تأليف
الوصف
مقالة
الثقافة بألوانها المختلفة من السلوك وأساليب التفكير أسهمت في بناء مجتمع وصياغته، وعملت في تغييره وتطويره، لتترك آثاره وبصماته على التربية. وثقافتنا اليوم تمر بمرحلة تتميز بالقبول والانفعال والتأثر بثقافات الغرب، والاستعارة الثقافية الغربية، مما أدى إلى تلوث اجتماعي واسع النطاق يبرز في التربية والتعليم.
وعلى الرغم من تملك الأمة الإسلامية لأدوات التقدم في العقول والموارد والتراث معًا إلا أن أزمة الثقافة ومظاهر التخلف فيها واضحة، فهي تعيش أزمة فكرية تتجلى في غياب ثقافي، وتخلف علمي، وكسوف حضاري.
فالتغريب سلاح استخدمه الغرب في كثير من الأحيان للسيطرة والاستعمار وخدمة مصالحهم، وهذه الهيمنة تعد من أهم أولوياتهم، وقد تمكنوا من استقطاب بعض النخب من المثقفين لدى المسلمين ممن تبنَّوا أفكار النموذج الغربي للتأثير على المثقفين، فهؤلاء جسر عبور تمر عبرهم حملات التغريب. فهم يعملون على التنظير للغرب والترويج لأفكارهم وجعلهم نموذجًا للتقدم والتنمية، ساعدهم في ذلك التخلف والهزائم في مجالات متعددة، حتى تضخم لدى بعض المنهزمين الأفكار الغربية.
هذا وإن التسليم بأن الغرب قد نجح فعلًا في التنمية في جميع المجالات أمر غير مسلَّم به، فرغم نجاحه في توفير الرفاه المادي للناس إلا أنه لم ينجح في المجالات الاجتماعية والنفسية، بل والاقتصادية.
ومن المشاريع الفكرية العربية التي نقدت وعارضت الفكر الغربي: مشروع فيلسوف المغرب د. طه عبد الرحمن لإعادة تقويم التراث، وحق الاختلاف الفكري والفلسفي، وتأصيل الفلسفة، واستكشاف العلاقات الدقيقة بين الألسنية والمنطق، ومشروع د. أبي يعرب المرزوقي لربط جذر المشكلة الفلسفية والفكرية بالفلسفة الاسمية في صورتها التيمية الخلدونية، ومشروع د. عبد الوهاب المسيري لدراسة ظاهرة العلمانية الشاملة، أو ما يمكن تسميتها بظاهرة المادية في التصور الغربي، ومشروع د. إدوارد سعيد لتتبع تجليات إرادة الهيمنة في جذور المنتج الثقافي الغربي كظاهرة الاستشراق، وظاهرة السرديات الكبرى في التاريخ الغربي.
فهؤلاء الرموز الأربعة لنقد الفكر الغربي ليسوا جهالًا به، بل هم أخبر به من كثير من المبشرين بالغرب من غلاة المدنية، ومع ذلك فهؤلاء الرموز الأربعة لديهم موقف صارم غير ودّي تجاه الثقافة الغربية، وهذا ممّا يكشف أن نقد الثقافة الغربيّة ليس انعكاسًا للجهل بها.
والموضع الذي يراد به الاستشهاد بهؤلاء الأربعة ليس المصادقة على أفكارهم وآرائهم، فلكل منهم أطروحات محل مناقشة ليس هذا موضعها، وإنما المراد هو القدر الجامع بين هؤلاء الأربعة، وهو نقد الفكر الغربي، والاستقلال الفكري عنه، بما يعني أن نقد الفكر الغربي ليس فرعًا عن الجهل به كما يردد بعض دعاة المدنية المادية.
وبعض غلاة المدنية يستنكر هذا النقد الإسلامي للثقافة الغربية، وينعى على الإسلاميين غياب انبهارهم بمعجزة الحداثة الغربية، ويردد أن المجتمع الغربي ليس فيه ما يخالف الأخلاق إلا المشكلة الجنسية فقط، بينما يتمتَّع المجتمع الغربي بأخلاقيات العمل كالصدق والأمانة ونحوها، وأن المجتمع الغربي استطاع أن يُمَأسِس العدل والأخلاق، ويطرح بعضهم تشبيهًا لموقف الإسلاميين من الحضارة الغربية، فيقول: (الإسلاميون كمن دخل قصرًا فخمًا، فاشتغل بالنظر إلى سلة المهملات وترك جمال القصر وإبداعه!)، وهذه الفكرة منتشرة عند دعاة المدنية المادية.
