تأليف
الوصف
إن مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه يتحمَّلُ وِزْرَ ما فعَلهُ ابنُهُ يَزيدُ مِن جرائمَ كوَقْعةِ الحَرَّة؛ لكونِهِ هو الذي عَهِدَ إليه بالأمرِ مِن بعدِه؛ كما أنه (أي: مُعاوِيةَ) يتحمَّلُ وِزْرَ تحويلِ نظامِ الحُكمِ مِن نظامٍ شوريٍّ إلى نظامٍ وِراثيٍّ.
مقالة
الجواب التفصيلي
الجوابُ التفصيليّ:
ويتبيَّنُ ذلك مِن وجوه:
1- مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه كان متأوِّلًا في توليةِ ابنِهِ يَزيدَ بعده:
فالتوليةُ بالعهدِ مِن الإمامِ الغرَضُ منها تنجيزُ نظَرٍ، وكفايةٌ للمسلِمينَ هواجِمَ خطَرٍ عند موتِ المولِّي على أقصى الإمكان، في الحالِ والأوان؛ كما يقولُ الجُوَينيُّ، فجائزٌ أن يكونَ مُعاوِيةُ عَهِدَ ليَزيدَ بهذا القَصْد.
وفي بعضِ كلامِهِ: ما يدُلُّ على ذلك؛ حيثُ قال: «إني لستُ آمَنُ عليكمُ الاختلافَ». «تاريخُ خَلِيفةَ بنِ خيَّاط» (ص216).
وجاء عنه أيضًا ما يَرْجو به نَفْيَ قصدِ الحظِّ الدنيويِّ مِن العهدِ لابنِهِ؛ فعن عطيَّةَ بنِ قيسٍ، قال: «خطَبَ مُعاوِيةُ، فقال: اللَّهُمَّ، إن كنتُ إنما عَهِدتُّ ليَزيدَ؛ لِمَا رأيتُ مِن فضلِهِ، فبَلِّغْهُ ما أمَّلْتُ وأَعِنْهُ، وإن كنتُ إنما حمَلَني حُبُّ الوالِد لوَلَدِه، وأنه ليس لِمَا صنَعْتُ به أهلًا، فاقْبِضْهُ قبل أن يبلُغَ ذلك». «تاريخُ الإسلام» (2/732).
2- فرقٌ بين تخطِئةِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه في توليتِهِ يَزيدَ، وبين تحميلِهِ الجرائمَ التي قام بها يَزِيدُ:
ففرقٌ بين أن يقالَ: بأن العهدَ ليَزيدَ مما استحَقَّ به مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه الإنكارَ أو التخطِئةَ، كما أنكَرَ عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍ بقولِهِ: «جِئْتم بها هِرَقْليَّةً، تبايِعون لأبنائِكم!»، وسَمِعَ ذلك عائشةُ والصحابةُ، ولم يُنكِروهُ عليه، لكنْ دون أن يُضافَ إليه ويُنكَرَ عليه ما جرى في عهدِ يَزيدَ وعهودِ مَن بعده مِن ملوكِ بني أميَّةَ مِن كبائرَ، مما يُعلَمُ مناقَضتُها لسِيرةِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه مع رعيَّتِه:
أ- فقد قُتِلَ الحُسَينُ بنُ عليٍّ رضيَ اللهُ عنه، ومِن المعلومِ مِن سِيرةِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه: إكرامُهُ لأهلِ البيت، وقد ذكَرَ الآجُرِّيُّ في «الشريعةِ» (5/ 2468)، في كتابِ فضائلِ مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفْيانَ رضيَ اللهُ عنه: «بابُ ذِكرِ تعظيمِ مُعاوِيةَ لأهلِ بيتِ رسولِ اللهِ ^، وإكرامِهِ إيَّاهم»؛ فلا يَصِحُّ أن يقالَ: «إن مَقتَلَ الحُسَينِ مما يُضافُ إلى مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه، ويُذَمُّ به»:
فاستخلافُ يَزيدَ: إن كان جائزًا، لم يضُرَّ مُعاوِيةَ ما فعَلَ، وإن لم يكن جائزًا، فذاك ذنبٌ مستقِلٌّ، ولو لم يُقتَلِ الحُسَينُ، وهو مع ذلك كان مِن أحرصِ الناسِ على إكرامِ الحُسَينِ رضيَ اللهُ عنه، وصيانةِ حُرْمتِه، فضلًا عن دمِه، فمع هذا القصدِ والاجتهاد: لا يُضافُ إليه فعلُ أهلِ الفساد.
ب- وكذا يُقالُ فيما جرى في «وَقْعةِ الحَرَّةِ»؛ فهو مما لا يَرْضى به مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه، وهو مخالِفٌ لسِيرتِهِ مع رعيَّتِه؛ إذْ كانت سيرتُهُ تأليفَهم واسترضاءَهم؛ فلا يُذَمُّ مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه بما قام به يَزيدُ وواليهِ مُسلِمُ بنُ عُقْبةَ المُرِّيُّ في وَقْعةِ الحَرَّةِ مِن جرائمَ.
