تأليف
الوصف
مقالة
المقدمة
يــا صفوةَ الناسِ، أحباري معكَّرةٌ وليسَ يروي يراعي اليـــومَ تحبيـــرُ
فهل بعُمقِ عُبابِ الحُبِّ لي مددٌ يفــــــوحُ منهُ على الوجدانِ كافورُ؟
هواكــمُ ليـــسَ إلا القلــبُ يفهمُهُ وليسَ يُسعِفني فـي الحُبِّ تعبيـــرُ
…..
أقلِّبُ الطرفَ في دُنيـــا فضـــائلكُـــم يعـــود لي خاسئًا والطرْفُ محسورُ
كيفَ القصائدُ تحصيها مكارمُكم والحرفُ يهتزُّ منكم وهو مفطــــورُ؟!
…..
مـــا ضــــاعَ يا لَبِنَاتِ الدِّينِ سَعيُكُمُ فالدِّينُ من أنبيـــاءِ اللهِ معْمُــــورُ
إنْ يَنْسَ مُتَّبِعو الشَّــــهْواتِ فضْلَكُمُ فـإنَّهُ عِنْـــدَ ربِّ العَرْشِ مَذْكُـــورُ
بلَّغْتُــــمُ -يا مَــوالينـــــا- رسالَتَكُمْ فمالَ عنْ دَعَواتِ الحَــــقِّ مغْرُورُ
وكمْ صبرْتُمْ وجـاهـــدتُـم بـذلـكُـمُ ومن إلهي لكمْ عـــونٌ وتَصْبيرُ
تلكم أبيات الشاعر في أنبياء الله تعالى، ورغم صبرهم وبذلهم وسمو أخلاقهم وعلو كعبهم في الفضائل وتضحيتهم من أجل البشرية عليهم الصلاة والسلام، إلا أن في الناس اليوم من بلغ به الحنق عليهم مبلغه، حتى ذهب يثير الشكوك، ويحاول نقض ما جاؤوا به من الهدى والبينات.
وفي هذه الورقة سنناقش إحدى تلك الشبهات، والتي تقول: لماذا يصطفي الله بعض البشر للنبوة ويجعلهم أول الفائزين؟! محاولين نفض الغبار عن هذه الشبهة القابعة في دهاليز التاريخ، والكشف عن عوارها في ذاتها.
فاللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.
تمهيد:
إذا اقتربنا بالعدسة أكثر ونقَّبنا بأدوات البحث الموضوعية في دين الإسلام، رأيناه ذلك الدين الذي ما أسفر عن نفسه وقيمه ومبادئه حتى التفَّت حوله البشرية، وبقي راسخًا شامخًا كالطود على مدى أربعة عشر قرنًا وإلى قيام الساعة، لم يذبل فيها منهجه كمنهج فكر وحياة وعقيدة وأخلاق، بل تغلغل في الأعماق والقلوب، وفتح الصدور قبل الثغور، فسادَ العوالم والأمصار، وأصبح خير نظام وخير منهج على مر العصور، فدين الإسلام هو ذلكم الدين الذي فتحت له البلدان أبوابها، واتسع حتى غدت دولته أكبر دولة في العالم في عصر زهوه، وكل ذلك في وقت وجيز جدًّا، فقد امتدت حدودها من الصين إلى أبواب فرنسا وإيطاليا؛ مما جعله موضوع المؤرخين وشغلهم الشاغل حتى ولو كانوا من أعداء الإسلام!!
وذلك مما يؤكد لنا أن الله تعالى هو الذي تكفَّل بحفظ هذا المنهج الرباني القويم والصراط المستقيم، وأنَّ حملة الدين وحماة الشريعة قد جاهدوا في الله حق جهاده.
ومن السفاهة -بل كل السفاهة- أن نشطب كل ذلك التاريخ وهذا المنهج القويم بجرة قلم وخطرات عازف، أو بنزغات مشكك؛ لننسى كل ذلك الذي شُيِّد وساد على مدار السنين.
