تأليف
الوصف
مقالة
تمهيد:
خلق اللهُ الإنسان فأحسن خَلقَه، وأودع فيه وسائل المعرفة والتَّمييز بين الخير والشر، وميزه بالعقل عن سائر الأنواع الأخرى من مخلوقات الله على الأرض، ثم كان من كرمه سبحانَه وإحسانِه إلى البشرية أن أرسل إليهم رسلًا من أنفسهم؛ إذ إنَّ الإنسان مع عقله وتمييزه للأمور ووسائله المعرفية الفطرية وغير الفطرية لا يمكنه أن يخترق حجب الغيب والمستقبل ومعرفة كثير من الأسئلة الوجوديَّة التي تحيط به، فكان من عدل الله ورحمته أن أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، ومبلغين للناس ما يريده الله من خلقه، ومبينين لهم ما أعدَّ لهم الله بعد مماتهم، ومقيمين لهم ميزان الحق في حياتهم في جانب تعاملاتهم وأخلاقهم وارتباط بعضهم ببعض وارتباطهم بالخالق جل وعلا، فكان الرسول رحمة لمن أُرسِل إليهم؛ يذكِّرهم بخالقهم، ويدعوهم إلى توحيده وإفراده بالعبادة.
وقد كانَ خاتم الرُّسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، أرسله الله بهذا الكتاب العزيز القرآن الكريم، وأمره بأن يعلِّمه للناس، وهو ما فعله عليه الصلاة والسلام طيلة ثلاث وعشرين سنة عاشها بين الناس نبيًّا رسولًا، فكان هديُه صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وتقريراته إنما هو تطبيق وبيانٌ للقرآن الكريم، ويكتسب صفة الحجية؛ لأنَّ الله سبحانه وتعالى أمر بطاعته والأخذ بما أتَى به، ونهى عن مخالفتِه، بيد أنَّه ظهر أناسٌ تنكَّروا لكل هذه الأمور التي صدرَت من النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاثٍ وعشرين سنة، فادَّعوا أنَّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم مردودة، وأنَّنا مطالبون بالقرآن وحدَه، فما كان فيه من مشكل أو مجمل أو مطلق أو عام فهمناه حسبَ ما نريد؛ ليكون النَّص القرآني واحدًا ومعانيه بعدَد من يحاول فهمَه!
ومنكرو السنة -أو الأريكيون يتمسَّكون بعددٍ من الأصول والأدلَّة حتى يبرهنوا على عدم الحاجة إلى السنة، وعدم حجيتها، وأننا لسنا مطالبين بتصديقها، ولا الأخذ بما جاء فيها من أوامر ونواهٍ، فتراهم ينادون بإنكارِ كل ما يتعلق بالسنة النبوية من أقوالِ النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، حتى وإن كانَ ردُّ السَّنة سيؤدي إلى ردِّ معظم الدين الإسلامي؛ إذ إنَّ تفاصيل معظم العبادات إنَّما هي في السنة، فليس في القرآن تفاصيل عن الصلاة شروطها وأركانها وواجباتها وكيفيتها وسائر أحكامها، وكذلك الزكاة والصيام والحج والمعاملات والحدود وغيرها كثير، فطرح السنَّة طرحٌ للقرآن.
ومع هذا فقد أجلبوا بخيلهم ورجلهم يؤكِّدون على نفي حجية السنة، تارة بالاكتفاء بالقرآن الكريم، وتارةً بادِّعاء أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما كانت مهمته الوحيدة هي تلقي القرآن الكريم من جبريل عليه السَّلام ثم بثِّه في الناس، دون أن يكون له فهمٌ وتطبيقٌ وتفسير للقرآن الكريم، فمُهمَّته الوحيدة هي النقل، وكأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جماد تنقل فقط دون أن تستوعِبَ أو تُدرك! ودون أن يسأله المبلَّغون أو يستفسِروا منه! فصارت الشريعة شرائعَ متعدِّدة ليس فيها للنبي صلى الله عليه وسلم نصيب أو أمر ونهي، ولذلك يصلُّون صلاةً لم يصلِّها النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤدّون زكاةً لم يخرجها عليه الصلاة والسلام، فانتقلوا من اتباع محمَّد صلى الله عليه وسلم وفهمه للقرآن إلى اتباع فلان وعلان ممَّن رامَ هَدم القرآن، فهاله تعظيم المسلمين لَه، فبدأ بما دونه وهو يعلم أنه يؤدِّي إلى هدم الجميع.