والحقيقة: أنّ هذا المثل المضروب مثل مضلِّل خادع، وإنّما المجتمع الغربي كقصر فخم المظاهر لكن أساساته مهدَّدة بالانهيار، فهل من العقلانية أن نستغرق في جمال مظاهره، ونستنفر الناس لدخوله، أم أن نحذر الناس من انهياره الوشيك؟!
ومما يكشف ذلك أن الثقافة الغربيّة تعاني من اضطراب حادٍّ على صعيد الإلهيات، فغالب الناس في ذلك المجتمع يعاني من تشوّش عميق في هذا الأساس الجوهري، أما أغلب النخب المثقَّفة فهي إما لائكية، أو أن قضيّة الدين عندها قضية مؤجَّلة غير محسومة، فالعالم الغربي نتيجة عدم تشرُّفه بالإيمان بنبوة محمَّد ما يزال محرومًا من التصوّرات الصحيحة الدقيقة عن الله والمعاد والنبوات والعالم العلوي والمستقبل بعد الموت ونحوها من المطالب العالية
إن النظر في الثقافة الغربية قبل التمكن من تثبيت الأساسات الشرعية، والانبهار بما تحمله من أفكار من أدبائها ومثقفيها، مع الغفلة عن كتب الأسلاف دينًا ولغة وتاريخًا وأدبًا يُعَدّ منقصة وانهزامًا ثقافيًّا.
فالنظر في هذه المترجمات إنما يكون بعد الامتلاء من تراثنا، وتحصين أنفسنا بالمسلَّمات، لنميز ما تحمله من خير وشر، والمتأمّل يعلم أن ما تميزوا به يندُر أن لا نجد مثله في تراثنا.
إنَّ من أعظم أسباب هذا التحوّل إلى المترجمات التي يكثر فيها الغثاء الجهلَ البالغ بتراث الأمّة: كثرته، وتنوعه، وبديعه، وغريبه، ولطيفه، جِدّه وهَزله، وتأثيره في الأمم الأخرى، مع المبالغة بتعظيم ثقافة الأجنبي، (والسرّ في أنّ الشّرقيّ يبالغ بحضارة الغربي، والغربيّ يغالي بانحطاط الشرقي كونُ كل فريق لا يعرف ما عند الفريق الآخر على حقيقته)
أمّا مبالغة الشرقي بالغربي فقد نبّأنا به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَن؟!»
ومن أسباب هذه المبالغة: الهزيمة النفسية عند المسلمين؛ فإن لها أثرًا في شتى المجالات العلمية والعملية، والمغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب
ولا ننكر أن في كتاباتهم ما هو مفيد؛ إلا أن الناظر في هذه الكتب لا بد أن يكون بصيرًا بدينه وعلومه وأدواته، ومما يذكر في هذا السياق ما صنعه العالم الفقيه المفسّر النجدي الشيخ عبد الرحمن السعدي (ت 1376هـ) رحمه الله لَمّا رأى في بيروت كتاب ديل كارنيجي (دع القلق وابدأ الحياة)، رآه صدفة ولم يقصد إليه، قرأه فاستحسنه، ورأى أنّه لم يكتب عندنا ببسط كما ذكر في الكتاب المذكور، وأنّ أسُسَه ومبادئه موجودة وزيادة في الكتاب والسُّنَّة، فعَمَد إلى زبدة أفكار الكتاب، وعرضها بلسان عربي مبين، لا حشو فيها ولا منغِّصات كما في المترجمات، ثمّ استدلّ لها بما في الوحيين الشّريفين، فكان كتابًا خفيف المحمل بحجم الكفِّ، سهل العبارة، لطيف البيان، وسمّاه: (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: (أراني -السعدي- مرة رسالة صغيرة اسمها: “دع القلق وابدأ الحياة”، وقال: هذا كتاب جيد، وربما ألّف الرسالتين الصغيرتين على أساسه
من صور التغريب الثقافي:
ومن صور التغريب الثقافي الإغراق في معرفة تفاصيل تاريخهم مع الجهل المطبق عن تاريخنا المجيد؛ ابتداء بتاريخ الأنبياء والسيرة النبوية والخلافة الراشدة… إلخ، هذا مع ما في تاريخهم من العار والخزي.
