تأليف
الوصف
مقالة
مقدمة:
الشبهات حول الدِّين بعدَد مواضيعه، فما من موضوع من موضوعات الإسلام إلا وقد حاول الأعداء والسَّمَّاعون لهم أن يثيروا شبهاتٍ حوله، ويلبِّسوا أمره على الناس.
ومن القضايا التي احتدَّ النقاش حولها منذ حدوثها إلى يومنا هذا قضيةُ الإسراء والمعراج، حيث أنكَرها من أدركها من الكفَّار، وورث هذا الإنكارَ عنهم بنو ملَّتهم مِن دُعاة الشّبَه ومثيري الفِتن، حتى سرتِ العدوى إلى بعض المسلمين فأنكَروها، وادَّعوا أنها قصَّة أسطوريّة خرافيَّة، وردُّوها جملة وتفصيلًا، واختلقُوا معاذير لردِّها لم تخرج عن معاذير مَن قبلهم في أغلب أحوالها، إلا في جانبِ ظهور المغالَطة والجهل بالتعبير اللغويّ في القرآن والسنة، وترجع هذه الدعاوى إلى قضايا أساسية أهمُّها:
- دعوى أنها لم ترد في القرآن الكريم.
- أنَّ قصةَ الإسراء والمعراج هي مِن وضع الفلسفات السابقة التي أُدمجت في الإسلام، وعلى القول بأنها عند الأمم السابقة فكيف تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم؟ يجيب أحدهم بأن قصَّة الإسراء والمعراج تلقَّاها النبي صلى الله عليه وسلم من سلمان الفارسي
- أن العلم الحديثَ يستبعدها؛ لأن في السماء مناطقَ لا يوجد فيها الهواء، فكيف استطاع النبي صلى الله عليه وسلم عبور تلك المناطق؟!
- تأويل قصَّة الإسراء والمعراج ومحاولة إيجاد تفسير لها يخالف ما عند المسلمين
وهذه الشبهات مع تفاوت أهلها في الإنكار للشَّرع إلا أنَّ الجامع بين هذه الشبهات هو رفضُ الوحي بالكلية، أو رفضه جزئيًّا؛ بحيث أن المتكلمَ يتعامل مع الوحي بمنطق النِّدِّيَّة والتكافؤ، فلا يقبَل منه أي معلومة ما لم يعرضها على معارفه الخاصَّة، ويرى مدَى انسجامها معها، فإذا لم تنسجم مع معارفه ومعطياته العقليَّة فإنه يردُّها أو يتأوَّلها.
ومن ثمَّ فإن مناقشة هذه الشبهات تحتاج تبيين موضع الإشكال عند أصحابها، والأغلاط الموضوعية التي ارتكبوها في معالجة ما يستشكلون من القضايا المعرفية في الوحي، والتي من بينها قضية الإسراء التي يقرِّرها الوحي ضمن المعجزات لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، وكيف أن القصة تحمل في طيَّاتها ما يشهَد موضوعيًّا بصدقها.
ونبدأ الآن في الردِّ بالتفصيل على الشبه التي مرَّ ذكرها إجمالًا:
الشبهة الأولى: دعوى أن قصة الإسراء والمعراج لم ترد في القرآن:
وهذه دعوى متهافتة لا تنهَض، وهي مبنية على منهجيّة غير موضوعية، وهي اعتقاد أن السنة ليست حجَّة بذاتها مطلَقًا، وهذا اعتقادٌ فاسد يردُّه القرآن وقواعدُ الدين ومنطِق العقل:
أما ردُّ القرآن له، فهو بشهادته بصدق النبي صلى الله عليه وسلم مطلقًا، وتزكيته لخبره سواء بالقرآن أو بالسنة، قال سبحانه: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، وهذه التزكية هي لخبر النبي صلى الله عليه وسلم في قصَّة الإسراء والمعراج. وقال عنه أيضا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 170]، وهذه تزكية شاملة لكلّ أخباره التي يخبر بها.
