الوصف
مقالة
منَ المتَّفَق عليه بين جميع المسلمين -عامَّتهم وخاصَّتِهم- أنَّ الدين عند الله هو الإسلام، وأن هذا الإسلامَ هو دين جميع الأنبياء والمرسلين، وأن كلَّ من دان بغير الإسلام فهو يوم القيامة من الخاسرين، وفي الدنيا معدود في الكافرين.
ومع وضوح هذا الأصل العظيم، وكثرة دلائله في القرآن والسنة؛ إلا أنه كثر تشويشُ أهلِ الباطل عليه، خاصَّةً في هذا الزمان، وأوردوا عليه الشبهات والمتشابهات؛ ابتغاء فتنةِ المسلمين عن دينهم، وقد تحقَّق لهم شيء مما أرادوا؛ ففُتِن كثيرٌ من المسلمين بهذه الشبهات؛ وذلك لأنها تروَّج تحت شعاراتٍ براقة؛ كالسماحة، والرحمة، والإحسان، والإنسانية، ونشر المحبة، والإخاء الديني، ونبذ التعصب، ووحدة الأديان والتقريب بينها.
وقد بين الله تعالى في كتابه أنَّ مِن أعظم أسباب الهدى الإيمانَ بالمحكم وردَّ المتشابه إليه، كما أن من أعظم أسبابِ الضلال اتِّباعَ المتشابه وتركَ المحكم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ} [آل عمران: 7]. فهذا مسلَك أهل الباطل على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم.
وغرضُنا في هذه الورقةِ بيانُ المحكَم والجوابُ عن المتشابه في هذا الأصل المذكور، والله المستعان وعليه التكلان.
أولا: المحكمات في هذا الباب:
تعدَّدت وتنوَّعت نصوص القرآن والسنة الدالَّة على هذا الأصل العظيم، وهذه عادةُ القرآن في بيانِ القضايا الكبرى التي يحتاجها عامَّة الناس، فتتعدَّد أدلَّتُها وتتنوَّع؛ ليتَيسَّر للجميع الاهتداءُ للحق وتبيُّنُ الهدى من الضلال.
وهذه الأدلة أنواع متعدِّدة، يندرج تحت كلِّ نوع عشرات وربما مئات من الأدلة من القرآن والسنة، وغرضُنا الإشارة فقط لأصول هذه الأدلةَّ وبعضِ الأمثلة لما يندرج تحتها:
النوع الأول: الأدلة الدالة على أن الله تعالى لا يقبل من أحد سوى دين الإسلام:
1- فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ} [آل عمران: 19].
قال قتادة في تفسير الآية: “الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلَّ عليه أولياءه، لا يقبل غيره، ولا يُجزَى إلا به”
وقال ابن كثير رحمه الله: “إخبارٌ من الله تعالى بأنه لا دينَ عنده يقبله من أحد سوى الإسلام، وهو اتباعُ الرسل فيما بعثهم الله به في كلّ حين، حتى خُتِموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سدَّ جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لقي الله بعد بعثته محمدا صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل، كما قال تعالى: {ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وقال في هذه الآية مخبرا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}”2- ومن ذلك قوله تعالى: {ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
قال ابن جرير: “يعني بذلك -جل ثناؤه-: ومن يطلب دينا غيرَ دين الإسلام ليدين به فلن يقبل الله منه… وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون لما نزلت هذه الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين؛ لأن من سُنة الإسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم” وذكر رحمه الله من الآثار ما يدلُّ على ذلك.
النوع الثاني: الأدلة على أن دين الأنبياء ورسالتهم ودعوتهم واحدة، وهي الدعوة إلى الإسلام بمعناه العام:
1- فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [النحل: 36].
والطاغوت: هو كل ما عُبِد من دون الله وهو راضٍ بذلك، فجميع الرسل دَعَوا إلى توحيد الله واجتناب الشرك وعبادة غير الله، وهذه حقيقة دين الإسلام.
2- ومن ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [ آل عمران: 79، 80].