قال العلّامة محمود شاكر رحمه الله: (إن العار أن يقضي الشاب من أول نشأته إلى آخر خروجه من دراسته أعوامًا طوالًا يدرس في أثنائها تاريخ نابليون وأمته، وفلانًا وفلانًا من أفذاذ الأمم الغربية، وهو لا يعرف من ماضي أمته العربية إلَّا نتفًا تذهب مع الأيام. هذا الماضي الذي يصوره الذين يتعرضون للتاريخ من مستشرقين يقولون غير ما يعلمون، أو يقولون فيما لا يعلمون، أو عرب قد فسدت قلوبهم على تاريخهم، فهم يتقيدون لآراء عن تاريخهم كلها بهتانٌ وتدليس. هذا الماضي الذي يصورون في صورة مسخٍ تاريخي هائل، قد خرج على الدنيا كما يخرج الوباء، ثم انقشع عنها فأعقبها صحة وعافية أو كما يقولون!)
وأفاد الشيخ البشير الإبراهيمي (ت 1385هـ) رحمه الله: (أنَّ الغرب يملأ عقول أبنائنا ونفوسهم بعلومهم وتاريخهم، حتى لا يبقى فيها متَّسع لذكريات ماضينا وأسلافنا، وإنّ الواحد من هذا الصنف من أبنائنا ليعرف الكثير عن نابوليون، ولا يعرف شيئًا عن عمر، ويحفظ تاريخ جان دارك عن ظهر قلب، ولا يحفظ كلمة عن عائشة وخديجة رضي الله عنهما)
ثم بيّن البشير الإبراهيمي مدى ضرر هذه الثقافة الغربية على النشء، وبعض أسباب انجذاب أبنائنا إليها، فقال: (عمد الغرب إلى الشاب المسلم فرموه بهذه التهاويل من الحضارة الغربية، وبهذه التعاليم التي تأتي بنيانه الفكري والعقلي من القواعد، وتحرف المسلم عن قبلته، وتحول الشرقي إلى الغرب، وإن من خصائص هذه الحضارة أن فيها كل معاني السحر وأساليب الجذب، وحسبكم منها أنها تفرّق بين المرء وأخيه والمرء وولده، فأصبح أبناؤنا يهرعون إلى معاهد العلم الغربية عن طوع مِنَّا يشبه الكره، أو عن كره يشبه الطوع، فيرجعون إلينا ومعهم العلم وأشياء أخرى ليس منها الإسلام ولا الشرقية، ومعهم أسماؤهم، وليس معهم عقولهم ولا أفكارهم، وإن هذه لهي المصيبة الكبرى التي لا نبعد إذا سمّيناها مسخًا، وليتها كانت مسخًا للأفراد، ولكنها مسخ للأمم ونسخ لمقوّماتها)
وقال أيضًا: (إن هذا الجيل الجديد من أبنائنا واقف في مفترق طرق لا يدري أيها يسلك، وقد فتح عينيه على زخارف تستهوي من الثقافة الغربية، وقد أصبحت هذه الثقافة أقرب إلى عقله وذوقه لما مهّد أهلها ودعاتها من المسالك إلى النفوس، ولما تنطوي عليه من المغريات والمعاني الحيوانية، ولما فيها من موجبات التحلل والانطلاق، ولما تزخر به من الشهوات وحظوظ الجسد، ولما يشهد لأهلها من شهود العلم، وهو يفتح عينيه كل يوم منها على جديد)
تميز المسلمين في التراث الثقافي:
في العصور المتقدمة كان الغرب يبيتون في سبات عميق، بينما كان المسلمون يشيدون حضارة مكتملة الأركان، فالتأليف والإبداع العلمي لدى المسلمين قد وصل في الحسن غايته.