إن حال من يرد الإسلام كله من أجل شبهة تافهة كحال تاجر نظر إلى عيب في طرف يسيرٍ من أطراف تلك البضاعة، فرد الجمل بما حمل طرًّا، وصرف وجهه ولم يعقِّب، ثم راح يعيب السلعة ويستنكر ما فيها من جودة وجدة، ويتعامى عما فيها من حسن وقيمة، بل وعن خيريَّتها أمام غيرها، بل قد يتعدى الأمر إلى حشد الحشود وتأليب الناس على ذلك البائع، ومحاولة الحجر عليه والتضييق، وإخراجه من السوق وتعريضه للإفلاس والبوار.
وفي الحقيقة أن من هذا النوع من يثير تلك الشبهة محل حديثنا وهي: إذا كانت النبوة حقًّا فلماذا تحصر في أشخاص معينين؟!
ولماذا يكونون هم أول الفائزين؟!
أليس هذا ظلمًا وانحيازًا لفئة على حساب آخرين؟!
أليس الأولى من ذلك أن يُلهَم الناسُ جميعا الخير ويعرفوه؟!
ألم يكن من الأولى أن يدخل الناس كلهم الجنة، بدلًا من أن يتفاضلوا فيتنازعوا ويختصموا ويتعاركوا؟!
كشف عوار الشبهة:
صحيح أن الناظر لأول وهلة قد يتبادر إلى ذهنه قوة ذلك الاعتراض وصحته، ولكنه عند التأمل والتمحيص الدقيق يتبين أنه ليس سوى خطرات ونزغات خاوية، لا قواعد لها ولا أساس.
إن المعترض بهذا الاعتراض يريد بنا أن نتنزل عن الشرف والمكانة العظيمة التي شرفنا الله بها، فقد كرمنا الله على الخلائق وميزنا بأن جعلنا نعبده باختيارنا وبمحض إرادتنا، وهو ما يظهر فيه بهاء الإنسان وجماله ومكانته، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]؛ ولذا جعلت المخلوقات كلها مسخرة لذلك الإنسان مهما كانت عظمتها، فالسموات والأرضين والجبال والأشجار كلها مسخَّرة للإنسان، كما يقول الله تعالى عن هذا: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 12، 13].
ولكن هذا المشكك لم يرض بذلك الشرف وتلك الكرامة التي كتبت لنا، بل تخلى عن كل ذلك ورضي أن يكون كالبهائم والحيوانات، فإن الله تعالى خلق الخلائق، وكرّمنا وخصَّنا من بينهم بخصائص لم تُعط لأحد غيرنا نحن البشر، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وحرية الاختيار هي أهم خصيصة تميزنا عن الحيوانات والبهائم وكلِّ الخلائق، فبينما تؤوب الخلائق وتخضع الكائنات لله جبلَّة، حيث لا تملك سوى ذلك، ولا تملك حرية الاختيار والإرادة في تصرُّفاتها، يتفرَّد الإنسان ويتميَّز بتأليهه وخضوعه الاختياري لربِّه ومولاه وخالقه.
يا لَلَرَّوعة! ويا لَلَعظمة! ما أكملها من صورة متناغمة وكمال متلائم! خلقٌ يعبدون الله طوعًا من أنفسهم في خضمِّ الشهوات والشبهات التي تصرفهم عنها، وخلقٌ تأخذهم أمواج الفتن والمعاصي يمنةً ويسرةً، ثم يؤوبون ويرجعون إلى خالقهم ومولاهم، ويعتصمون به لا يشركون به شيئًا، متناغمين مع كلِّ الخلائق التي تخضع لله جبلَّة وفطرة.
ولكن ذلك المشكِّك لم يرض بذلك، ويريد منا أن نعيش أيضا كالبهائم والحيوانات، لا عقل لنا ولا بصر ولا بصيرة، ولا شرف ولا مكانة؛ إذ فيم يتميز الإنسان وتكون له المكانة إن لم يكن ثمَّ تكليف ولا عبادة ولا خضوع اختياري.
