثم أرادت الكنيسة في آخر القرن الثاني الميلادي أو أوائل القرن الثالث أن تحافظ على الأناجيل الصادقة في اعتقادها، فاختارت هذه الأناجيل الأربعة من الأناجيل الرائجة إبان ذلك… وهذه الأناجيل الأربعة لم يملها المسيح، ولم تنزل عليه هو بوحي أوحي إليه، ولكن كتبت من بعده”

فغاية ما يقوله النصارى في أناجيلهم القول بأنها من صنع أتباع المسيح، وزعمهم بأن القرآن من تأليف محمد ليس سوى إسقاط من إسقاطاتهم على الدين الإسلامي.

3- دعوى أن آيات القرآن متناقضة متعارضة وليست متسقة:

من الافتراءات المفضوحة التي يبثُّها المستشرقون دعواهم بأن القرآن متناقض، يقول جولدتسيهر: “من العسير أن نستخلص من القرآن نفسه مذهبًا عقيديًّا موحَّدًا متجانسًا وخاليًا من التناقضات، ولم يصلنا من المعارف الدينية الأكثر أهمية وخطرًا إلا آثار عامة نجد فيها -إذا بحثنا في تفاصيلها- أحيانًا تعاليم متناقضة”

وكما ذكرنا من قبل، لسنا هنا بصدد الرد على هذا الافتراء، كيف وقد تحدى الله سبحانه وتعالى بذلك البشرية جمعاء بقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]، وذكر أن عدم تناقضه من أكبر الدلائل على إلهية مصدره: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

ولكننا لو نظرنا إلى حال هؤلاء المستشرقين من يهود ونصارى وإلى كتابهم المقدس الموجود بأيديهم اليوم نجد من التناقض ما لا يستطيعون أن يخفوه عن أعين صغار الدارسين، فضلًا عن عدسات الباحثين.

وقد نطق جملة من الباحثين بذلك التناقض، يقول موريس بوكاي: “النبذة العامة التي قدمناها عن الأناجيل والمنبثقة عن التحليل النقدي للنصوص، تكون لدينا صورة لأدب غير مترابط مفتقر هيكله إلى حسن التتابع كما يبدو أن ما فيه من تضاد غير قابل للتذليل” إلى أن عنون عنوانًا آخر سماه: (تناقضات وأمور غير معقولة في الروايات) ليقول: “يحتوي كل من الأناجيل الأربعة على عدد هام من الروايات التي تسرد أحداثا قد تكون مذكورة في إنجيل واحد فقط، أو تذكر في عدة أناجيل، أو فيها كلها، فإذا كانت مذكورة في إنجيل واحد فقط فإنها تطرح مشاكل هامة، وعلى هذا ففي حالة ما يكون الحديث بعيد المرمى فإن القارئ يدهش أن مبشرًا واحدًا فقط قد ذكره… هناك العبارات المذكورة في الأناجيل، فهي نفسها تثبت تناقضات جلية… فخيالات متى، والمتناقضات الصارخة بين الأناجيل والأمور غير المعقولة، وعدم التوافق مع معطيات العلم الحديث والتحريفات المتوالية للنصوص، كل هذا يجعل الأناجيل تحتوي على إصحاحات وفقرات تنبع من الخيال الإنساني وحده”

وقد سرد الشيخ محمد رحمت الله بن خليل الرحمن الهندي التناقضات والأغلاط في الكتاب المقدس وأوصل التناقضات إلى مائة وخمسة وعشرين تناقضًا، والأغلاط إلى مائة وعشرة أغلاط! ثم قال بعد ذلك: “وظني أن الكنيسة الرومانية لأجل هذه المفاسد التي علمتها في هذا الفصل كانت تمنع العامة عن قراءة هذه الكتب، وتقول: إن الشر الناتج من قراءتها أكثر من الخير، ورأيهم في هذا الباب كان سليمًا جدًّا، وعيوبها كانت مستترة عن أعين المخالفين لعدم شيوعها، ولما ظهرت فرقة البروتستنت وأظهرت هذه الكتب ظهر ما ظهر في ديار أوروبا”

وأظن أن الإسقاط في افترائهم ذلك بعد هذا البيان غدا أظهر من الشمس، فدعواهم التناقض في القرآن ليس بشيء وإنما هو إسقاط فحسب.

