الوصف
مقالة
تقدَّم في المقالة السابقة نقضُ الانحرافات التي اخترَعها الحداثيّون حول رُكنَيِ الشهادتين والصلاةِ من أركان الإسلام، وفي هذه المقالة إكمالٌ لنقض ما أحدثوه من الانحرافات والمغالطات في سائر أركان الإسلام من الزكاة والصيام والحج؛ انطلاقًا من ادِّعائهم الفهم الجديد للإسلام، وقد اصطلح بعضهم لهذا بعنوان: “الرسالة الثانية للإسلام”، أو “الوجه الثاني لرسالة الإسلام”؛ إيماءً إلى أن الرسالة الأولى -أعني: التي عرفها المسلمون واستقر عليها فهم الأمة للإسلام- غير صالحة لإنسان القرن العشرين وهم في طرحهم هذا يزعمون أن الرسالة الثانية للإسلام هي الانفتاح وعدمُ الانغلاق، وأنه امتداد لما سمِّي بدين العقل أو الدين الطبيعي، كما طرحه فلاسفة النهضة الأوربيون واستعاضوا به عن المسيحية.
وأول ما يبهتُهم ويبطل مزاعمهم الهالكة المخالفةُ الصريحة لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقوله سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، والمعنى: إن الطاعة التي هي الطاعة عند الله سبحانه الطاعة له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلة، وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحرافٍ عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودية والألوهية
ولا يعدُّ مِن نافلة القول التذكيرُ بما تضمَّنته جملة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أركان الإسلام ودعائمه صراحة؛ ومنها ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان»
انحرافات الحداثيين في ركن الزكاة:
الركن الثالث من أركان الإسلام هو إيتاء الزكاة، والزكاة هي: القدر المخرج من النصاب المستحق، والمراد بإيتائها: إعطاؤها لمن يستحقها
وقد ارتأى بعض الحداثيين أن الزكاة اختيارية وليست واجبة، ويشتطُّ بعضهم في أمر الزكاة حيث يرى أنها لا تؤدِّي الغرض المطلوب منها على المستوى العام؛ لأنها تراعي معهود العرب في حياتهم، فهي تمسّ الثروات الصغيرة والمتوسطة أكثر مما تمس الثروات الضخمة، ويسرف بعضهم على نفسه مدعيًا أنَّ الزكاة مقدّمة يحثُّنا فيها الإسلام على الوصول إلى الشيوعية المطلقة.
الرد على انحرافاتهم في الزكاة:
قد افترض الله تعالى الزكاة على المؤمنين صراحة في كتابه العزيز، وجعلها قرينة الأمر بإقامة الصلاة؛ فقال سبحانه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، كما أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذًا حين بعثه إلى اليمن، فقال: «فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم»، وقد أجمع المسلمون في جميع الأعصار على وجوبها، واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعيها
ناهيك عما تحقِّقه الزكاة من فوائد وحكم بالغة يعود نفعها على الفرد والمجتمع، ومن أبرزها: تقوية أواصر المحبة بين الغني والفقير، وتطهير النفس وتزكيتها، وتعويد المسلم على صفة الجود، والكرم، والعطف على ذوي الحاجات، والرحمة للفقراء، وغير ذلك من الفوائد والحكم، وقد أوصلها بعض المؤلفين إلى أربعين فائدة
انحرافات الحداثيين في فريضة الصوم:
الركن الرابع من أركان الإسلام هو صوم رمضان، وقد تعدَّى الحداثيون على فريضة الصيام، فرأوا أن الصيام في رمضان ليس واجبًا وإنما هو اختياري، ويجاوز بعضهم الحد إلى القول بأن الصوم يحرم على المسلمين في العصر الحاضر؛ معللًا ذلك بأنه يقلل الإنتاج، ويعلق بعضهم على دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه للفطر في رمضان في وقت الحرب بقوله: “ونحن كذلك في حرب ضد التخلف”([13]).
دفع انحرافات الحداثيين في فريضة الصوم:
لقد جاءت فرضية صوم شهر رمضان في القرآن صراحة؛ فقال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وتكرر الأمر بصيامه في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يعارض هذا بآراء وترهات لا خطام لها ولا زمام؟!
ودعواهم بأن الصوم يقلل الإنتاج دعوة مكذوبة، يكذبها التاريخ والواقع؛ فإن نصر الله تعالى للمسلمين في شهر رمضان لا يخفى، وهذه غزوة بدر وغيرها من معارك المسلمين الفاصلة، ومن أقربها انتصار أكتوبر عام 1973م على اليهود، كلها شاهدة على أن رمضان هو شهر النصر والتأييد من الله تعالى، وأنه شهر العمل والجد والاجتهاد من العباد، مصداقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]، والمعنى: “إن تنصروا دينه ورسوله ينصركم على عدوكم، ويثبت أقدامكم عند القتال”
انحرافات الحداثيين في فريضة الحج:
الركن الخامس من أركان الإسلام هو الحج؛ وهو قصد مكة لعمل مخصوص، في زمن مخصوص، وهو من شعائر الإسلام الظاهرة، وللحداثيين في فريضة الحج تحريفات فجة ومغالطات سخيفة، حيث يرى بعضهم: أنه من الطقوس الوثنية الميثية العربية القديمة التي أقرها الإسلام مراعاة لحال العرب، وبعضهم يرى أنه ليس من الضروري أن يقام بطقوسه المعروفة؛ إذ يغني عنه الحج العقلي أو الحج الروحي([17]).
دفع انحرافات الحداثيين في فريضة الحج:
إن فريضة الحج ثابتة يقينًا في كتاب الله تعالى؛ قال سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97]، وعد من جحد فريضته من الكافرين؛ قال أبو جعفر الطبري: “ومن جحد ما ألزمه الله من فرض حج بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غني عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خلقه من الجن والإنس”
وبعد هذا العرض الموجز لبعض أطروحاتهم وأفكارهم حول أركان الإسلام، فإنه لا يرتاب مسلم في أن هؤلاء الحداثيين يرومون إسلامًا جديدًا، هو الإسلام العلماني بأركانه ودعائمه الحديثة، والقابلة لكل التحريفات والتأويلات الفاسدة، بلا حدود ولا قيود، وبالقطع هو غير الإسلام الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، والذي قام النبي صلى الله عليه وسلم ببيانه لأمته أكملَ بيان وأتمه.
ولا أبلغَ في الردِّ عليهم من قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، ثم قوله صلى الله عليه وسلم: «قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»
ألا فليحذر المسلمون -وخاصة الشباب- من الاستماع إلى تلك الدعوات الخادعة المارقة من الدين والمفسدة لأهله، فمثلها كمثل الزبد يذهب جفاء؛ قال سبحانه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]، ولا يُغتر بكثرة ترداد كلامهم وتداوله في قنواتهم المسموعة والمقروءة؛ فإن الباطل زهوق لا ثبات له إذا جاء الحق؛ وقد قال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18].
اللهم احفظ علينا ديننا، وثبتنا على الإسلام والسنة حتى نلقاك بهما يا رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.