فبين سبحانه وتعالى أنه لا يمكن أن يأمر نبي بالشرك أو عبادة نفسه، أو يدعوَ إلى عبادة غير الله تعالى، بل كل الأنبياء كانوا يأمرون أتباعهم ويربونهم على إخلاص العبادة لله وحده.
وقد جاء في سبب نزولها أنَّ وفدًا من أحبار اليهود والنصارى من نجران قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد -يا محمد- أن نعبدك كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فنزلت الآية
3- ومن ذلك قوله تعالى: {شرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13].
فالدين الذي شرعه الله لهذه الأمة هو الذي شرعه وأمر به إبراهيم وموسى وعيسى ونوحا وجميع الأنبياء، وهو دين الإسلام.
عن مجاهد في قوله: {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} قال: “ما أوصاك به وأنبياءَه كلّهم دينٌ واحد”.
والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ.
4- ومن الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ؛ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ»
وأولاد العَلات: الأخوة لأب، قال النووي رحمه الله: “قال جمهور العلماء: معنى الحديث: أصل إيمانهم واحد، وشرائعهم مختلفة؛ فإنهم متفقون في أصول التوحيد، وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ودينهم واحد» فالمراد به أصول التوحيد وأصل طاعة الله تعالى وإن اختلفت صفتها، وأصول التوحيد والطاعة جميعا”
5- ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «نحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ».
والإسلام هنا في هذه النصوص هو بمعناه العام، وذلك أن الإسلام له إطلاقان: الإطلاق العام، وهو الذي أتت به جميع الأنبياء، والإطلاق الخاص وهو الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، حيث صار الإسلام علَمًا على دينه وشريعته.
وبيان ذلك أن الدين يقوم على أصلين:
الأصل الأول: أن لا يُعبَد إلا الله.
الأصل الثاني: أن لا يُعبَد الله إلا بما شرع على ألسنة أنبيائه ورسله.
فكل الرسل أمروا قومَهم بإخلاص العبادة لله تعالى، واتَّفقت رسالتهم في العقائد، في الإلهيات والنبوات وإثبات اليوم الآخر والمعاد، وإنما الخلاف بينهم في تفاصيل الشرائع.
والخلاف بين الرسل في تفاصيل الشرائع لا يضرُّ بوحدة الدين؛ فإن الرسولَ الواحد تَنسخ بعض شريعته بعضها، ولا يؤثِّر هذا في حقيقة الدّين؛ لأن حقيقة الدين هي الامتثال لحكم الله تعالى وأمره، وواجبُ العبد التسليم لحكم الله.
فالعقيدة واحدة والشرائع متعدِّدة، كما قال تعالى: {لكلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وتعدُّد الشرائع كان قبل بعثتِه صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ مَن قبله من الأنبياء والمرسلين كانوا يبعثون إلى أقوامهم خاصَّة، بخلاف بعثته صلى الله عليه وسلم، فإنها عامَّةٌ لجميع الثقلين، وناسخة لجميع الشرائع؛ فلذلك لما بُعِث صلى الله عليه وسلم صارت العقيدةُ والشريعة واحدةً، وهي عقيدةُ الإسلام التي هي عقيدة جميع الأنبياء، وشريعة الإسلام التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، ونسخت جميع الشرائع الماضية.
ومَن زعم أنه يجوزُ لأحدٍ بعد بلوغ رسالته أن لا يلتزم بها، أو يزعم اتباعَ شريعة نبي آخر، أو يدَّعي أنه مع النبي صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى لا يلتزم بشريعته = فهو كافر مرتدٌّ بإجماع العلماء، ولِدلالة الآيات السابقة وغيرها مما سيأتي.
النوع الثالث: جميع الأدلة الدالة على عموم رسالته لجميع الناس؛ فإنها تدل على كفر من خرج عن دينه وتركَ اتِّباعَه صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 185]
قال ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} يا محمد: {يا أَيُّهَا النَّاسُ} وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي، {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} أي: جميعكم، وهذا من شرفِه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين، وأنه مبعوث إلى الناس كافة، كما قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الْأَنْعَامِ: 19]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هُودٍ: 17]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آلِ عِمْرَانَ: 20]، والآيات في هذا كثيرةٌ، كما أنَّ الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصَر، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورةً أنه -صلوات الله وسلامه عليه- رسول الله إلى الناس كلهم”
فمقتضى هذه الأدلة القاطعة وغيرها: أنه يجب على جميع الناس الدخول في الإسلام الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، فمن أبى الدخولَ فيه من أي من الأمم والأحزاب فالنار موعده، كما ذكر القرآن.