قال ابن خلدون: (إن هذه العلوم الشرعية النقلية قد نفقت أسواقها في هذه الملة بما لا مزيد عليه، وانتهت فيها مدارك الناظرين إلى الغاية التي لا شيء فوقها، وهذبت الاصطلاحات ورتبت الفنون، فجاءت من وراء الغاية في الحسن والتنميق)
وقال الأديب أحمد بن حسن الزيات المصري (ت 1388هـ) رحمه الله مبينًا حجم الجهود التي بُذلت في سبيل نشر الثقافة لدى المسلمين: (إنّكم لتكبرون ما بذله العرب من الجهود الجبارة في سبيل المدنية والعلم إذا قستموه بما خلفوه من البحوث، وما ألفوه من الكتب، فقد تناولوا أصول المعارف الإنسانية بالتقصي الدقيق والغوص العميق حتى فرعوها إلى ثلاثمائة علم، أحصاها طاشكبرى زاده في كتابه “مفتاح السعادة”، ثم استنزفوا الأيام في معاناة التأليف على صعوبة النسخ وكثرة المؤونة وقلة الجدوى، فتركوا للعالم ذلك التراث الضخم الذي اشتملت عليه مكاتبهم في الشرق والغرب. فقد ذكر جيبون في كتابه عن الدولة الرومانية أنه كان في طرابلس على عهد الفاطميين مكتبة تحوي ثلاثة ملايين مجلد أحرقها الفرنج سنة 502هـ). ونقل الزيات عن المقريزي أنه كان في خزانة العزيز بالله الفاطمي مليون وستمائة ألف مجلد نزل بها ما نزل بمصر من الأحداث، فأغرقت في النيل أو ألقيت في الصحراء تسفي عليها الريح حتى صارت تلالًا عرفت بتلال الكتب! وروى المقري أنه كان بخزانة الحكم الثاني بقرطبة أربعمائة ألف مجلد فيها أربعة وأربعون للفهرس، وأبلغها الأستاذ جوستاف لوبون إلى ستمائة ألف، ولاحظ بهذه المناسبة أن شارل الحكيم الذي اعتلى عرش فرنسا سنة 1364 -أي: بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة- لم يستطع أن يجمع في المكتبة الأهلية بباريس حين أسسها إلا تسعمائة مجلد، كتب ثلثها في علوم الدين، ناهيكم بالثمانين ألف مجلد التي دمرها كيمينيس في ساحات غرناطة، وبما أحرقه التتار في بخارى وسمرقند، وأغرقه هلاكو ببغداد عاصمة العلم والعالم في ذلك العهد! ويلوح لي أنه ليس في ذلك كثير من المبالغة، فإن في المؤلفين من تبلغ تصانيفه بضع مئات، وإن في المؤلفات ما يقع في عشرات المجلدات، فلأبي عبيدة مائتا كتاب، وللكندي واحد وثلاثون ومائتان، وللرازي مائتان، ولابن حزم أربعمائة، وللقاضي الفاضل مائة. وجاء في نفح الطيب أن مؤلفات عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس قد بلغت الألف). ثّم قال الزيات: (على أن توالي الفتن والمحن على العالم الإسلامي لم يبق للعصر الحديث من هذا الكنز المذخور والمجد المسطور إلا ثلاثين ألفًا وزِّعت على مكاتب العالم!)
هذا الكمُّ الهائل من التآليف يبيِّن لنا حال التفوّق الثقافي لدى المسلمين الأوائل، والشمس لا تحجَب بغربال؛ ولهذا تقول زيغريد هونكة: (إن سيلًا عرمًا من إنتاج الفكر العربي ومواد الحقيقة والعلم قد اكتسح أوربا، وغمر أرضها الجافة غمرًا، فأشبعها كما يشبع الماء الرمال الظمأى… وفي مراكز العلم الأوروبية لم يكن هناك عالم واحد من بين العلماء إلا مدَّ يديه إلى الكنوز العربية هذه، يغرف منها ما شاء الله له أن يغرف، وينهل منها كما ينهل الظمآن من الماء العذب، رغبةً منه في سدّ الثغرات التي لديه للارتقاء إلى مستوى عصره العلمي)
ويذكر سيديو: (إن نفوذ العرب كان باديًا في مختلف أدوار تاريخنا، ولا فرق في ذلك بين زمن الغزوات الأولى وزمن الحروب الصليبية، ولا حينما طرد العرب من إسبانيا)
نماذج من تميز المسلمين في التراث الثقافي:
إن إطلالة سريعة على علوم المسلمين وما أودعوه في كتبهم تبين لنا بوضوح تفوقهم الثقافي وإبداعهم العلمي، قال ابن العطار: (ومن سمت به همته إلى الاطلاع على غرائب المؤلفات وعجائب المصنفات انكشف له حقائق كثيرة من دقائق العلوم، وتنزهت فكرته إن كانت سليمة في رياض الفهوم:
فكن رجلا رجله في الثرى … وهامة همته الثريا
فالنفس الإنسانية بالاطلاع على حقائق المعارف تتكمَّل، والفاضل الكامل بمعرفة أنواع العلوم يتفوق ويتفضّل، لا بتحسين هيئة اللباس والمزاحمة على التصدر في مجالس الناس)
وإذا أمعنَّا النظر في بعض العلوم التجريبية نجد السبق العلمي في الفيزياء لأبي علي الحسن بن الهيثم البصري (430هـ-1038م)، وهو صاحب إبداعات، منها: الأظلال والخزانة المظلمة (الكاميرا)، إذْ نسب هذا الاختراع إلى عدد من علماء الغرب، فمنهم من نسب ابتكار آليتها إلى دلا بورتا (ت 1615م-1024هـ) جاعلين الفضل إليه في الكشف عن تكوّن الصورة، ووصف ذلك في كتاب نشر له سنة 1589م-998هـ هو السحر الطبيعي، ومن مؤرخي العلوم من نسب هذا الاختراع إلى علماء آخرين أمثال: بيكام، وبيكون، وفيتلو، وليوناردو دافنشي.