وإلا قل لي بربِّك: أليس من علو الشرف للإنسان أن يكون أفضل المخلوقات بعبادته لله بطوعه واختياره؟! وكيف يكون ذلك إلا بمنح الإنسان حرية الاختيار بين الخير والشر والصلاح أو الفساد؟!
ولا شك أن أفضل طريق لمعرفة الخير والشر ومعرفة رب الأرض والسماء هو طريق الوحي؛ إذ هو منزَّل من عند الله خالق السموات والأرض ومالكها، ومؤيَّد بالحجج والبراهين العقلية والوجدانية، ومصدِّق لما بين يديه وما قبله، ويصدِّقه ما بين يديه وما بعده.
وإن كان لا بد من وجود التكليف ومن تميّز البشر حسب أعمالهم من صالح وطالح وعابد ولاه، فمن الطبيعي بعد ذلك أن يكافأ الخيِّر على خيريَّته واستقامته، ويعطى أحسن الجوائز، ويكتب عند الله من الفائزين، ويجازى الشرير على بغيه وعدوانه ويحاسب عليه على مقدار عمله.
هذا من جانب، ومن جانب آخر إذا ما تأملنا في القضية من زاوية أخرى -وهي زاوية العبد المملوك المخلوق- لنعرف مَن ذلك العبد الذي يريد أن يتألّى على خالقه ومالكه أن يعطي فلانًا ويحرم فلانًا!! أفيصح في العقول أن يكون العبد المملوك هو الذي يحدد للمالك والسيد ماذا يفعل ومن يعطي ومن يحرم؟! أوَيصحُّ هذا في أمور الدنيا؟! أوَيَعلم ذلك المعترض ماذا يكسب اليوم وماذا يخسر في رزق نفسه غدا؟! أوَيَعرف كم يعيش في هذه الحياة وكم قسم له فيها؟!
إن كان الإنسان لا يملك شيئًا فيما يقسم له من رزقه الخاص به، وليس له فيه قول ولا نظر، بل أمره إلى الله سبحانه وتعالى، فلِم يجادل في إنعام الله وفضائله و«يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار»؟!
وهاك زاوية أخرى وجانب آخر لنعرف عوار هذه الشبهة: فهل من الظلم في شيءٍ أن يفضِّل المالك والسيد فلانًا من الناس على فلان في تفضُّلِه وإنعامه الزائد على حقِّه الواجب ومستحقَّاته المفروضة؛ لما يرى في المفضَّل من الخير والصلاح والإتقان؟!
إننا نرى عكس ذلك هو ما يحصل، فهناك من هو مفضَّل على غيره في كل مكان وفي كل مجال، فقانون التفاضل والتكامل هو السائد في عالمنا وحياتنا وأعمالنا اليوم ومن قديم الزمان.
ثم من لم يُعطَ النبوة لن يحاسب على عدم نيله مرتبة النبوة، كحال قبيح الوجه الذي ليس له من الأمر شيء إلا أن الله كتب له أن يكون كذلك، فهو غير محاسب على قبح وجهه، وإنما يحاسب على ما اكتسبت يداه مما كان في نطاق اختياره وحريته.
فليس هناك عقاب أو حساب لمن لم ينل النبوة؛ ليقول من يقول بأن فيه ظلمًا، بل ثمة فرقٌ كبير بين الأفعال الاختيارية التي يفعلها الإنسان بمحض إرادته، وبين ما يعطاه من قبل مولاه وإلهه، فالأول محاسب عليها ويسأل عنها، وأما الثاني فإنه غير محاسب عليها ولا معاقب عليها، وهذا حاصل في أمور الدنيا في العالم أجمع قبل الآخرة، وهو المعقول.