قال الطبري -رحمه الله- معلقًا على هذه الآية: “يعني بقوله جل ثناؤه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} مشركي العرب وسائرَ أصناف الكفر، {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ} يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم {بِالحَقِّ مِن رَّبِكُمْ}، يقول: بالإسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينًا، يقول: {مِن رَّبِكُمْ} يعني: من عند ربكم، {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكْمْ}، يقول: فصدِّقوه وصدّقوا بما جاءكم به من عند ربكم من الدين، فإن الإيمان بذلك خير لكم من الكفر به، {وَإِن تَكْفُرُوا} يقول: وإن تجحدوا رسالتَه وتكذّبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به لن يضرَّ غيركم، وإنما مكروهُ ذلك عائدٌ عليكم، دون الذي أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن لله ما في السموات والأرض ملكًا وخلقًا، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه من ملكه وسلطانه شيئًا، {وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}”
وأما من ناحية العقل، فإن إمكان الكذب في السنة وارد على مستوى الإسناد لأنه لا يوجد ما يمنع من إمكان كذب الراوي عقلا أو خطئه، وكذلك على مستوى المتن فالراوي إذا كذب فإنه يمكن أن يضع المتن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينسبه إليه، فلم يبق إلا التمسك بعدالة الراوي، وعدالة الراوي شاملة لما روى سواء كان كتابا أو سنة، فوجب قبول روايته وتصديقه. فالعدول الذين رووا السنة من الصحابة وخيار التابعين ورجال الحديث هم الذين أخذ عنهم القرآن، فالطعن في السنة طعن في القرآن والمجوز للكذب في السنة إما يكون مجوزا له في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا كفر!
وإذا جوّزه عليه في أخباره فما الذي يمنع من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نسب للقرآن ما ليس منه؟
وإما أن يجوّزه على الرواة العدول من الصحابة رضوان الله عليهم، فكما كذبوا في السنة ـ بزعمه ـــ فما الذي يمنع أن يُدخلوا في القرآن ما ليس فيه، فلا يمكن اتصال سند القرآن إلا عن طريقهم!!
ومن ناحية أخرى، فإن قصَّة الإسراء والمعراج مع ذلك مذكورة في القرآن بأهم تفاصيلها، وخصوصًا ما هو مستغرب عند الماديين، ووجود تفصيل لها في السنة لا إشكال فيه؛ لأنه لم يتعارض مع القرآن، أما القصة بأصلها والجانب المهمّ منها فهي مذكورة، فقد وردت آيات من القرآن الكريم تتحدَّث عنها، وتنفي عن النبي صلى الله عليه وسلم إمكانية عدم الضبط لهذه المعجزة العظيمة، وتذكر ذلك في مقام النعمة والتعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقبل ذكر الآيات المتحدّثة عن الإسراء ننبِّه إلى أن طريقة القرآن في القصص والأخبار والأحكام ذِكرها في كلّ موضع بحسب ما يناسب، وعليه فإنَّ قصة الإسراء كسائر القصص القرآني لم تجمع في موضع واحدٍ من القرآن، وإنما فُرِّقت على آيات متعددةٍ من سور القرآن الكريم، يذكر في كل سورة ما يناسب المقام.