ورغم أنَّني لا أقول: إنَّ كلَّ منكري السنة إنما يريدون هدم السنة والقرآن والدين، بل قد يكون منهم من يريد الحق، إلا أنَّ النية الصَّالحة لا تكفي في صحة العمل، وما يلزم من أقوالهم من شناعة بالغة وإساءة عظيمة تجاه القرآن والدين والإله لا يمحوها صلاح نيَّة ولا حسن مقصد يدَّعونه في قلوبهم، فتلك أمورٌ موكولةٌ إلى الله تعالى، وهنا أمور عِلميَّة نناقشها ونعرف مقدارها في الميزان العلمي.
فهذه الورقة إذن في مناقشة كون النَّبي صلى الله عليه وسلم مهمَّتُه بلاغُ القرآن فقط، ولا شيء غير القرآن، وبناءً عليه فلا وجودَ لسنَّة نتَّبعها، ولا حجيَّة لأيِّ قولٍ أو فعلٍ للنَّبي صلى الله عليه وسلم ولو ثبت بالتواتر، ويمكن مناقشة هذا بالآتي:
هكذا فهمهَا المُنكرون:
جاء منكرو السَّنة إلى عددٍ من آيات القرآن الكريم، فتمسَّكوا بها في بيان أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ليست له مهمة ربانية إلا تبليغ القرآن الكريم، وبناءً عليه فلا سنة له ولا حجيَّة لأقواله وأفعاله، ومن أعجب العجب أنَّ بعض الحداثيين يدَّعي أن مثبتي السنة قد صنَّموا أشياء رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّهم أخذوا بأقواله وأفعاله وتتبَّعوا سنَّته، يقول جورج طرابيشي: “ولقد رأينا كيف أرست الأدبيَّات المتأخرة ابتداءً من القرن الثالث الهجري عبادةً تصنيميَّة لأشياء الرسول وأدواته، حتى القلامة من ظفره ما كان يصنع بها، والنخامة من فيه كيف كان يلفظها، ورغم أنَّه لم يكن مفوَّضًا بأن يقول من عنده بشيءٍ إلا ما يتلقاه من ربه وحيًا ويتعيَّن عليه تبليغه بدون أن يبدل فيه حرفًا، وإلا لقطعنا منه الوتين، رغم ذلك فقد جُعل من قوله وعمله سنَّة، واعتبرت السنة قرآنًا بعد القرآن“
ومن تتبع مواقعهم ومناقشاتهم يجد أنهم يتمسكون بآيات عدة من أهمها:
قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99]، وقوله تعالى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]، وقوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2]، وقوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203]، وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} [يونس: 109]. وغيرها من الآيات.
والمتأمِّل في هذه الآيات يجد أنَّ تمسُّك منكري السنة بها تمسُّكٌ غير صحيح؛ فإنَّهم على عادتهم يلوون النصوص ليحوروها إلى مراداتهم؛ ضاربين عرض الحائط بأدلة أخرى كثيرة شرعية وواقعية تدلُّ على ضرورة الرجوع إلى السنة والأخذ بها، أما هذه الآيات التي تمسكوا بها فقد أخطؤوا فيها من عدة جهات، وبيان ذلك أنَّ هذه الآيات الواردة في تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم يمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الآيات التي توضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ بشكل عام.
القسم الثاني: الآيات التي وردت في تبليغ القرآن بالخصوص.
القسم الثالث: أن تأتي آيات في بيان الوحي واتباعه.
وخطؤهم حاصل في جميع هذه الأقسام الثلاثة، وبيان ذلك بالآتي:
أولًا: أنَّ هذه الآيات عامة خصَّصوها بالقرآن وليس فيها تخصيص:
ففي حين إنَّ المنكرين يشنِّعون على مثبتي السنة والآخذين بها بأنَّهم يحرفون معاني النصوص ويلوون معانيها، فإنَّنا نرى أنَّ المنكرين هم من يصرون على فعل ذلك، فإن القسم الأول من الآيات التي وردت في تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم هو الآيات التي توضح أن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ، وهذه الآيات لا تفيد منكري السنة في شيء؛ فإنَّ جميع المسلمين يقرون ويؤمنون بأنَّ مهمة النبي صلى الله عليه وسلم البلاغ، لكن ماذا يبلِّغ؟ هل يبلِّغ القرآن وحده، أم يبلِّغ أيضا ما أمره الله بتبليغه من تفسير القرآن الكريم وبيان معانيه وتفصيل أحكامه؟ إذ كل ذلك يشمله البلاغ. ولا شك أنَّ المراد هو الثاني، فالآيات عامة، والأصل أنها لا تخصص إلا بدليل خاص، ولا دليل عند المنكرين.