فالأنبياء لا يرفع عنهم التكليف، وليسوا بأقل ابتلاء من غيرهم، بل هم أشد الناس بلاءً كما هو معروف في حياتهم وسِيرهم، بل ما من مصابٍ إلا وله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم عبرة وعظة وسلوان.
وكما قلنا: نحن نرى أن الحياة الدنيا بأسرها قائمة على هذا النوع من الاختلاف والتفاضل، فليست هي خاصة بقضية النبوة فحسب، بل الحال ذاته في كل قضايا الدنيا، سواء قضية الرزق المادي والمعنوي كما أشرنا إلى ذلك آنفا.
فمن من هؤلاء يقول بأن من الظلم أن يكون في هذه الحياة غني وفقير وعالم وجاهل وجميل وقبيح؟! ومن منهم يدَّعي أن من الظلم أن يكون في هذه الدنيا رئيس ومرؤوس وسيد وخادم؟! فهل يدعون أن هذا من الظلم أيضًا، أم أنهم يسلمون بأن هذه طبيعة هذه الحياة ويتكيفون مع ظروفها؟!
إذا كان الجواب: لا، فكذلك الحال في النبوة، هي كرامة وفضل من الله سبحانه وتعالى أولًا وآخرًا، وليس للإنسان فيها أي نوع من أنواع التدخل.
وكما قلنا: كل أمر من أمور هذه الدنيا له خبراؤه، فلكل صنعة أهلها، ولكل عمل مختصُّوه، ولكل مهارة حذاقها، وقديمًا قالت العرب: أعط القوس باريها، ومن هنا نرى اليوم أن العلوم والخبرات اتجهت إلى هذا الأمر، فأصبح لكل جزئية في هذه الحياة أناس مختصون بها، بل إننا نجد ذلك حتى في عالم الحيوانات والبهائم، انظر مثلًا إلى عالم النحل، تجد أن لكل نحلة عملًا يختص بها، وصنعة هي محترفة فيها، ولا تتدخل في غير ذلك العمل.
إذن لكل مجال أناس مختصون به، يتميزون بمعرفة خباياه عن غيرهم من الناس، والنبوة لا تختلف عن تلك الأشياء.
فليست النبوة مكتسبة، وليس النبي هو الذي وصل إلى تلك المرتبة برياضات أو غيره، وإنما هو اصطفاء واختيار من الله سبحانه وتعالى؛ لما علمه فيهم من النقاء والخيرية في نفوسهم، وعلو الخُلُق والرفعة في قلوبهم وتعاملهم.
يقول الله تعالى في هذا المعنى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33]، وقال تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75]، فهو سبحانه بيده ملكوت كل شيء، مالك الملك، يعطي النبوة من يشاء سبحانه وتعالى، كما أنه يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء.
إن هذا المشكك لم يأت بجديد -وهو حال عامة المشككين- فلا يقوون على أكثر من الولوج إلى مزابل الماضي والمستنقعات التراثية المنتنة المكدسة بالشبهات، ثم نسخ شيء من مخلفاته وإعادة تدويره، وما من شبهة إلا وقد رد الله عليها في كتابه، عقله من عقله، وجهله من جهله، وصدق الله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
فهذا الإشكال ليس جديدًا على فكرنا الإسلامي، فقد اعترضت به قريش من قبل على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لِمَ تكون النبوة له وفينا من هو أشرف منه؟! هلا أنزلت على الأشراف والعظماء الذين عندنا حتى تكون مقبولة؟! وكيف تنزل على محمد وما هو إلا يتيم من أيتام مكة؟! قال الله تعالى يحكي قولهم: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32].
فهم لا يملكون حق التدخل في معيشتهم وقوتهم اليومي مع أنها من أخص خصائصهم، فكيف تجاوزت عقولهم تلك القضية؛ لتجادل وتنافح عمَّا لا دخل لهم فيه؟!
ولم يكن ذلك هو الاعتراض الوحيد لقريش من هذا النوع، بل قد اعترضت بمثله كما في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ}.