فقد افتتح الله عز وجل سورة الإسراء بالإشارة إلى هذه القصة، فقال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1]. ولفظة (أسرى) في اللغة تطلَق على سير الليل، فلا يمكن حملها في اللغة على غير ذلك. قال الزجاج: “{أسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلًا} معناه: سَيَّر عبدَه، يقال: أسْرَيْتُ وسَرَيْتُ؛ إذَا سِرْتُ ليْلا”
وهذه الإشارة من القرآن إلى الإسراء والتصريح بوقوعه نقلها النقلة بالتواتر، قال ابن عطية رحمه الله: “ووقع الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كلّ أقطار الإسلام، فهو من المتواتر بهذا الوجه، وذكر النَّقَّاش عمن رواه عشرين صحابيًّا، فروى جمهور الصحابة وتلقى جلّ العلماء منهم أنَّ الإسراء كان بشخصه صلى الله عليه وسلم، وأنه ركب البراق من مكة ووصل إلى بيت المقدس وصلَّى فيه، وروى حذيفة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل عن البراق في بيت المقدس ولا دخله، قال حذيفة: ولو صلى فيه لكُتبت عليكم الصلاة فيه، وأنه ركب البراق بمكة ولم ينزل عنه حتى انصرف إلى بيته، إلا في صعوده إلى السماء”
ومما يؤيّد أن هذا السرى كان بالجسم لا بالروح استنكار قريش له؛ إذ الرؤيا الحلمية لا يمكن أن يستنكرها عاقل، قال القرطبي: “ولو كان مناما لقال: بروح عبده، ولم يقل: بعبده. وقوله: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى} يدلّ على ذلك. ولو كان منامًا لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدِّثِ الناس فيكذِّبوك، ولا فُضِّل أبو بكر بالتَّصديق، ولما أمكن قريشًا التشنيع والتكذيب، وقد كذَّبه قريش فيما أخبر به حتى ارتد أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر”
كما أن الآية أشارت إلى التفاصيل بما يناسب المقام؛ وذلك بقوله سبحانه: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1]. وهذه الآيات هي التي حدَّث بها الناس بعد ذلك من تفاصيل الشرائع والأحكام وعذاب القبر
ومن الآيات التي تحدَّثت عن قصة الإسراء كذلك ما أقسم الله سبحانه وتعالى عليه في كتابه من الردِّ على منكري الإسراء ودعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير شيئًا مما أخبر به فقال سبحانه: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى (16) مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغَى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} [النجم: 1-18]. قال ابن جزي: “{مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغَى} أي: ما زاغ بصر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عما رآه من العجائب، بل أثبتها وتيقَّنها، {وَمَا طَغَى} أي: ما تجاوز ما رأى إلى غيره، {لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى} يعني ما رأى ليلة الإسراء من السموات والجنة والنار والملائكة والأنبياء وغير ذلك”
فالآيات التي مضَت مُعَضِّدَةٌ للأحاديث التي حدَّث بها رسول الله صلى الله لعيه وسلم في قصة الإسراء، وقد نفت عنه الزيغ وعدَم الضبط، وأكَّدت على ما رأى من الآيات العظيمة، وكلها متعلقة بقصة الإسراء والمعراج التي هي محلّ الذكر، ولو فرضنا أن السنةَ خالفت القرآن فليس هذا موجبًا لتركها، فكيف وقد أكدته وعضدته؟! فلا متمسَّك لمن قال بأن قصة الإسراء والمعراج لم تُذكر في القرآن، بل هي مذكورة في القرآن، مؤكَّدة عليها على نحو ما ورد ما في السنة، ومن ادَّعى غير ذلك فإنَّ الحجةَ لا تنصُره، بل تردُّ عليه وتُبطل دعواه.
الشبهة الثانية: دعوى أن قصة الإسراء والمعراج مأخوذة من الأمم السابقة:
وقدِ استند أصحاب هذا القول إلى وجود تشابهٍ بين ما هو مذكور في قصَّة الإسراء مع ما عند بعض الديانات الفارسية كالزرادشتية، وأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذَ بعض تفاصيل هذه القصَّة من سلمان الفارسي رضي الله عنه.