أمَّا الآيات التي من هذا النوع فإنَّها ترد أحيانًا لبيان أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ليس عليه أن يكره أحدًا على الدخول في الإسلام، وذلك مثل قوله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، ويتضح من خلال الآية أنَّها جاءت في سياق مجادلة ومحاججة الكفار عمومًا وأهل الكتاب خصوصًا، كما قال تعالى في الآية السابقة: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن أنَّ أهل الكتاب بعد أن سمعوا الحق على قسمين: فإنَّهم إمَّا أن يؤمنوا فيكونوا قد اهتدوا، أو لا يؤمنوا، فلا يمكن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجبرهم على الدخول في دين الله أو يهديهم بنفسه هداية توفيق، وعلى هذا تفسيرات جلِّ المفسرين رحمهم الله إلا أنني لا أنقلها هنا لأن منكر السنة لا يحتج بها، ويراها من ضلالات الأمة! وحسبك سياق الآية ودلالتها الواضحة.
ومن تلك الآيات أيضًا قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وفيها تحذيرٌ من مخالفة الأوامر والنَّواهي، وبيان أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم مبلِّغ، فإن أدى بلاغه فإن العقوبة والذم على المتولي لا على الرسول، وممَّا يؤكد مثل هذا المعنى قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]. ومن المفارقات اللطيفة أنَّك تجد في الآيتين الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل جاء ذلك بتكرار كلمة الطاعة، ثم بين أنه مبلغ عن الله، والذنب والعقوبة على من أدبر وتولى عن طاعة الله وطاعة رسوله، فلم يأخذ بأمر الله ونهيه، ولا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه، والأمر بالطاعة هنا عام، وتقييده بالطاعة في القرآن عبثٌ جاء به الأريكيون.
ومن ذلك قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99]، وقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 35]، وغيرها كثير، والشاهد أنَّ كثيرا من الآيات التي يستدلون بها إنَّما هي من هذا القسم، والذي يوجد فيه البلاغ عامًّا، فما الذي يبلِّغه النبي صلى الله عليه وسلم؟ نحن نقول: إنه يبلّغ عن الله جميع مراداتِه وأوامره ونواهيه، وذلك عبر بلاغ القرآن وما يفسره ويبينه، وما يفسر تفاصيل الأوامر التي جاءت فيه، كتفاصيل الصلاة والزكاة والصيام والحج، فالقرآن إنَّما أنزل على رسولٍ يقيم هذا القرآن ويعمل به، ويبين ذلك للصحابة بأقواله وأفعاله وتقريراته، فلا شك أنَّها مما يجب الأخذ بها، أمَّا المنكرون فقد تولوا عن ذلك كله، وقفزوا أربعة عشر قرنًا ليفهموا النُّصوص كما يشاؤون، وإنَّك تجد ذلك عند أول سؤال لهم عن تفاصيل صلاتهم والتي هي الركن الثاني من أركان الإسلام، فتجدهم يتخبطون يمنة ويسرة في تقريرها وتقرير تفاصيلها وعدد ركعاتها وتوقيتها وركوعها وسجودها إلى غير ذلك، وقد بين الله سبحانه وتعالى أنَّ البلاغ من النَّبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بلاغٌ مُبِين كما يقول تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: 82]، فمع كل هذه الاختلافات بين منكري السنة في فهم أهمِّ ركنٍ بعد الشهادتين كيف صار القرآن الكريم بلاغًا مبينا بالنسبة لهم ما دام أنهم لم يأخذوا بالبيان الذي هو سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟!
ثانيًا: حصرٌ غير صحيح:
وهذا هو القسم الثاني من الآيات التي وردت في معنى تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم، وهو: الآيات التي وردت في تبليغ القرآن بالخصوص، وهذه الآيات فيها أمرٌ للنَّبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ القرآن، إلا أنَّ منكري السنة يعتمدون عليها في حصر البلاغ في القرآن، وليس في النُّصوص ما يدل على ذلك، فكون النبي صلى الله عليه وسلم مأمورًا بتبليغ القرآن لا يعني أنَّ السنة ليست بحجة، وأنه ليس مأمورًا بتبليغ تفاصيل العبادات والمعاملات الواردة في القرآن، فالآيات نفسها لا دليل فيها على الأمرين، وأعني:
1- على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ غير القرآن.
2- على أنَّ مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم تقتصر على هذا التبليغ فقط وأنه منهي عن تبليغ غيره.