وأول ما خطه ابن الهيثم في هذا الموضوع كتاب بعنوان: (في طبيعة إلقاء الظل)، ومن إبداعاته شرحه نظرية انعكاس الضوء بطريقة حديثة جدًّا.
وسيطرت نظرياته في الفيزياء والبصريات على العلوم الأوروبية، فعلى أساس كتابه (المناظر) نشأ كل ما يتعلق بالبصريات
وهكذا نجد في علم فيزياء الميكانيكا عبد الرحمن الخازن (ت550هـ)، وقد ظهرت جل إبداعاته في كتابه (ميزان الحكمة)، وهو الأول من نوعه في الكتب القديمة
ومن أبرز العلوم التجريبية التي أسهمت فيها الحضارة الإسلامية بالنصيب الأوفر علم الطب، ذلك العلم الذي يهتم بصحة الإنسان، ويضع له طرق الوقاية والعلاج من الأمراض، ولم يقتصر إسهام الحضارة الإسلامية في مجال العلوم الطبية على اكتشاف الأمراض المختلفة، ووصف الأدوية المناسبة لعلاج هذه الأمراض، بل اتسع وامتد إسهام المسلمين في الحضارة الطبية حتى بلغ مرحلة التأسيس لمنهج تجريبي دقيق يتفوق ويسمو على مناهج المدارس الطبية التقليدية التي كانت سائدة قبل الإسلام، كالصينية والهندية والبابلية والمصرية واليونانية والرومانية بل والمدرسة العربية قبل الإسلام، فعلى الرغم مما وصلت إليه هذه الحضارات القديمة من مقدرة فائقة على اكتشاف الأمراض وبعض علاجاتها، فإن سيطرة كهنة المعابد والأديرة في هذه الحضارات القديمة على مهنة الطب قد أدخلت فيها كثيرًا من الخرافات والأوهام المتعلقة باعتقاد سيطرة بعض الأرواح الشريرة على جسد الإنسان مما يسبب له معاناة المرض والوجع، ومن ثم فقد مزجوا بين العلاج بالمفردات الطبية والطلاسم والتعاويذ السحرية
وعلى ضوء القواعد النبوية التي حررت العقل من الخرافات والأوهام سارت الحضارة الإسلامية، ولم يقف المسلمون في ممارسة الطب على ما روي في السنة المطهرة من أساليب الطب النبوي، بل تعمق الأطباء المسلمون في دراسة الطب اليوناني وغيره، ونشطوا نشاطًا واسعًا في ترجمة كل ما وقع تحت أيديهم من كتب الطب القديمة، وأفادوا منها وطوروها على أُسس علمية جديدة، وتعرف الأطباء المسلمون على الطب اليوناني من خلال مدرسة الإسكندرية ومدرسة جُنْدَيسَابور
وقد قام ماسرجويه الطبيب اليهودي بترجمة موسوعة الكُناش الطبية اليونانية للخليفة مروان بن الحكم (63هـ). وكذلك ما ترجمه خالد بن يزيد الأموي (ت 85هـ) الذي ترجم كثيرًا من الكتب الطبية التي حوتها مكتبة الإسكندرية.