وهذه الشبهة قديمةٌ، تناولها المشركون، وادَّعوها على القرآن الكريم في جميع قصصه وأخباره، فادَّعوا عليه أنَّه مجردُ أساطير اكتتبها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وقد صرف القرآنُ القول في الرد عليها، ومن جلمة الردود أن النبي صلى الله عله وسلم لم يكن يقرأ ولا يكتب حتى يأتي بما عند الآخرين، قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُون} [العنكبوت: 48]. فلو كان النبي قارئًا أو كاتبًا لكان أوّل من فطن لذلك أهل الكتاب الذين يوجد عندهم وصفُه في كتبهم، وكان كفَّار قريش في محاجَجتهم للحقّ لا يجدون من عذر للخروج من سطوة الحقِّ منِ ادعاء أن هذا القرآن وما يحكيه من أخبار ما هي إلا أساطير الأولين، فأحيانًا يكتفون بذلك، وأحيانا يدَّعون أنه انتحَلها من العجم، وكلُّ ذلك قد ردَّ القرآن عليه فقال سبحانه: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} [الفرقان: 6]، وقال سبحانه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين} [النحل: 103]. وهذه الآية ردّ على دعوى أن الوحيَ كان من إملاء سلمان الفارسي كما ذكر الضحاك وغيره.
أما قضية التشابه فلا متمسَّك بها إن وجدت لعدَّة أسباب:
أولا: أنَّ هذه الديانات التي يحيلون إليها لم تكن محلَّ إشادة من القرآن ولا من السنة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعض طقوس أهلها، وأمر بمخالفتهم فيها، ففي الحديث: «فإذا أقبل الفيء فصلّ، فإن الصلاة مشهودةٌ محضورة حتى تصلّي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجُد لها الكفار» ولم يبح نكاح نسائهم، ولم يحلّ ذبائحهم، وغير ذلك من الأحكام التي نصَّ الإسلام فيها على مخالفتهم وأكَّد عليها.
ثانيًا: ما يُدَّعى من التشابه ليس انتحالًا ولا أخذًا، بل كان اتفاقًا في أصل الديانات، فهذه الديانات أصلُها ديانات سماوية جاءت بها الرسل، لكن أهلها حرَّفوها وغيروا فيها وبدَّلوا، ولم يدَّع المسلمون أن معجزة الإسراء خاصَّة بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تحدث قبله، ولا أن التشريعاتِ القرآنيةَ لم يوجد مثيلٌ لها عند الأمم السابقة من أهل الكتاب، بل وجودها دليل على أنَّ هذا الدين من عند الله، وأنه جاء ليصحِّح ما أفسدت الديانات الأخرى وغيَّرت فيه وبدَّلت، فمن نظر في الإسلام يجد أنه يؤكِّد على أن الأصلَ في البشرية التوحيدُ والإسلام، وأنه دين جميع الرسل، ثم طرأ التغيير والتبديل بعد ذلك، ففي الحديث: «إِنِّي خلقتُ عبَادي حنفَاء كلهم، وَأَنَّهُمْ أَتَتْهُم الشَّيَاطِين فَاجْتَالَتْهُمْ عَن دينهم، وحرَّمَت عَلَيْهِم مَا أحللتُ لَهُم، وأمرتهم أَن يشركوا بِي مَا لم أنزل بِهِ سُلْطَانا، وَإِن الله نظر إِلَى أهل الأَرْض فمقتهم عربهم وعجمهم، إِلَّا بقايا من أهل الْكتاب. وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلتُ عَلَيْك كتابًا لَا يغسلهُ المَاء، تقرؤه نَائِمًا ويقظانا»
ثالثًا: لم يكن لسلمان الفارسي رضي الله عنه كلّ هذا التأثير، لا في عهد النبي صلى الله عليه ولا سلم ولا بعدَه، فدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ قصة الإسراء والمعراج منه تحتاج إثباتَ أن سلمان نفسَه عرفها بهذه التفاصيل، وكلّ قصّة سلمان المثبَتة تاريخيًّا أنه كان باحثًا عن الحقّ، جرب الديانات الأخرى حتى هداه الله إلى الإسلام؛ وذلك أن أحبار اليهود ورهبان النصارى أكَّدوا له أخبار النبيّ صلى الله عليه وسلم ومبعثه، فكان هذا هو دافع مجيئه لمكَّة ومحاولة التعرّف على الدّين، وكان ذمُّ المجوس حاضرًا في القرآن، ولم تكن هناك أي إشادة بهم ولا بدينهم، وسلمان علم مبعثَ النبيِّ من اليهود، وقصَّة الإسراء وقعت في مكّة، وكان سلمان يومها في المدينة، ولا علم له بخبر النبي صلى الله ليه وسلم، بل عُمِّي عليه أمره في بدايته.