ومن تلك الآيات التي يحتجُّون بها قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 19]، ورغم أنَّ الآية فيها بيان أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ينذر بالقرآن، إلَّا أنَّهم بنوا عليه أن هذا يعني أنَّه لا ينذر بغيره، فالقرآن هو الوحيد الذي يبلغه لقومه وينذرهم به، وهذا فيه قصورٌ شديد في فهم المعنى، فإنَّ الإنذار غير التبليغ أولًا، ثم إنه لا يوجد حصر في الآية كما أرادوا أن يفهموه، فلم يقل الله سبحانه وتعالى: لا ينذر الله نبيَّه إلا بالقرآن، كما أن القرآن نفسه ليس مجرد نذارات بل فيه أمور أخرى، فدلَّ على أنَّ الآية جاءت لغرض معين ولبيان معنى معين لا يصح لنا أن ننقله إلى غيره ممَّا لا تحتمله الآية.
ومن أشهر الأدلة التي يتمسَّكون بها في هذا المعنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة: 67]، وهذه الآية فيها جملتان يحتجون بهما وهما: قوله تعالى: {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، وقوله تعالى: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، فيزعمون أن الله سبحانه وتعالى أمر رسوله بتبليغ القرآن فقط، وبناء عليه فلا حجيَّة للسنة لأنه لم يبلغها، وهذا التفسير منهم متلبسٌ بعددٍ من الأخطاء من أهمها:
1- أن الجملتين متنازع في معناهما، فكيف يمكن الاحتجاج بهما على كون المراد منهما القرآن فقط؟! فالله سبحانه وتعالى قال: { مَا أُنْزِلَ}، والمثبتون يدَّعون أنه أنزل القرآنَ وأنزل السنة، والله سبحانه وتعالى قال: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، والمثبتون يرون أن الرسالة هنا عامة للقرآن والسنة، فهذا استدلال بمحل النزاع، وليست صريحة في النهي عن تبليغ السنة، بل لن تجد في القرآن الكريم آية واحدة صريحة -مع عظم المسألة وكونها من أصول الدين ويقوم عليها الإسلام- في النهي عن الأخذ بالسنة! ومن العجيب أن بعض المنكرين يقولون للمثبتين: أين نجد في كتاب الله أن الله قال: خذوا بالسنة؟! ويتناسون أننا لا نجد في كتاب الله أنه قال: لا تأخذوا بالسنة! بل يفوز المثبتون بعشرات الأدلة في الأمر بطاعة النبي صلة الله عليه وسلم والاقتداء به، وغيرها من أدلة شرعية وواقعية، وليس من نصيب المنكرين إلا ليُّ النصوص واختزال معانيها.
2- إذا قال المثبتون: إن المراد من الجملتين هو القرآن والسنة، فلا يمكن للمنكر أن يعترضَ؛ لأن اللفظ عام ولا مخصِّص، فالحجَّة مع المثبت لا مع المنكر.
3- وحتى إن قلنا: إن المراد في هذه الآية بالخصوص هو القرآن الكريم وتبليغه، فإن هذا لا يعني النهي عن تبليغ غير القرآن، فالأمر بالشيء نهي عن ضده لا نهي عن غيره، لكن حين رأى المنكرون سنةَ النبي صلى الله عليه وسلم ضدًّا للقرآن الكريم فهموا هذا الفَهم، بينما نقول: إن السنة النبوية جزءٌ لا يتجزأ من منظومة الوحي: القرآن والسنة، فالسنة ليست ضدًّا للقرآن الكريم، والأمر بتبليغ القرآن ليس فيه تعرّضٌ للسنة وتبليغها من عدمه، وهذا الجواب عينه يقال في الآيات الأخرى التي فيها أمر بتبليغ القرآن فقط، كقوله تعالى: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الكهف: 27]، وقوله تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45]، وكلها تؤكد على تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن، وليس فيها نهي عن تبليغ غيره، فإن كانت الآية بعينها لا تدل على جواز تبليغ السنة فهي لا تدلّ على النهي عن تبليغها، ثم تأتي الآيات الأخرى الكثيرة لتثبت حجية السنة وأن النبي صلى الله عليه وسلم بلَّغها.