فكيف كان الرد؟!
قال تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى: “يقول تعالى ذكره: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} يعني بذلك جل ثناؤه: أن آيات الأنبياء والرسل لن يُعطاها من البشر إلا رسول مرسل، وليس العادلون بربهم الأوثان والأصنام منهم فيعطوها. يقول جل ثناؤه: فأنا أعلم بمواضع رسالاتي، ومن هو لها أهل، فليس لكم -أيها المشركون- أن تتخيَّروا ذلك عليّ أنتم؛ لأن تخيُّر الرسول إلى المرسِلِ دون المرسَل إليه، والله أعلم إذا أرسل رسالةً بموضع رسالاته”
وما أحسن بيان الشيخ محمد الطاهر بن عاشور حيث يقول: “وقيل: قائل ذلك فريق من كبراء المشركين بمكة، قال الله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52]. روي أن الوليد بن المغيرة قال للنبيء صلى الله عليه وسلم: لو كانت النبوءة لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنًّا، وأكثر مالا وولدًا، وأن أبا جهل قال: زاحمنا -يعني بني مخزوم- بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبيء يوحى إليه، والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدًا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فكانت هذه الآية مشيرة إلى ما صدر من هذين، وعلى هذا يكون المراد: حتى يأتينا وحي كما يأتي الرسل”
ويقول في الرد على تلك الدعوى: “وقد أفادت الآية: أن الرسالة ليست مما ينال بالأماني ولا بالتشهي، ولكن الله يعلم من يصلح لها ومن لا يصلح، ولو علم من يصلح لها وأراد إرساله لأرسله، فإن النفوس متفاوتة في قبول الفيض الإلهي والاستعداد له والطاقة على الاضطلاع بحمله، فلا تصلح للرسالة إلا نفس خلقت قريبة من النفوس الملكية، بعيدة عن رذائل الحيوانية، سليمة من الأدواء القلبية، فالآية دالة على أن الرسول يخلق خلقة مناسبة لمراد الله من إرساله، والله حين خلقه عالم بأنه سيرسله، وقد يخلق الله نفوسا صالحة للرسالة ولا تكون حكمة في إرسال أربابها، فالاستعداد مهيّئ لاصطفاء الله تعالى، وليس موجبًا له… وفي قوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} بيان لعظيم مقدار النبيء صلى الله عليه وسلم، وتنبيه لانحطاط نفوس سادة المشركين عن نوال مرتبة النبوءة وانعدام استعدادهم، كما قيل في المثل: ليس بعشك فادرجي”
بل إن هؤلاء المشككين ومثيري الشبه قد علم القرآن حالهم، وذكر لنا ما في نفوسهم، وهنا أؤكد قول الله تعالى الوارد آنفا: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
فالله سبحانه وتعالى بيَّن حال هؤلاء وما في قلوبهم ونفوسهم، وبيَّن الدوافع التي تدفع إلى إثارة تلك الشبهات، وأنها مجرد أهواء وأماني وأحقاد، وردَّ عليها، قال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 105].
قال أبو جعفر رحمه الله: “ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم، فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك حسدًا وبغيًا منهم على المؤمنين. وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه -جل ثناؤه- إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون”
وماذا كان الرد الإلهي على هذا الأمر؟!
لقد كان الرد مختصرًا ومفحمًا، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105].
قال أبو جعفر: “يعني بقوله جل ثناؤه: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}: والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له. واختصاصه إياهم بها: إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه وهدايته من هدى من عباده رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له. وأما قوله: {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فإنه خبر من الله -جل ثناؤه- عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه”. ثم قال: “وفي قوله: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} تعريض من الله -تعالى ذكره- بأهل الكتاب أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية تفضل منه، وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه”.