النوع الرابع: جميع الأدلة التي تدل على كفر من لم يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم:
فمن ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ} [البقرة: 89].
قال ابن كثير رحمه الله: “عن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم قال: فينا والله وفيهم -يعني: في الأنصار وفي اليهود الذين كانوا جيرانهم- نزلت هذه القصة، يعني: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} قالوا: كنا قد علوناهم قهرا دهرا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، وهم يقولون: إن نبيًّا سيبعث الآن نتَّبعه، قد أظلَّ زمانه، فنقتلكم معه قتلَ عاد وإرم، فلما بَعث الله رسولَه من قريش واتَّبعناه كفروا به. يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ}”
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13].
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
النوع الخامس: الأدلة على كفر أهل الكتاب، وهي دالة من باب أولى على كفر من سواهم من سائر الطوائف التي لم تدخل في دين الإسلام:
وذلك بالنص على كفرهم، أو بنفي الإيمان عنهم، أو بوصفهم بعبادة غير الله، أو نسبة أفعال الكفر ومقالات الكفر إليهم، أو التي أمرت بالبراءة منهم.
وكل هذا أدلَّته كثيرة جدًّا في القرآن والسنة، فضلا عن الإجماع المقطوع به في ذلك، بل الإجماع على كفر من لم يكفِّر اليهود والنصارى ومن فارَق دينَ الإسلام، كما نقله القاضي عياض([12]) وغيره.
وليس غرضنا الاستقصاء، وإنما الإشارة إلى أصول الأدلَّة المحكمة في هذا الباب.
ولولا كثرةُ التشبيه لما احتَجنا أصلا للتدليل على هذا الأصل؛ لوضوحه وظهوره في كتاب الله وعند عامة المسلمين، إلا مَن افتُتِن بشبهات أهل الباطل وتلبيساتهم على الناس بمتشابهات من كتاب الله تعالى، وهذا أوان مناقشتها.
ثانيًا: الجواب عن بعض المتشابهات التي قد يظَنُّ معارضتها لهذا الأصل المحكم:
الشبهة الأولى: النهي عن التفريق بين الرسل:
وذلك في آيتين من كتاب الله:
قوله تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا} [النساء: 150].
فكثيرًا ما يُستَدلّ بهاتين الآيتين على تصحيح جميع الأديان، وعدم التفريق بينها، والدعوة لما يسمَّى بوحدة الأديان، وعدم التفريق بين أتباعها!
والجواب:
أنَّ النهيَ عن التفريق بين الرسل هو في الإيمان بهم، فمن آمن برسول وكفر بآخر فقد فرَّق بينهما في الإيمان، فمن آمن بموسى وكفر بعيسى -عليهما السلام- فقد فرَّق بين الرسل، وكذلك من آمن بموسى وعيسى وكفر بمحمد -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- فقد فرَّق بين الرسل، حيث آمن ببعض وكفر ببعض.
قال ابن جرير في تفسير آية البقرة: “والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرون أن ما جاؤوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله وأقروا ببعضه”
وقال ابن كثير رحمه الله: “لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، بل الجميع عندهم صادقون بارّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبيل الخير، وإن كان بعضهم ينسخ شريعةَ بعض بإذن الله، حتى نُسِخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، الذي تقوم الساعة على شريعته”
وقال ابن جرير في تفسير آية النساء: “يعني بقوله -جل ثناؤه-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} من اليهود والنصارى {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} بأن يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه، ويزعموا أنهم افتروا على ربهم. وذلك هو معنى إرادتهم التفريق بين الله ورسله، بنحلتهم إياهم الكذب والفرية على الله، وادعائهم عليهم الأباطيل، {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ}، يعني: أنهم يقولون: نصدق بهذا ونكذب بهذا، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدا صلى الله عليهما وسلم، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم، وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم”
فالآيتان تدلان على كفر اليهود والنصارى؛ لتفريقهم بين الرسل، فكذّبت اليهود بعيسى ومحمد عليهما السلام، وكذبت النصارى بنبينا صلى الله عليه وسلم.