ثالثًا: مصادرةٌ على المطلوب:
يأتي منكرو السنة إلى جملةٍ من الآيات التي فيها كلمات هي محلُّ نزاع أصلًا بين المثبتين والمنكرين فيحتجُّون بها، فالنتيجة التي يريدون الوصولَ إليها يعتمدونها في مقدّمتهم، وهذا مصادرة على المطلوب، وذلك في القسم الثالث من آيات البلاغ، وهو: أن تأتي آيات في بيان الوحي واتّباعه، فيستدلّون بذلك على أنَّ البلاغ للقرآن وحدَه، وذلك استنادًا إلى أن الوحي هو القرآن، ولا يصحّ منهم هذا الاستدلال في بيان عدم حجية السنة؛ إذ إن النزاع قائم في الوحي هل هو القرآن وحده أم القرآن والسنة، فمخالفهم في ذلك لا يسلِّم لهم بأنَّ الوحي هو القرآن وحده، فلا يمكن الاعتماد عليه كمقدّمة ثم الوصول إلى نتيجة تحمل نفس المقدمة من أنَّ القرآن هو الوحي وحده، والسنة ليست كذلك.
ومن تلك الآيات قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106]، وقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50]، وقوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203]، وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109]، وقوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الأحزاب: 2].
فهذه الآيات كما هي واضحة صريحةٌ تأمرُ النَّبي صلى الله عليه وسلم باتباع الوحي، أو هو عليه الصلاة والسلام يبين أنَّه يتبع الوحي، وليس فيها بيان عن ماهية هذا الوحي هل هو القرآن الكريم أو السنة، وهو أمر متنازع عليه بين المثبتين والمنكرين، فلا حجة في الآيات على قولهم، بل الحجة فيها أقرب إلى المثبتين لأنَّ النص القرآني يحمل على العموم في الأصل.
ولا يصح لمنكر أن يحتجَّ بقوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، على أنَّ القرآن هو الوحي الوحيد، فإن الآية وإن قلنا: إنها في القرآن وآياته إلا أنَّها لا دليل لهم فيها من جهة أنَّ الآية لم تنصَّ على أنَّ غير القرآن ليس بوحي، وإنما نصَّت على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لا يتبع إلا الوحي وهو هنا القرآن، والقرآن جزء من الوحي، فليس فيها دلالة على أنَّه هو الوحي الوحيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو مأمور باتباع كل وحي، خاصة إذا علمنا أن الأنبياء السابقين لم ينحصر الوحي عندهم في الكتب التي أنزلت عليهم، بل هناك وحي خارج تلك الكتب كانت الرسل وأتباعهم ملزمين باتباعه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم بدعًا من الرسل، وهو من أقوى الأدلة على حجية السنة.
رابعًا: تبليغُ القرآن ليس المهمَّة الوحيدة للنبي صلى الله عليه وسلم:
لا شك أنَّ أعظم مهمَّة للرسل هي تبليغ مراد الله سبحانه وتعالى وأوامره ونواهيه، وعلى رأس ذلك تبليغ الكتاب المنزل إن كان للرسول كتابٌ من الله، لكن الأنبياء والرسل ليس تبليغ الكتاب مهمتهم الوحيدة، بل هناك جملة أخرى من المهام التي تبين أنَّنا بحاجة إلى السنة ولا يمكن الاستغناء عنها بحال، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد أرسل بالقرآن والسنة، وأوحى بهما، وأمرنا أن نتبعهما، ونأخذ بهما، ومن تلك المهام:
1- التعليم: وهي مهمَّة عظيمة قام بها النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد بينها الله سبحانه وتعالى في كتابه فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، وقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]، وإنك ستجد من المنكرين من يفرحون بهذه الآيات، ويتمسكون بها في بيان أنَّ المطلوب من النبي صلى الله عليه وسلم هو بلاغ القرآن فقط، والبلاغ يقتصر على أن يبلغ الحروف التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم فحسب، وليس هذا الفهم بأول غرائبهم، فإنهم يفهمون القرآن كما يشاؤون ويريدون، ولذلك لا تجد اثنين منهم يتفقان على رأيٍ واحد في أعظم العبادات، فضلا عن أن يتفقوا على تفاصيل عبادات أخرى، وكثيرًا ما تجد المنكر يستدل بآخر آية يرد عليه أولها! ومثل ذلك هذه الآيات؛ فإنَّ المنكرين يدَّعون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم الكتاب فقط ويبلغه، فلا ذكرَ للسنة ولا حاجةَ إليها.