فهذا سلمان يتحدَّث عن نفسه فيقول: قدم رجل من يهود بني قريظة فابتاعني منه، ثم خرج بي حتى قدمت المدينة، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها بصفَة صاحبي، وأيقنت أنها هي البلدة التي وُصِفَت لي، فأقمتُ عنده أعمل له في نخله في بني قريظَة، حتى بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم، وخفي عليَّ أمرُه حتى قدم المدينةَ، ونزل بقباء في بني عمرو بن عوف، فوالله إني لفي رأس نخلة وصاحبي جالس تحتي إذ أقبل رجلٌ من يهود من بني عمِّه، حتى وقف عليه فقال: أي فلان، قاتل الله بني قيلة! إنهم آنفًا ليتقاصَفون على رجل بقباء قدم من مكة، فرجفَت النخلة حتى ظننتُ لأسقطنَّ على صاحبي، ثم نزلت سريعًا أقول: ماذا تقول؟ ما هذا الخبر؟ قال: فرفع سيِّدي يده فلكَمني لكمةً شديدةً ثم قال: ما لك ولهذا؟! أقبِل على عملك، قلت: لا شيء، إنما أردتُ أن أستثبته هذا الخبرَ الذي سمعتُه يذكر، قال: أقبل على شأنك، قال: فأقبلتُ على عمَلي ولهيت منه، فلمَّا أمسيتُ جمعتُ ما كان عندي، ثم خرجت حتى جئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بقباء، فدخلتُ عليه ومعه نفرٌ من أصحابِه، فقلت: إنه بلغني أنَّك ليس بيدِك شيءٌ، وأنَّ معك أصحابًا لك، وأنكم أهلُ حاجةٍ وغربةٍ، وقد كان عندي شيء وضعتُه للصَّدقة، فلما ذكر لي مكانكم رأيتُكم أحقَّ الناس به، فجئتكم به، ثم وضعته له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا» وأمسك هو، قال: قلت في نفسي: هذه والله واحدة. ثم رجعت وتحوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وجمعت شيئًا، ثم جئته فسلَّمت عليه وقلت له: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقةَ، وقد كان عندي شيء أحبّ أن أكرمَك به من هديَّة أهديتُها كرامةً لك ليست بصدقة، فأكل وأكل أصحابه، قال قلت في نفسي: هذه أخرى. قال: ثم رجعتُ فمكثتُ ما شاء الله، ثم أتيتُه فوجدته في بقيع الغرقد قد تبع جنازة وحوله أصحابه، وعليه شملتان مؤتزرًا بواحدة مرتديًا بالأخرى، قال: فسلَّمتُ عليه ثم عدلتُ لأنظر في ظهره، فعرف أني أريدُ ذلك وأستثبته، قال: فقال بردائه فألقاه عن ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة كما وصف لي صاحبي، قال: فأكببتُ عليه أقبِّل الخاتم من ظهره وأبكي. قال فقال: «تحوَّل عنك»، فتحوَّلت فجلست بين يديه فحدثته حديثي كما حدثتك يا ابن عباس، فأعجبه ذلك، فأحبَّ أن يسمعه أصحابُه. ثم أسلمتُ وشغلني الرقّ وما كنت فيه حتى فاتني بدر وأحد
فقصة الإسراء سابقة زمنيًّا لإسلام سلمان ولقائه بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها وقعت في مكَّة وإسلامُه ولقياه بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في المدينة، ومع ذلك انشغلَ في كثير من زمنه بسبب الرقّ.