ومن العلوم الاجتماعية التي كان للمسلمين اشتغال بها التاريخ والجغرافيا، فقد أُعجب كثير من علماء المشرقيات الذين تفهموا هذه الحضارة من كتبها، وأكبروا عمل المقدسي وابن حوقل وياقوت والمسعودي والطبري وابن الأثير والإدريسي وابن خرداذبة والبلاذري واليعقوبي والخوارزمي وابن الفقيه وابن رسته وابن فضلان وقدامة والبلخي والبيروني والبكري وشيخ الربوة وأبي الفداء وابن جبير وابن سعيد وابن سعد وابن فضل الله وابن أبي أصيبعة وابن القفطي وابن خَلِّكَان والصفدي وابن الخطيب وابن بسام وابن عساكر وابن طباطبا وابن بشكوال إلى عشرات غيرهم، كتبوا في هذين العلمين، وكتبهم موجودة مطبوعة لا تحتاج إلا لمن يقرؤها، واستفاد منها الغربيون فوائد جُلَّى، ونوَّهوا بها في كل فرصة
يقول محمد كرد علي: (وما نظن أمم أوروبا كلها أخرجت في فن التاريخ حتى اليوم كثيرًا من عيار ابن خلدون واضع فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع. يقول جوتيه: إن الشريف الإدريسي الجغرافي كان أستاذ الجغرافيا الذي علَّم أوروبا هذا العلم لا بطليموس، ودام معلمًا لها مدة ثلاثة قرون، ولم يكن لأوروبا مصور للعالم إلا ما رسمه الإدريسي، وهو خلاصة علوم العرب في هذا الفن، ولم يقع الإدريسي في الأغلاط التي وقع فيها بطليموس في هذا الباب، قال: من دار حول إفريقية؟ فاسكودي جاما، ومن كشف أميركا؟ خريستوف كولمبس، ومن السهل أن يدرك أن هذين الكشفين اللذين فاقا جميع ما تقدمهما قد تما على أيدي بحارة من العرب، وكان تحقيقهما متعذرًا بدون ارتقاء علم الجغرافيا عند العرب، وتم هذان الكشفان العظيمان بعقول العرب وموادهم وأشخاصهم تحت إمرة النصارى) إلى آخر ما قال
والحقيقة تقول: إن كثيرًا من العلوم الفلسفية والرياضية والفنية وغيرها التي بنيت عليها الحضارة الغربية لم تصلها إلا عن طريق اللغة العربية بإجماع الباحثين منا ومنهم، وإن المنصفين منهم ليعترفون للغة العربية بهذا الفضل على العلم والمدنية، ويوفونها حقّها من التمجيد والاحترام، ويعترفون لعلماء الإسلام بأنهم أساتذتهم في هذه العلوم، عنهم أخذوها، وعن لغتهم ترجموها، وأنهم يحمدون للدهر أن هيّأ لهم مجاورة المسلمين بالأندلس وصقلية وشمال إفريقيا وثغور الشام حتى أخذوا عنهم ما أخذوا، واقتبسوا عنهم ما اقتبسوا، ولا يزال هؤلاء المنصفون يذكرون فضل معاهد الأندلس العربية ومعاهد شمال إفريقيا ومعاهد الشام على الحضارة القائمة، ولا يزالون ينتهجون بعض المناهج الدراسية الأندلسية في معاهدهم إلى الآن، ولا يزالون يردون كل شيء إلى أصله، ويعترفون لكل فاضل بفضله.
وإذا أجلنا النظر في العلوم الأدبية والشرعية نجد من تفنن الأسلاف في التأليف وابتكارهم ألوانًا يصعب على المرء مجاراتهم فيها، منها:
ما كتبه الحريري (ت 516هـ): فقد كتب رسالةً التزم فيها الشين في كل كلمة، وفيها أبيات من الشعر، وله سينية أيضًا
وله رسالة التزم فيها كلمة منقوطة والتي تليها غير منقوطة، ورسالة أخرى أيضًا حرف منها منقوط، والآخر غير منقوط، وله كلام منثور ومنظوم يقرأ طردًا وعكسًا، تقرؤه من اليمين، وتقرؤه منكوسًا، فتجده واحدًا بحروفه!
وله رسالة القهقرية، تقرؤها من أولها إلى آخرها بوجه، ومن آخرها إلى أولها بوجه آخر، وله أيضًا العواطل العَرِية عن النّقط، وله أبيات منقوطة، وخطبة عريّة عن الإعجام
ومن صور التفنن أيضًا:
الكتب المؤلفة بأحرف مهملة غير منقوطة، تستعمل (13) حرفًا فقط من حروف الهجاء، وإن كان في بعضه تكلّف؛ ولكن القصد فيما يظهر التفنن والإغراب، وإظهار طول الباع في اللغة والبيان.