وما أحسن ما قاله صاحب “التحرير والتنوير” في الآية إذ يقول: “وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم: {آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ}، فقالوا: {نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أي: ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم، بل هو الحسد على ما أنزل على النبيء والمسلمين من خير، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله: {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللهِ}، وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر، وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان؛ ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ… ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره؛ لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى، أعني: جعل الحكم خاصًّا غير عامّ، سواء خصّ واحدًا أو أكثر. ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه، أي: من يشاء اختصاصه بالرحمة. والمشيئة هي الإرادة، ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته -أي: إرادته- جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى، فهي من تعلّقات العلم الإلهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي… فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها، لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة؛ فإن الله يختص بها من خلقه قابلا لها، فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة، صالحة لتلقي الوحي شيئًا فشيئًا، قال تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} [يوسف: 22]، وقال: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]؛ ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب؛ لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها؛ لخطر أمرها، بخلاف غيرها من الفضائل، فهو ممكن الاكتساب؛ كالصلاح والعلم وغيرهما، فرب فاسق صلحت حاله، ورُبَّ جاهل مطبق صار عالما بالسعي والاكتساب، ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة، ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده. ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوءة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره، ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه؛ رفقًا بأفهام المخاطبين. وقوله: {وَاللهُ ذُو الفَضْلِ الْعَظِيمِ} تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرّض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة، فيتخلّى عن المعاصي والخبائث، ويتحلَّى بالفضائل والطاعات، عسى أن يحبه ربه”.
وقد أخبرنا الله تعالى عنهم في مواضع أخر كما في قوله تعالى حكاية عنهم: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 73].
فكان رفضهم للإيمان وقبول الحق لا لكونه لا حجة عليه أو انعدام البرهان أو كونه باطلًا في نفس الأمر، وإنما كان الدافع لذلك حقدهم وحسدهم، كحال الناقم على السلعة الذي ذكرناه في أول بحثنا، وكان الرد من الله تعالى سريعًا موجزًا، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [آل عمران: 73، 74].
قال أبو جعفر: “وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ} معترضًا به، وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد، فيكون تأويله حينئذ: {وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ}، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم… أحد بإيمانكم؛ لأنكم أكرمُ على الله بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ} سوى قوله: {قُلْ إِنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ}. ثم يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم: {قُلْ} -يا محمد- للقائلين ما قولوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود: {إِنَّ الهُدَى هُدَى اللهِ}: إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه، {وَإِنَّ الفَضْلَ بِيَدِهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَّشَاءُ} لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام”.
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: “ووصفه بأنه عليم هنا لإفادة أنه عليم بمن يستأهل أن يؤتيه فضله، ويدل على علمه بذلك ما يظهر من آثار إرادته وقدرته الجارية على وفق علمه متى ظهر للناس ما أودعه الله من فضائل في بعض خلقه، قال تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]”
بل إن القرآن يبين لنا أن هذه الشبهة قد أثيرت قبل نبوة نبيِّنا محمد عليه الصلاة والسلام، فحين بعث الله تعالى طالوت ملكًا عليهم لم يرضوا به، بل عارضوا اصطفاء الله تعالى واختياره، يقول الله تعالى عنهم: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247].
الخاتمة:
تبين لنا كيف أن لله سبحانه وتعالى أن يؤتي النبوة من يشاء، ولا ظلم في ذلك ولا جور على أحد، وليس فيه تحيّز لأحد، بل هو فضل منه سبحانه وتعالى وإنعام، وهو مالك الملك بيده ملكوت كل شيء، و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وليس لتدخُّل العبد في أفعاله سبحانه وتعالى واختياره أي معنى؛ إذ هو عبد والله سبحانه وتعالى خالقه، وأنى للمملوك أن يتدخَّل ويتحكَّم في شؤون سيِّده ومولاه، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105]، وليس العبد محاسبًا على فعل الله تعالى واصطفائه، فعليه أن يعتني بما يحاسب عليه ويترك الحساب على الله تعالى، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40].
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.