وأما أهل الإسلام فهم الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم، فهم أتباع جميع الأنبياء على الحقيقة، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: «نحن أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ».
الشبهة الثانية: مدح الله لأتباع جميع الديانات بشرط الإيمان والعمل الصالح:
وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62].
قالوا: فهي تدلُّ على أنَّ أصحابَ هذه الديانات ناجون عند الله، إذا هم آمنوا وعملوا الصالحات، حتى ولو بقوا على دينهم بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
والجواب من ثلاثة وجوه:
الأول: أنها في من كانوا قبل البعثة، وهو قول السدي وسعيد بن جبير وقتادة.
الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: {ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وهو قول ابن عباس.
الثالث: أنها لا تنطبق على اليهود والنصارى بعد بعثته صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم لم يتحقَّقوا بما ذكر فيها.
أما الوجه الأول: فيؤيده ما ذكر في سبب نزولها، وأنها نزلت في أصحاب سلمان الفارسي من النصارى الذين كانوا على التوحيد والدين الصحيح ولم يدركوا بعثته صلى الله عليه وسلم.
روى ابن أبي حاتم بسنده عن مجاهد قال: قال سلمان: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنت معهم، فذكرت من صلاتهم وعبادتهم، فنزلت: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى آخر الآية [البقرة: 62]. وجاء مثل ذلك عن السدي.
أما الوجه الثاني: فقد أورد ابن أبي حاتم بسنده عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} الآية [البقرة: 62]، قال: فأنزل الله بعد ذلك: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} [آل عمران: 85]
وليس المقصود بالنسخ هنا معناه الاصطلاحي الذي يعني زوال الحكم بالكلية، وإنما معناه التخصيص، والسلف كثيرًا ما يستخدمون النسخ بمعنى التقييد والتخصيص، فيكون كلام ابن عباس معناه: أن الآية مخصوصة بمن كانوا قبل البعثة، وأما بعد البعثة فلا يقبل الله من أحد غير دين الإسلام الذي بعث به النبي عليه الصلاة والسلام.
قال ابن كثير رحمه الله: “فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقا لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة”
والوجه الثالث: أن إيمان اليهود هو تمسكهم بالتوراة حتى بعثة المسيح عليه السلام، فمن بلغته دعوة المسيح منهم فلم يتبعه كان من الهالكين الكافرين، وكذلك إيمان النصارى هو تمسكهم بالإنجيل وسنة عيسى عليه السلام حتى بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، فمن كذب به فليس من المؤمنين بالله ولا باليوم الآخر، فلا يكون داخلا في الآية. وكذلك إيمان الصابئة هو إيمانهم بالله تعالى قبل أن يبدلوا دين الله ويقعوا في الشرك وعبادة النجوم والكواكب.
قال شيخ الإسلام مجيبًا عمن احتج بهذه الآية على امتداح أصحابها بعد التبديل: “فعلم أنها لم تمدح واحدًا منهما بعد النسخ والتبديل، وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والذين هادوا الذين اتبعوا موسى عليه السلام وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل، والنصارى الذين اتبعوا المسيح عليه السلام وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل، والصابئين وهم الصابئون الحنفاء، كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ؛ فإن العرب من ولد إسماعيل وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة… وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين، فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم ونحوهم هم الذين مدحهم الله تعالى، فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله ولا باليوم الآخر وعمل صالحا، كما قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقد تقدم أنه كفَّر أهل الكتاب الذين بدَّلوا دين موسى والمسيح، وكذَّبوا بالمسيح أو بمحمد صلى الله عليه وسلم في غير موضع، وتلك آيات صريحة ونصوص كثيرة، وهذا متواتر معلوم بالاضطرار من دين محمد صلى الله عليه وسلم”.