4- دعوى أن الإسلام مزيج من الأديان السابقة وليس دينًا جديدًا:

من التُّهَم القديمة المتجددة دعوى أن الإسلام مقتبس من اليهودية أو النصرانية أو كثير من عقائدها وشعائرها كذلك، وهذه التهمة نجد عامة المستشرقين يوجهونها إلى الإسلام، يقول جولدتسيهر: “لكي نقدر عمل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجهة التاريخية ليس من الضروري أن نتساءل عما إذا كان تبشيره ابتكارًا وطريفًا من كل الوجوه ناشئًا عن روحه، وعما إذا كان يفتح طريقًا جديدًا بحتًا، فتبشير النبي العربي ليس إلا مزيجًا منتخبًا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية والمسيحية وغيرها التي تأثر بها تأثُّرًا عميقًا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة حقيقية عند بني وطنه”.

وهكذا يزعم كثير من المستشرقين أن الإسلام لم يأت بجديد، وإنما هو مولود من رحم النصرانية؛ وليس على النصارى أن يتركوا دينهم ليعتنقوا دين الإسلام؛ ومن ذلك كتاب (الإسلام بدعة نصرانية) والذي أصدره إلياس ألمر في لبنان عام 1958م، ومثل ذلك قول المستشرق صمويل زويمر في رسالة سماها: (وهديناه النجدين) يخاطب بها المسيحيين: “لستم مضطرين إلى تغيير داخلي في عقيدتكم ولا إلى تجديد الطبيعة إذا رغبتم في اعتناق الديانة الإسلامية”، ويقول فيليب حتي: “لقد نسج الإسلام في ترتيب صلاة الجمعة على منوال اليهود في عبادتهم بالكنيس، إلا أنه تأثر من بعدُ بطقوس صلاة الأحد التي يمارسها النصارى في البِيع”، ويقول كارل بروكلمان: “اقتبس النبي عن التوراة فكرة الخطيئة الأصلية… وإنما ترجع معتقداته فيما يتعلق بالعالم الآخر إلى مصادر يهودية، وهكذا تتصل بصورة غير مباشرة بمصادر فارسية وبابلية قديمة”، وقال غوستاف لوبون: “وإذا أرجعنا القرآن إلى أصوله أمكننا عدُّ الإسلام صورة مختصرة من النصرانية، والإسلام يختلف عن النصرانية مع ذلك في كثير من الأصول، ولا سيما في التوحيد المطلق الذي هو أصل أساسي”

ولسنا نستطرد في الرد والإبطال لهذه المزاعم كيلا يطول البحث، ولكن الغرض بيان وجه الإسقاط، والإسقاط هنا واضح في دعواهم أن الإسلام بدعة نصرانية، فمن المعلوم أن النصرانية في حقيقتها لم تأت بشريعة جديدة بل كما قال المسيح: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمل” ولذلك فإن الأناجيل ليست سوى تكميل لشرع موسى عليه السلام، وليس فيها شيء عن الشرائع، وإنما يأخذون شرائعهم عن توراة موسى؛ ولذا تطبع الكنيسة التوراة والإنجيل معًا فيما يسمونه بالكتاب المقدس.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالمسيحية المعاصرة ليست سوى بدعة يهودية وثنية باعتراف المسيحيين أنفسهم، ولكن النصارى ينفرون من ذلك العيب الذي فيهم بوصم الإسلام به، يقول الدكتور فرانز غريس النصراني: “إن البحوث والاستقصاءات العلمية أثبتت وأقامت البرهان والدليل على أن ثمانين إصحاحًا من التسعة والثمانين للأناجيل الأربعة ما هي إلا صورة ونسخة عن حياة وتعاليم (كرشنا) و(بوذا)، فيا لها من نتيجة محزنة للنصارى، وحصيلة مفجعة للنصرانية! ويا له من منظر ومشهد أليم لأجل شخص المسيح! إن العالم النصراني أخذ بالسقوط والانهيار، إنه يغطس ويغوص ويرسب ويسوخ”

وليس هذا قولًا شاذًّا من النصارى، بل هو ما توصَّل إليه من قارن بين ما في النصرانية وما في غيرها من الأديان، يقول الأستاذ رودلف سِيدِل عالم الدين البروتستانتي: “فإنه من ثمانية وعشرين إصحاحًا التي يتألف منها إنجيل متَّى، فإن إصحاحين منها فقط -هما: الثاني والعشرون والرابع والعشرون- خاليان من النصوص الهندوسية، ومن إنجيل مرقس الذي يتكون من ستة عشر إصحاحًا فإن إصحاحين أيضًا -هما: السابع والثاني عشر- غير منقولين، وفي إنجيل لوقا: الإصحاح السادس عشر والسابع عشر والعشرون فقط من مجموع أربعة وعشرين إصحاحًا التي يتشكل منها الإنجيل المذكور هي ليست منتحلة أي: مسروقة، ثم إنجيل يوحنا المتضمن واحدًا وعشرين إصحاحًا، فإن الإصحاحين العاشر والسابع عشر فقط خاليان من النقل”

إذن الأمر ظاهر في أن كثيرًا من عقائد المسيحية الحالية وشرائعها متَّهمة بكونها مبتدعة من الأديان السابقة، سواء اليهودية أو الأديان الوثنية؛ فلا نعجب بعد ذلك أن يصموا الإسلام وعقائده وشرائعه بكونها مبتدعة من الأديان الأخرى، فهل هذا إلا مجرد إسقاط؟!