وهذا فهمٌ غير صحيح لأوجه، من أهمها: أنَّ العطف يقتضي المغايرة، وفي الآيات عطفان يجب الوقوف عندهما، العطف الأول: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد بين أن من مهام الرسول أن يتلو على الناس الآيات، وهذا واضح صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمورٌ بتبليغ الآيات، ثم يقول الله بعد ذلك: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ}، فما معنى هذا التكرار؟ وهل التَّعليم هو نفس التلاوة الواردة في أول الآية؟ وعلى هذا سيكون المعنى: “يتلو هذا الرسول عليهم الآيات ويعلمهم الآيات”، ومعنى الجملتين: أنه يبلغهم حروف الآيات فقط، هذا ما فهمه الأريكيون، وهو فهم غير سليم، بل الصحيح هو ما سيأتي بيانه بعد بيان العطف الثاني في الآية وهو: عطف الحكمة على الكتاب، فما الحكمة الواردة في هذه الآيات وغيرها؟ مرة ثالثة يدعي المنكرون أنَّ المراد منها القرآن الكريم، حيث يعطف الله المرة بعد الأخرى لبيان أنَّ النبي إنما يبلغ القرآن وحده، فمعنى الآية على زعمهم: “إنَّ هذا النبي يتلو القرآن ويعلم القرآن والقرآن”، ومثل هذا كلام تأباه بلاغة القرآن الكريم، فلا بد للحكمة من معنى مستقل، ورغم ادعاء المنكرين أنهم أهل التفسير دون تفاسير السلف إلا أنهم كلهم يجفلون عند تفسير الحكمة.
ورغم تشدّقهم بأن كل كلمة في القرآن لها معناها الخاص، وأنه يجب أن نفرق بين الكلمتين وإن كانتا متقاربتين في المعنى، ويمعنون في توجيه بعض الكلمات مشعرين بأنّ غيرهم مجرد مساكين لا يفهمون حقيقة المعاني، إلا أنهم مع هذا كله يمرّون سريعًا أمام هذه الآيات التي فيها إثبات للحكمة، وفي الحقيقة مع كثرة متابعة مناقشاتهم وجدالاتهم نجد أن تفسير هذه الكلمة ربما هو أكثر ما يمكن أن نقول: إنهم اتفقوا عليه؛ لأن القول بغير ذلك يفضح ادعاءهم وزعمهم، ولا أريد التطويل في بيان معنى الحكمة وماذا تقتضيه الآيات الواردة في ذلك ،فإن الغرض ليس ذكر أدلة حجيَّة السنة، ولكن بيان أن المنكرين أغفلوا هذه النصوص ولم يتعرضوا لها ولا لمعانيها.
إنَّ الصحيح في معنى “التعليم” أنَّها لفظة عامَّة تشمل التَّعليم الذي هو تبليغ حروف القرآن الكريم، وتشمل التعليم الذي هو بمعنى البيان والشَّرح والتَّفسير، فالنبي صلى الله عليه وسلم -بعثه الله مقامًا محمودًا- لم يكن مجرد ناقلٍ يحفظ حروفًا ويؤدِّيها كما هو قولهم، بل كان عليه الصلاة والسلام أوَّل من يتمثل بهذا القرآن ويعمل به ويَفهَمه ويُفهِّمه غيره، فيعلِّمهم هذا الكتاب حروفه ومعانيه، ولا شكَّ أنَّ المعاني التي يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم حجَّة عليهم يجب عليهم الأخذ بها، ولئن كان لأحدهم فهم لآية ما وكان خاطئًا فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يصحِّح ذلك الفهم، كما حصل مع قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، فقد ظنه الصحابة كل ظلم، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه الشرك، فعن عبد الله رضي الله عنه قال: لما نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] شقَّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسه؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس كما تظنون، إنما هو كما قال لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظْيمٌ} [لقمان: 13]»
والشَّاهد أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم مطلوب منه تعليم النَّاس الكتاب، ويكون التعليم بالتلاوة وإفهام المعاني، إذ إنَّ بداية الآية أخبرت عن تلاوة الآيات على الناس، فلا تكرار في قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ} إلا لمعنى زائد على مجرَّد التلاوة، ولذلك ذكر كثيرٌ من العلماء في تفسير كلمة “يعلمهم” معاني كثيرة غير مجرد تلاوة القرآن من مثل تعليم الناس الخير وتحذيرهم من الشر، وغير ذلك من المعاني التي تدل على أن التعليم لا يقتصر على مجرد نقل حروف القرآن كما يحلو للأريكيين أن يفهموه ولو أدى ذلك إلى طعنٍ في بلاغة القرآن الكريم، يقول الرازي في معنى الآية: “قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ} والمراد أنَّه يأمرهم بتلاوة الكتاب، ويعلِّمهم معاني الكتاب وحقائقَه؛ وذلك لأن التلاوة مطلوبة لوجوه: منها بقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر، فيبقى مصونًا عن التحريف والتصحيف، ومنها أن يكون لفظه ونظمه معجزًا لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، ومنها أن يكون في تلاوته نوع عبادة وطاعة، ومنها أن تكون قراءته في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة، فهذا حكم التلاوة، إلا أنَّ الحكمة العظمى والمقصود الأشرف: تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام، فإنَّ الله تعالى وصف القرآن بكونه هدى ونورًا؛ لما فيه من المعاني والحكم والأسرار، فلما ذكر الله تعالى أولًا أمر التلاوة ذكر بعده تعليم حقائقه وأسراره، فقال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ}”، ويقول الشوكاني: “وقيل: إنَّ المراد بالآيات: ظاهر الألفاظ، والكتاب: معانيها، والحكمة: الحكم، وهو مراد الله بالخطاب”
فالنبي صلى الله عليه وسلم إذن مبلغ للحروف والمعاني، فقوله وفعله وتقريره حجة بناء على هذه الآيات التي يستدلّ بها المنكرون، ولا ريب أنَّ العبادات التي وردت في القرآن ولم تأت تفاصيلها فيه كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يشرحها ويبينها ويعلمها أصحابه، فتنزل آيات الصلاة، فيعلِّمهم شروطها وأركانها وكيفيتها سائر أحكامها، وتنزل آيات الصيام والزكاة والحج والعمرة وغيرها من العبادات فيبين لهم فيها ذلك أيضا، وقس على هذا المعاملات والحدود والمواريث وغير ذلك.