جـ- والطاعةُ المطلَقةُ التي وُجِدَت في عهدِ بني أُميَّةَ، والتي عُرِفتْ بـ «الطاعةِ الشاميَّةِ»، لم يكن مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه يَرْضاها، ولم يكن يطلُبُها مِن رعيَّتِه، ولم يكن سببًا فيها، وإنما كانت الطاعةُ التي يطلُبُها منهم ويعُدُّها مِن حقوقِهِ عليهم، منضبِطةً بقواعدِ الشريعة، مقيَّدةً بأحكامِها، وكان يطلُبُ منهم تسديدَهُ وتقويمَه: فعن أبي قَبِيلٍ حُيَيِّ بنِ هانئٍ، يُخبِرُ عن مُعاوِيةَ: أنه صَعِدَ المِنبَرَ يومَ الجُمُعةِ، فقال عند خُطْبتِه: «أيُّها الناسُ، إنَّ المالَ مالُنا، والفَيْءَ فَيْئُنا، مَن شِئْنا أَعْطَيْنا، ومَن شِئْنا مَنَعْنا، فلم يُجِبْهُ أحدٌ، فلما كانت الجُمُعةُ الثانيةُ، قال مِثلَ ذلك، فلم يُجِبْهُ أحدٌ، فلما كانت الجُمُعةُ الثالثةُ، قال مِثلَ مقالتِه، فقام إليه رجُلٌ، فقال: كَلَّا؛ إنما المالُ مالُنا، والفَيْءُ فَيْئُنا، مَن حال بيننا وبينه، حاكَمْناهُ إلى اللهِ بأسيافِنا، فنزَلَ مُعاوِيةُ، فأرسَلَ إلى الرجُلِ، فأُدخِلَ عليه، فقال القومُ: هلَكَ، ففتَحَ مُعاوِيةُ الأبوابَ، ودخَلَ الناسُ، فوجَدوا الرجُلَ معه على السريرِ، فقال: إنَّ هذا أَحْياني، أَحْياهُ اللهُ؛ سَمِعتُ رسولَ اللهِ ^ يقولُ: «سَتَكُونُ أَئِمَّةٌ مِنْ بَعْدِي، يَقُولُونَ، فَلَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ قَوْلُهُمْ، يَتَقَاحَمُونَ فِي النَّارِ تَقَاحُمَ الْقِرَدَةِ»؛ [رواه أبو يَعْلى (13/ 374)، والطبرانيُّ في «الأوسط» (5/ 279 رقم 5311)]،وإنِّي تكلَّمتُ، فلم يَرُدَّ عليَّ أحدٌ، فخَشِيتُ أن أكُونَ منهم، ثم تكلَّمتُ الثانيةَ، فلم يَرُدَّ عليَّ أحدٌ، فقلتُ في نفسي: إنِّي مِن القومِ، ثم تكلَّمتُ الجُمُعةَ الثالثةَ، فقام هذا، فرَدَّ عليَّ، فأَحْياني، أَحْياهُ اللهُ، فرجَوْتُ أن يُخرِجَني اللهُ منهم، فأَعْطاهُ وأجازه»؛ رواه ابنُ عساكِرَ في «تاريخِ دِمَشقَ» (59/ 168- 169).
مختصر الجواب
مضمونُ السؤال:
هذه الشبهةُ قائمةٌ على إغفالِ منهجِ أهلِ السنَّةِ في التعامُلِ مع الصحابة، الذي يُبْنى على إحسانِ الظنِّ بهم، وحملِ تصرُّفاتِهم على أحسنِ المَحامِل، والجوابُ عنها يحتاجُ إلى بيانِ المَحمَلِ الصحيحِ في توليةِ مُعاوِيةَ ليَزيدَ.
مختصَرُ الإجابة:
كان مُعاوِيةُ رضيَ اللهُ عنه متأوِّلًا في توليةِ ابنِهِ يَزيدَ بعده، وقد أنكَرَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم عليه ذلك، غيرَ أن هناك فرقًا بين الإنكارِ عليه في هذه القضيَّةِ وبين تحميلِهِ رضيَ اللهُ عنه قضايا وأوزارًا، هو يُنكِرُها، وتناقِضُ سِيرتَهُ؛ مما جرى في عهدِ يَزيدَ وعهودِ مَن بعده مِن ملوكِ بني أميَّةَ، مما يُعلَمُ مناقَضتُها لسِيرةِ مُعاوِيةَ رضيَ اللهُ عنه مع رعيَّتِه؛ كمَقتَلِ الحُسَينِ، ووَقْعةِ الحَرَّةِ، والطاعةِ الشاميَّة
خاتمة الجواب
خاتِمةُ الجواب - توصية:
إن الرجوعَ إلى الأحداثِ التاريخيَّةِ في سياقاتِها، والنظَرَ في ملابَساتِها، مما يحسُنُ بالمنصِفِ أن يسلُكَهُ؛ لاجتنابِ إشكاليَّةِ الخلطِ بين المواقِف، وأخذِ بعضِ الناسِ بجريرةِ آخَرين.