فاليهود والنصارى والصابئة بعد ذلك نسَبوا إلى الله الصاحبةَ والولد والبكاء والموتَ وسائر صفات المخلوقين، وأشركوا في عبادة الله، وحرَّفوا دين الأنبياء، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا، فكيف يكونون مؤمنين بالله واليوم الآخر؟!
فكفرهم وخروجهم عن صفة الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح من جهتين: من جهة تبديلهم دين أنبيائهم، ومن جهة تكذيبهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثته. وأما من التزم الدين الحق ومات قبل البعثة، أو بلغته الدعوة فاتبع النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الداخل في الآية المقصود بها.
الشبهة الثالثة: تعظيم الله لمعابدهم التي يصلون فيها، ومدح من يدفع عنها:
قال تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج: 40].
فقالوا: إن الله قد عظَّم معابد اليهود والنصارى، وشرع الجهاد من أجل حمايتها وعدم هدمها، فكيف يستقيم هذا مع كفرهم وبطلان دينهم؟!
وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الشبهة من ثلاثة وجوه، نذكرها ملخَّصة:
الأول: أن التي يذكر فيها اسم الله كثيرا هي المساجد، وليست الكنائس والبيع التي يُشرك فيها بالله.
الثاني: لو أريد بها المساجد والصوامع والبيع فلا ريب أن الصوامع والبيع قبل أن يبعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم كان فيها من يتَّبع دين المسيح الذي لم يبدَّل، ويذكر فيها اسم الله كثيرًا.
الثالث: أنه لو حُمِلت الآية على ما بعدَ التبديل والتحريف فلا يدلّ على صحة دينهم، وإنما يدلُّ على أن الله يحب أن يذكر اسمه ولو من مشرك، قال شيخ الإسلام: “قد قيل: إنها بعد النسخ والتبديل يذكر فيها اسم الله كثيرا، وإن الله يحب أن يذكر اسمه. قال الضحاك: إن الله يحب أن يذكر اسمه وإن كان يُشرك به، يعني: أن المشرك به خير من المعطل الجاحد الذي لا يذكر اسم الله بحال. وأهل الكتاب خير من المشركين، وقد ذكرنا أنه لما اقتتل فارس والروم وانتصرت الفرس ساء ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهوا انتصار الفرس على النصارى; لأن النصارى أقرب إلى دين الله من المجوس، والرسل بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وتقديم خير الخيرين على أدناهما حسب الإمكان، ودفع شر الشرين بخيرهما، فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد إذا هدمها المجوس والمشركون، وأما إذا هدمها المسلمون وجعلوا أماكنها مساجدَ يذكر فيها اسم الله كثيرا فهذا خير وصلاح”
الشبهة الرابعة: الاستدلال بإباحة الزواج من الكتابية، مع النهي عن الزواج بالمشركات، قالوا: فهذا دليل أنهم ليسوا مشركين:
والجواب إجمالا: أن الآية إما من العام الذي أريد به الخاص، أو من العام المخصوص.
وبيان ذلك أن في الآية ثلاثة أوجه لأهل التفسير، وقد لخَّصها القرطبي رحمه الله بقوله: “واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: حرَّم الله نكاحَ المشركات في سورة البقرة، ثم نسخ من هذه الجملة نساء أهل الكتاب، فأحلهن في سورة المائدة. وروي هذا القول عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس وسفيان بن سعيد الثوري وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي.
وقال قتادة وسعيد بن جبير: لفظ الآية العموم في كل كافرة، والمراد بها الخصوص في الكتابيات، وبينت الخصوص آية المائدة، ولم يتناول العموم قط الكتابيات. وهذا أحد قولي الشافعي، وعلى القول الأول يتناولهن العموم، ثم نسخت آية المائدة بعض العموم. وهذا مذهب مالك رحمه الله، ذكره ابن حبيب، وقال: ونكاح اليهودية والنصرانية وإن كان قد أحله الله تعالى مستثقَل مذموم.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في البقرة هي الناسخة، والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرموا نكاح كلّ مشركة كتابية أو غير كتابية، ويُحتج لهذا القول بأن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرَّم الله المشركات على المؤمنين، ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة: ربّها عيسى، أو عبد من عباد الله”([23]).