وممَّا يبين قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالتعليم: أنَّ الصَّحابة الكرام كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ إنَّ هذا شأن المسلم، فهو يسأل ويبحث عما يرضي ربه ويبرئ ذمته، فكلما وجدوا أمرًا في القرآن الكريم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن تفاصيل ذلك الأمر ليعبدوا الله كما يريده الله لا كما يريده كلّ واحد منهم، وقد ذكر الله أمثلة لمثل هذه الأسئلة فقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة: 217]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [البقرة: 219]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [الأنفال: 1].
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه المسائل هي كل ما كان يهم الصحابة رضوان الله عليهم، أم أنَّ هذا حال الصحابة الكرام، وأنَّهم كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم، ويحبون أن يأتي الأعرابي فيسأل حتى يعرفوا تفاصيل عباداتهم ومعاملاتهم؟ لا شك أنَّه الثاني، فليس المسلمون صمًّا بكمًا، وليس الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد ناقلٍ -بعثه الله مقامًا محمودًا- ينقل إليهم القرآن، فيصمت المسلمون ليذهب كل واحد بيته لا يدري ما يصنع وكيف يؤدي هذا الأمر!
2- بيان القرآن الكريم: فقد وردت نصوصٌ عديدة تحثُّ النَّبي صلى الله عليه وسلم على بيان القرآن الكريم، من أهمَّها قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فهنا نزولان: ما أنزل إلى الناس وهو القرآن الكريم، وما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما يبين هذا الذي أنزل إلى النَّاس، ومعلوم أن المبيِّن غير المبيَّن، ولا ريب أنَّه يمكن حمل الآية على القرآن الكريم ليكون الذكر هو القرآن، لكن ما الذي يجعل عند المنكرين هذا التفسير أولى من القول بأن المبيِّن غير المبيَّن، بل هو شيء آخر أنزله الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم ليبين به القرآن؟! لا شيء علمي سوى أن هذا هو ما يتماشى مع قولهم واختيارهم؛ فدونك كتبهم ومصنفاتهم، وانظر من ترى منهم يذكر القول الآخر!
وهذا القول ذكره كثير من العلماء، أعني القول بأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه للناس، وأنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ما به يبين للناس القرآن الكريم، يقول البغوي: “{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أراد بالذكر الوحي، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم مبينًا للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة”
ويقول القرطبي: “{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} يعني القرآن؛ {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في هذا الكتاب من الأحكام والوعد والوعيد بقولك وفعلك، فالرَّسول صلى الله عليه وسلم مبيِّن عن الله عز وجل مرادَه ممَّا أجمله في كتابه من أحكام الصلاة والزكاة، وغير ذلك مما لم يفصله”
ويقول ابن كثير رحمه الله: “{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} من ربهم، أي: لعلمك بمعنى ما أنزل عليك، وحرصك عليه، واتباعك له، ولعلمنا بأنَّك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم، فتفصل لهم ما أجمل، وتبين لهم ما أشكل”
وهذا قول جمهور المفسرين، وهو الذي يقتضيه العقل السليم، يوضحه: أنَّ الله سبحانه وتعالى أضاف البيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل: لنبين أو لأبين، فدلَّ على أنَّ البيان صادر من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إن البيان هنا هو بيان القرآن أي: تبليغه؛ فإنَّ هناك فرقًا بين البيان ومجرد البلاغ، وهذه هي المصادرة على المطلوب التي يمارسها المنكرون دائمًا، فإنهم يفسرون النصوص كما يريدون، ثم يلزمون الناس بهذا التخصيص رغم أن الكلمة عامة، ثم يدَّعون أن المثبتين هم من يخصصون الآيات ويلوون معانيها.