من ذلك: تفسير القرآن، المسمى (سواطع الإلهام) لأبي الفيض فيض الله بن المبارك الأكبر آبادي الهندي (ت 1004هـ) رحمه الله، وقد طبع في لكنهو سنة 1300هـ، و1306هـ، ويقع في (780) صفحة. وله مؤلف آخر بعنوان: (موارد الكلم).
ولمفتي الديار الشامية محمود الحسيني (ت 1305هـ) رحمه الله تفسير للقرآن بحروف مهملة، سماه (در الأسرار) طبع الجزء الأول منه في دمشق سنة 1306هـ في (517) صفحة.
ومن صور التفنن في كتب التراث: كتاب الصفدي (ت 764هـ) (اختراع الخُراع في مخالفة النقل والطباع)، كتب عنه العلامة الشيخ: علي الطنطاوي رحمه الله مقالة رائعة سمّاها: (لون من الترف العقلي) نشرت سنة 1987م.
ننقل منها أجزاء، قال: (طرق المؤلفون في كتبهم كل باب من أبواب المعرفة، وسلكوا كل طريق من طرق العلم والأدب، وأودعوها كل ما يمكن أن يصل إليه العقل المفكر والقلب الشاعر والوجدان المتأمل، فكان فيها علوم الدين والدنيا؛ فيها مئات ومئات من المجلدات في القرآن تنزيله وتأويله، وفي الحديث روايته ودرايته، وفي الأدب فنونه وألوانه، وفي الطبيعة قوانينها ومظاهرها، وفي التاريخ قديمه وحديثه. ولدينا آلاف من الكتب في تراجم العظماء وطبقاتهم: الصحابة والتابعين، والقراء والفقهاء، والقواد والأمراء، والأدباء والشعراء. دونوا أخبار العقلاء والمجانين والحمقى والمغفلين، كما دونوا أخبار الأذكياء والنابغين! وإذا كان عند اليونان الأقدمين هذه «الإلياذة» التي يعدونها أولى مفاخرهم، والتي استمد منها أدباء الغرب وشعراؤهم المحدثون أكثر مآثرهم، فلقد روى الكتاني في «التراتيب الإدارية» أن عندنا قصيدة في خمسة آلاف بيت، همزية جيدة في السيرة النبوية، ولابن عيسى القرطبي أرجوزة أخرى في سبعة آلاف بيت، وثالثة عنوانها: «المقالات السنية في مَدح خير البرية» لعثمان بن علي في تسعة عشر ألف بيت!
وإذا كانت الإلياذة تشتمل على خرافات وعلى تخيلات، ما يسندها واقع ولا تعتمد على حقيقة، فإن هذه الأراجيز ما فيها إلا حقائق ثابتة وتواريخ محققة. هذا وأنتم تعرفون الأراجيز العلمية، كألفية ابن مالك وألفية العراقي والكثير من أمثالهما.
ولما ظنوا أنهم شبعوا من الجد واكتفوا استراحوا إلى لون جديد، كما استراح أهل الفن من المصورين والرسامين إلى هذه المذاهب الجديدة في الرسم، التي لا تبلغ معرفتي بها مبلغ القدرة على وصفها والكلام فيها، ولكن لا يصل عجبي منها إلى حد الإعجاب بها أو تذوقها وفهمها.
وكيف أعجب بلوحة ما أرى فيها إلا علب كبريت مكومة أكوامًا، أو حجارة مركومة ركمًا، أو سلمًا مقلوبًا قد تعلق بخطوط متعرجة متداخلة بلا ترتيب ولا نظام ولا دقة ولا إحكام، كأنها خرابيش الدجاج على بقعة من الرمل، ثم أرى تحتها كتابة موضحة لها تقول: إنها صورة امرأة جميلة أو مشهد غروب الشمس في البحر… وما ثم شمس ولا بحر، ما هناك إلا الفوضى والعبث! كهذا المذهب الحديث في الشعر، حيث ترصف كلمات جميلة لا يربط بينها رباط يتبيَّنه الفكر، ولا صورة يلذّها الذوق، ولا موسيقى تطرب لها الآذان، ما هي إلا معجم، ولكنه معجم قد اختلّ ترتيبه! قالوا: إن هذا هو الشعر الحديث!