فمن يقول من العلماء: إن الآية عامّ مخصوص قصد أن الكتابية دخلت في النصّ، ثم خرجت منه بعد ذلك بآية المائدة، ومن يقول: إنها من العام المراد به الخصوص يقول: لم تدخل بداية، مع أنها أحد أفراد هذا العام، ولكنها ليست مرادة في هذا الموضع بعينه. والله سبحانه وتعالى كثيرًا ما يفرق بين المشركين والكتابيين في الاسم لا في الحكم، كما يفرق بين المشركين والمجوس والصابئة، فهذا تفريق بين أنواع الجنس الواحد، وإن كانوا جميعا كفارًا في الحكم، كما قال تعالى في سورة البينة: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1].
وأما على القول الثالث -وهو تحريم نكاح الكتابية لأنها مشركة- فهو وإن كان ضعيفا فقهيًّا، إلا أن الغرض من إيراده إثبات الاتفاق على أن الكتابية كافرة، بغضّ النظر عن ضعف القول بتحريم نكاحها؛ لكونه مخالفًا لما عليه عامَّة العلماء من إباحة نكاح الكتابية المحصنة وهي الحرة العفيفة.
فعلى كلٍّ، ليس في الآية دلالة على نفي الكفر ولا الشرك عن الكتابية، كما هو واضح.
الشبهة الخامسة: انتسابهم لدين إبراهيم عليه السلام:
قالوا: فالديانات الثلاث -اليهودية والمسيحية والإسلام- هي ديانات إبراهيمية، ينتسبون لخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، قالوا: وقد مدح الله تعالى ملته ومن ينتسب إليها؛ ولذلك ينسبون كل دعاوى الخلط بين الأديان لنبي الله إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-.
والجواب: أن هذه شبهة قديمة حديثة، تولى الله تعالى بنفسه بيانها، فقد زعم المشركون أنهم اتباع إبراهيم، وكذلك اليهود والنصارى، فبين سبحانه وتعالى حقيقة دين إبراهيم، فقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].
ثم بين من هم أحقُّ الناس باتباعه والانتساب إليه، فقال: {إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 68].
وأكذب الله تعالى اليهود والنصارى الذين ينتسبون إليه، فقال تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُودًا أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].
فليست العبرة بمجرد الانتساب، لا من اليهود والنصارى ولا غيرهم، بل ولا من المسلمين، فمن كان مسلما ثم نقض شهادته وتوحيده فلا ينفعه انتسابه، قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} [النساء: 123].
وقد روى ابن جرير رحمه الله عن عكرمة قال: لما نزل: {ومَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنزلَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يحُجُّهم أنْ: {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].
فملة إبراهيم هي ملة الإسلام التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، وأتباعه على الحقيقة هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة أيضا، وأما من بدل الدين وحرفه وكذب الرسل فليس من أتباعه وإن انتسب إليه وإلى دينه، فالعبرة بالعمل، وليس بمجرد الانتساب.
خاتمة:
إن هذا الموقف الواضح الحاسم من كون الإسلام هو الحق، ورفض الخلط بين الحق والباطل والتسوية بينهما، لا يتعارض بحال مع المعاملة لغير المسلمين بالعدل والبر اللذين أمرنا بهما في القرآن، قال تعالى: {لَا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وهذا ما طبقه المسلمون، وتعايشوا مع غير المسلمين قرونا في ظل هذا السلم المجتمعي الذي لم تكن تعرفه البشرية حينها، حينما كان أهل الدين الواحد يقتل بعضهم بعضا بسبب الصراعات المذهبية.
والانحراف إفراطا أو تفريطا يأتي من الخلط بين العقيدة والمعاملة، فمجال المسامحة هي المعاملة وليس الاعتقاد، وأما الاعتقاد فمبني على المفاصلة بين الحق والباطل، فلا بد من التفريق بين المعاملات الجائزة مع غير المسلمين في السياسة والاقتصاد والتعايش المجتمعي، والموالاة التي حرمها الله، وأعظم صورها الرضا بالباطل والخلط بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر، فهذا من الفساد في الدين والدنيا، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73].
والحمد لله رب العالمين.