الشبهة الثالثة: استبعاد إمكان وقوعها بحجة مخالفتها للعلم الحديث:
لأنه ثبت عندهم أن الأكسجين ينتهي عند مسافة معيَّنة من البعد من الأرض، وعليه فإن إمكان الصعود إلى السماء السابعة ليس ممكنًا.
وهذه شبهة لا تنهض، فالمعجزة مخالفة للعادة وخارقة للعادة؛ ولهذا سمِّيت معجزة، فمحاولة محاكمتها إلى العادَة والحسّ هي فرع إنكار المعجزة، وقد وُجِدت في الكون أحداثٌ خالفت العادَة؛ لأن قدرةَ الله سبحانه وتعالى لا تحكُمها العادة، ولا العقل، فممَّا خالف العادة معجزة ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام، فقد وُلد من دون أبٍ كما قال الله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُون} [آل عمران: 47]. وكذلك إحياؤه للأموات وإبراؤه للأكمه والأ= الرقبرص، كل هذه معجزاتٌ خالفت العادَةَ، قال تعالى: {إَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِـي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين} [آل عمران: 49].
ومن ناحية أخرى فإن مخالفةَ العادة مسألةٌ نسبيَّة تابعة لما يتمتَّع به الإنسان من قوى خارجيَّة وباطنية، وما يتوفَّر لديه من علوم، فلكلّ شخصٍ عادةٌ تعدّ مخالفتها ضربًا من الخيال، وذلك وفقًا لإمكانياته وعلومه المتوفرة لديه، فقد أنكر كفَّار قريش انطلاقًا من إمكانياتهم المعرفية وطاقتهم العقلية إمكانية الوصول إلى بيت المقدس والرجوع إلى مكة في وقتٍ وجيز، وكان هذا في ذلك الوقتِ مخالفًا للعادة، أما في عالم الطيران والسرعة اليوم فإنَّ مخالفة العقل ومكابرته هي في إنكارِ ذلك. ومما يعين على مخالفة العادة مخالفةً تبهر العقل وتعجِزه التوكلُ على الله والاعتماد عليه، فالنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مؤيَّد بمعجزة وقدرة من الله، ولم يدَّع أن ذلك من صُنع نفسه وإنما هو من قدرة الله سبحانه وتعالى، فالمعجزة لا تكون من فعل الرسول، وإنما هي من فعل الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب} [الرعد: 38].
قال الطبري: “يقول جل ذكره: وما يقدِر رسولٌ أرسله الله إلى خلقه أنْ يأتي أمَّتَه بآية وعلامة، من تسيير الجبال، ونقل بَلْدةٍ من مكان إلى مكان آخر، وإحياء الموتى ونحوها من الآيات، {إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ}، يقول: إلا بأمر الله الجبالَ بالسير، والأرضَ بالانتقال، والميتَ بأن يحيَا”
فقوانين الحياة والمادةِ لا تحدُّ قدرة الله عز وجل، ولا تلزمه بشيء؛ إذ هو خالق الحياة والمادة، وهو المتصرِّف في الكون لا شريكَ له، يؤيِّد من يشاء بما يشاء، فمحاولة إخضاع المعجزة لحدود العقل والعادة هو تحكُّم في قدرة الله سبحانه وتعالى، وتحديد لها بما لا يمكن أن يحدَّها وهو قوانين مخلوقاته ومملوكاته سبحانه وتعالى.
الشبهة الرابعة: تأويل الإسراء والمعراج:
حاول بعضهم حين أعوَزته الأدلةُ الموضوعية لرفض معجزة الإسراء أن ينتهجَ نهجَ التأويل وصرف اللفظ عن ظاهره، وانتهجوا لذلك طريقين:
الطريق الأولى: ضرب الآيات بعضها ببعض ودعوى أن بعض الآيات تنفيه:
ادَّعى بعضهم أن القرآن ينفي الإسراءَ والمعراج، ودليل ذلك قوله تعالى: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولا} [الإسراء: 93].