والذي نعرفه أن الألفاظ أوعية للمعاني، فإذا خلت من المعنى المبتكر والصورة الحلوة عادت ألفاظا فارغة، لها إن قرعتها طنين ورنين وما فيها فائدة للمستفيدين! وصارت ألاعيب لأدباء ذلك الزمان الذي يدعوه مؤرخو الأدب بعصر الانحطاط؛ كل همِّ رجاله التلاعب بالألفاظ لا يجاوزونها!
ثم ذكر الطنطاوي رحمه الله حِفظ أهل الأدب في زمان الشيخ لمقامات الحريري، وما فيها من التفنّن مثل ما جاء في المقامة السادسة: كلمة منقوطة، وبعدها مهملة. وفي المقامة السادسة عشرة جُمل تقرأ طردًا وعكسًا، من اليمين، ومن اليسار مقلوبة، لا تتغيّر.
ثم ذكر رحمه الله تأليفًا ليس فيه حرف معجم منقوط.
وذكر كتابًا فيه خمسة جداول، كل جدول علم من العلوم، يعني به (عنوان الشرف الوافي) لابن المقري.
وذكر أنّه كتب في (مجلّة الرسالة) (23/ رجب/ 1354هـ) مقالةً فيها وصف لكتاب عجيب، ليس له في تراثنا الفكري مثيل، قال: لأنّه جاء بشيء مما أسمّيه (الترف العقلي)، فقد تعمّد أن لا يأتي فيه إلا بما هو خطأ محرّف عن أصله، معدول به عن جادة الصواب، ممال به عن سبيل الحق، فلا بيت ينسب إلى صاحبه، ولا كتاب يعزى إلى مؤلفه، ولا مسألة تورد على وجهها، ولا بلدة توضع في موضعها…
وذكر أنَّ اسم الكتاب (اختراع الخُراع) للصفدي (ت 764هـ)، والخُراع: داء يصيب الدابة في ظهرها فتبرك، ولا تستطيع القيام. وقد بنى كتابه على بيتين محرّفين ثم شرحهما. والبيتان هما:
لو كنت بَكْتوت امرأة جارية الفضل… وكان أكل الشعير في البرد ملبسكو
لا بدَّ من الطلوع إلى بئرك في… الليل وظلام النهار متضحًا
علَّق الطنطاوي على البيتين بقوله: لعل الله كشف للصفدي طرفًا من مستقبل الأدب، فجعله يقرأ ما ينشر في أيامنا من الكلام على أنه شعر، والذي لا يختلف عن هذين البيتين اللذين أوردهما!
هذا الشعر الذي تعب أخونا الأستاذ الفاضل أكرم زعيتر في وضع الأسماء له. وكثرة الأسماء ليست دائمًا دليلًا على شرف المسمى، فالقط له أكثر من خمسين اسمًا، ثم لم يكن إلا قطًّا، ما صار نَمِرًا ولا أسدًا.
ويعلق الطنطاوي: فكيف لو قرؤوا شعر الحداثة الذي تنشره الصحف على أنه هو الشعر، لا ما رواه الرواة وأودعوه الكتب وملؤوا به الدواوين؟!
ختامًا: إن المسلمين السابقين لَمَّا خدموا العلم خدمهم العلم، بل وأخضع لهم الأمم، فكان رواد المعرفة وطلاب العلم يأتون إلينا فرادى وأفواجًا -من الصين شرقًا إلى أسبانيا غربًا- لتلقي العلوم من طب وهندسة وطبيعيات وغيرها في الأمصار الإسلامية، كما اعترف بذلك مؤرخوهم، فلما تخلى المسلمون خلال القرنين الأخيرين عن خدمة العلم، وقام أولئك بخدمته انقلب الأمر، فأصبحنا نحن الذين نرحل إليهم لأخذ العلم عنهم
ولا سبيل لنا في العودة إلى المجد الغابر، ورفع مكانتنا بين الأمم إلا بالرجوع إلى الإبداع العلمي والعناية به، فالعلم اليوم يتقدم بسرعة الضوء، والتخلف العلمي الذي نعاني منه لا يحل بكثرة النواح على الماضي والبكاء على الأطلال، فلنرتقِ في سماء الإبداع، مع الحفاظ على قيمنا ومبادئنا، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.