3- فصل النزاع: فقد ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه أنَّ على المسلمين أن يلجؤوا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم لفصل النزاع، وأن يرضوا بحكمه، بل علق الله على ذلك إيمانهم فقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فكم هو عدد النزاعات المذكورة في القرآن والتي بيَّن الله فصلها وتوضيحها؟!
بل في مسألة عظيمة من مسائل النزاع كالقتل العمد ذكر الله سبحانه وتعالى الدية في القرآن فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] فما مقدار الدية؟ وإذا قُتل قتيل وأراد أولياء الدم أن يعفوا عن القصاص إلى الدية فهل يقرر القاضي مائة من الإبل أو ما يماثلها أو عشرة منها؟ ماذا لو اجتهد مجتهد بأنَّ المطلوب بقرة أو غنمة أو نعجة واحدة؟ أين نجد فصل هذا النِّزاع في القرآن الكريم؟! فدل ذلك على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم من مهامه فصل النزاع، ويجب على المسلمين أن يرضوا به ويأخذوه على أنه مقدس لا يجوز الخروج عنه.
4- كونه قدوة: فمن مهامِّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون قدوة حسنة للناس، وفي ذلك يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وكيف نأتسي بالنبي صلى الله عليه وسلم ونحن لا نعرف في القرآن من أخلاقه الحميدة إلا القليل؟! فقد قال الله سبحانه وتعالى عن أخلاقه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، فما هذا الخلق العظيم؟ وحتى الملاحدة والدهريون ومنكرو الديانات يدَّعون أنهم على خلق عظيم، فكيف نأتسي به صلى الله عليه وسلم في أخلاقه؟! كيف نأتسي به في تعامله مع زوجاته، وفي تعامله مع أصحابه، وفي طريقة عبادته، وفي طريقة ذكره؟!
هذه القدوة وهذا الاقتداء لاحَظَته عيون الغربيين قبل قلوب الأريكيين، تقول البريطانية (Karen Armstrong): “يسعى المسلمون أيضًا إلى محاكاة الرسول في حياتهم اليومية؛ من أجل أن يقتربوا بقدر الإمكان من هذا الكمال، وهذا يقربهم قدر الاستطاعة من الله، وكما يتوقع فقد كانت تلك المحاكاة دائمًا على مستوى عملي ملموس أكثر من محاكاة المسيحيين لعيسى، وهكذا بدأ العلماءُ المسلمون في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين بحثَ وجمعَ أحاديث محمد (السنن القولية والفعلية)، وقاموا بالتَّنقل في أنحاء الإمبراطورية الإسلاميَّة ليكتشفوا أكبر قدرٍ مستطاعٍ من الروايات الصادقة عن أشياء قالها أو فعلها في مناسبات معيَّنة، وتكون الأحاديث مع القرآن أصول الشريعة الإسلامية، كما أصبحت أيضا أساسًا للحياة اليومية والروحية لكل مسلم، فقد علمت السنة المسلمين محاكاة أسلوب محمد في الكلام والأكل والحب والاغتسال والعبادة لدرجة يعيدون معها إنتاج حياة النبي على الأرض في أدق تفاصيل حياتهم اليومية بأسلوب واقعي”
وأخيرًا:
خاتمة القول ما قاله سبحانه وتعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]، فعلامة حب الله هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم اتباعًا عامًّا شاملًا، وهو ما حُرِمَه المنكرون ممن يدَّعون أن النبي صلى الله عليه وسلم مجرد مبلّغ وتنتهي مهمّته، مجرد ناقل ليس له أن يفهَم ما ينقله، ولا أن يعمل به بتفاصيل أكثر ممَّا ورد في القرآن الكريم، وفي سبيل ذلك يلوون أعناق النصوص، ويخصّصون العام، ويعمّمون الخاصّ، ويمارسون أنواعا من المغالطات المنطقية، ولا عجب، فهم قد اختلفوا في أول العبادات، فصار لكل واحد منهم دينٌ، أما المثبتون فدينهم واحد، يأخذونه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم مجمعون على أصول العبادات والمعاملات والحدود والمواريث ممَّا جاء به الكتاب والسنة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.