فهذه الآية دليل على استحالة الإسراء -في زعمهم-، ومن ثم فإن ما ذكر في الإسراء كان رؤيا مناميَّة ولم يكن رؤية يقظة؛ بدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60]. ومصدر الرؤيا خاص بـ(رأى) الحلمية كما هو معروف عند أهل اللغة. وهذا الاستدلال فاسدٌ من وجوه:
أولا: أن الآيةَ الأولى ليس في سياقها ما يشهَد لما ذهبوا إليه، فالآية الأولى تردّ على جملة من طلبات المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها ليست بمقدوره أن يفعلها من تلقاء نفسه كما طلب المشركون، بل هي بيد الله، قال ابن عطية: “روي أن جماعتهم طلَبت هذا النحو منه، فأمره الله عز وجل أن يقول: {سُبْحانَ رَبِّي} أي: تنزيها له من الإتيان مع الملائكة قبيلا، ومن أن يخاطبكم بكتاب كما أردتم، ومن أن أقترح أنا عليه هذه الأشياء، وهل أنا إلا بشر منكم، أُرسِلت إليكم بالشريعة، فإنما عليَّ التبليغ فقط”
والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدَّع أن الإسراء فعله من تلقاء نفسه، وإنما كان معجزةً من الله، فهو في آخر الآية يفوِّض الأمر إلى الله، وهذا التفويضُ منصبٌّ على جميع الطلبات التي طلب المشركون، لا يخصّ واحدًا دون واحد، فما وجه تخصيصه بالإسراء؟! فهو لا ينفي وقوعه وإنما ينفي إمكانية القدرة عليه من بشر، وهذا عام في كل ما طلبوا من تفجير الأرض وتسيير الجبال وإحياء الموتى، ومع أنَّ البشر لا يستطيعُ فعل هذا من نفسه، فإنه كذلك يفعلُه إذا أذن الله فيه، فقد أحيا الله رجلَ بني إسرائيل حين ضُرِب ببعض البقرة، وأحيا الله الموتى على يدِ عيسى، وأسرى بعبده كذلك، فكل هذه الآيات تقع بعد إذن الله فيها كما قال الله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاب} [الرعد: 38].
وأما الآية الثانية -وهي قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا} [الإسراء: 60]- فقد ورد عن قتادة وابن عباس وغيرهما أنها رؤيا عين، والتعبير بالرؤيا عن الرؤية جائز في اللغة؛ لأن مادتهما واحدة، ومنه قول الراعي وهو عربيّ قحّ:
فَكَبَّرَ لِلرُّؤْيَا وَهَشَّ فُؤَادُهُ وَبَشَّرَ نَفْسًا كَانَ قَبْلُ يَلُومُهَا
وفي حالة تأويلها بالرؤيا المناميَّة فإن مَن أوَّلها بالرؤيا المناميَّة لم يحملها على الإسراء، بل كان لهم فيها أقوال، منها: حملها على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لمصارع كفار قريش يوم بَدر، أو دخوله لمكة عام الحديبية
وهذا المعنى الأخير قد يترجَّح بقول الله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27].
والأصحّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رأى ما رأى في ليلة الإسراء بعينيه؛ بدليل قوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17]. وهذا القول أشمل وأكمل، فحملُ الآية على معنى تلتئم به مع مثيلاتها أنسبُ وأليقُ بالقرآن من حملها على معنى تعارض به غيرها. والآية لا متمسَّك بها من هذه الناحية، ولا تشهد لما يذهب إليه، ثم الله عز وجل أخبر أنه أسرى بنبيِّه ولم يخبر أن الرؤيا كانت منامًا، ولو كانت منامًا لما استغرب كفار قريش شيئًا مما ذكر لهم.