5- دعوى أن طفولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم غامضة ومجهولة:

زعم جملة من المستشرقين أن المعلومات عن النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته نادرة وقليلة، ولم ينقل التاريخ إلينا شيئًا كثيرًا عن ذلك، بل بقيت تلك الحقبة الزمنية من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في غياهب الجهل، يقول بروكلمان: “ولسنا نملك بيِّنة موثوقًا بها عن حياة النبي الأولى إلا هذه الآيات القرآنية من سورة الضحى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 6-11]”

ولا نجد لمثل هذه الدعوى مبررًا مع ضخامة المكتبة التي تتكلم عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في طفولته وغيرها، والقصص الكثيرة المتواترة، إلا أنه مجرد إسقاط وتعيير للمسلمين بما يعاب به هؤلاء النصارى، فإن المسيح عليه السلام لا تعرف سيرته في أيام طفولته، بل هي مما وقفت أمامه الأفواه حائرة، وجفَّت عنده محابرُ الكُتَّاب، وغاب ذكره في الكتب، حتى في كتبهم المقدسة، فالأناجيل لم تذكر شيئًا عن هذه الحقبة الزمنية، فالسنوات الثماني عشرة الأولى مسكوت عنها في حياة المسيح، لا يعلم عنها أحد شيئًا، لا قدماء القساوسة ولا المعاصرون منهم، وفي ذلك ألَّف تشارلز فرانسيس بوتر كتابه الذي سمَّاه: (الكشف عن السنين المفقودة من حياة يسوع).

وليس في الأناجيل ذكر لهذه الفترة من حياة المسيح، عدا ما في إنجيل متى في الإصحاح الثاني حيث يذكر أن يسوع كان رضيعًا سكن مدينة ناصرة، ويبدأ الإصحاح الثالث مباشرة في الحديث عن تعميده وهو ابن الثلاثين عامًا

يقول ول ديورانت: “هل وجد المسيح حقًّا، أو أن قصة حياة مؤسس المسيحية وثمرة أحزان البشرية وخيالاتها وآمالها أسطورة من الأساطير شبيهة بخرافات كرشنا وأوزريس وأتيس وأدنيس وديونسيس ومثراس؟ لقد كان بولنجبرك والملتفون حوله -وهم جماعة ارتاح لأفكارهم فولتير نفسه- يقول في مجالسهم الخاصة: إن المسيح قد لا يكون له وجود على الإطلاق”، ثم تحدَّث عن الصراعات والاضطهادات التي مارستها الكنيسة ضد من جهر بذلك على مدى التاريخ.

إذن، فمَن مِنَ النبيين طفولتُه غامضة حتى الآن؟! وما الدين الأحقُّ بأن يوصف سيرة نبيِّه بقلَّة المصادر وعدم الوضوح؟! وهل كان زعم المستشرقين غموضَ فترة الطفولة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم إلا إسقاطًا؟!

على أننا نحن المسلمين نعتزُّ بالمسيح عليه السلام، ونؤمن به نبيًّا رسولًا، ولادته آية من آيات الله؛ فقد ولد من غير أب، ونطق بالحق وما زال في المهد صبيًّا كما ورد في القرآن الكريم، وكان الأحرى بمن يحبُّ المسيح ويواليه أن يفخر بالقرآن الكريم ويتفكر فيه بدلًا من أن يصم نبيَّه بما وصم.

الخاتمة:

لئن كان منهج كثير من المستشرقين اليهود والنصارى إسقاطَ ما أسقطوه من الاتهامات على الدين الإسلامي بمنهج (رمتني بدائها وانسلت)، فإننا لا نجد مبررًا لمن ينقل عنهم هذه الشبه ويثيرها بين المسلمين جزافًا لمجرد أن أولئك قالوا بها، وقد ظهر في هذه الورقة جليًّا أن كثيرًا من المستشرقين حين ينظرون إلى الإسلام ينظرون بعيونهم وبواقعهم لا بما هو الإسلام في حقيقته وواقعه، وهذا من الأخطاء الجوهرية في المنهجية البحثية لدى المستشرقين إن أحسنَّا بهم الظن، لا كما يقول نيتشه الذي سنختم بقوله في الورقة القادمة عن الإسقاط بإذن الله تعالى.

هذا نوع من مكرهم و{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 7، 8].

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

المرفقات

التصنيفات العلمية

أضف تعليقا