الطريق الثانية: تأويل الآيات الواردة في قصة الإسراء والمعراج:
فقد حاول بعضُهم أن يفسِّر آية بني إسرائيل بأنها لا تدلُّ على أن النبيَّ أُسري به، فقال: إن كلمةَ (عبده) أضيفت إلى الضمير في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الإسراء: 1]. وعليه فإنَّ الآية لم تصرِّح بأنَّ الذي أسريَ به هو النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه فإنه ليس في القرآن ما يدلّ على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أسري به.
وهذا التأويل لا ينهض؛ لأنه لعِب بالألفاظ، وخروجٌ عن مقتضى الظاهر بغير دليل، وجهلٌ بطريقة القرآن في الخطاب. والجواب عليه أن المبلِّغ للقرآن هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فمحال أن يخبر بشيءٍ ثم يكذِّبه القرآن أو يشهَد بخلافه، فالإسراء تواتَر عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديثُ عنه، وأنه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فمحال أن يتحدَّث النبي عنه بهذا التفصيل ثم يذكر القرآنُ إسراءً آخر مشابهًا له لشخص آخر، دون أن تكون الإحالة إليه. ثم إن الغالب في إضافة العبد إلى الله -سواء كان إلى الاسم الظاهر مثل عبد الله أو إلى الضمير كما هو الحال في الآية- أن يكون المقصود بذلك رسول الله صلى الله عليه، وهذا المعنى مطروقٌ في أكثر من آية، ولا يمكن حمل اللفظ على غير الرسول، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد} [الزمر: 36]، وقال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم} [الحديد: 9].
فكل هذه الآيات المقصود بالعبد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا افترضنا أنَّ في الضمير إجمالًا فهلَّا حدد لنا المراد به إذا لم يكن المقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم ما المستغرب في قضية الإسراء: هل هو سرعة الذهاب والرجوع أم التشريعات؟! فإن ما نصَّ عليه القرآن في قصَّة سليمان من قدرة بعض الجنّ على أن يأتي سليمانَ وهو في بيت المقدس بعرش ملكة سبأ من اليمن أغربُ من قصَّة الإسراء، فكيف بالذي قال له: إنه سوف يأتيه به قبل أن يرتدَّ إليه طرفه، فهذه سرعة هائلة ومعجِزة عظيمة، وهي واردة في القرآن، فكيف يتأوَّلها المتأوِّلون؟! قال سبحانه وتعالى حاكيا لهذه القصة: {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِين (38) قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِين (39) قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيم} [النمل: 38-40]. فهذا حصل لسليمان وليس فيه ما يمكن تأويله على أنه وقع منامًا، ولا على أن فيه ما يستغرب؛ لأن هذا من قدرة الله سبحانه وتعالى.
أما التشريعات الواردة فيها فكلُّها مفصَّلة في القرآن والسنة، وهي من كليات الشريعة وأساسياتها، فلا وجه لاستغرابها إلا ضعف الإيمان ومحاولة مصادرة اليقين من الأمّة وإحلال الشكّ محلَّه.
هذا آخر ما تهيَّأ إعدادُه في هذه الورقة العلمية، وقد سعيت أن أجيب على الشبَه التي لا يكثر الجواب عليها، أو ما يتوفَّر من أجوبتها يكون ضعيفًا علميًّا، أمَّا ما هو متداوَل مشتهر من الأجوبة فقد استغنيت بشهرته عن إيراده، وخلاصة الشبه أنها ترجع في مجموعها إلى شيئين: تكذيب النصّ، أو اعتقاد تعارضه تعارضًا يوجب ردَّه، وهذا غير واقع مطلقًا في أخبار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كما أن محاكمة المعجزات إلى الحسّ والعادة يعدُّ حَيدة؛ إذ من شرط المعجزة مخالفةُ العادة المطَّردة أو الخروج عن المألوف لدى الإنسان؛ إذ هي للتحدِّي وإثبات الصّدق، فالنظر إليها من زاوية الحسّ والمشاهدة ومحاكمَتها إلى ذلك جَور وضلال وجهل بحقيقة المعجزات.
والحمد لله رب العالمين.