تواصل معنا

الزعم أن الإسلام يحل ويحرم ما يشاء، والنصرانية ليست كذلك (مقالة)

الوصف

مقالة

الجواب التفصيلي

 

الزعم أن الإسلام دين محلي، وأن المسيحية دين عالمي(*)

مضمون الشبهة: 


يزعم بعض المغالطين أن الإسلام ليس دينا تبشيريا كالنصرانية، وأن محمدا قد أرسل إلى قومه من العرب فقط، وهم بهذا يدعون أنهم لا تلزمهم دعوة الإسلام ولا تشملهم على عكس المسيحية العالمية المناسبة لكل زمان ومكان وذوق. 

وجوه إبطال الشبهة: 


1) عالمية الإسلام أمر ثابت بالقرآن والسنة، وقد بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس كافة ولم يختص بالعرب. 
2) النصرانية هي الديانة المحلية، إذ أرسل عيسى - عليه السلام - لخراف بني إسرائيل الضالة "لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة". (متى15: 24). 
3)  تدليس بولس بداية الانحراف والتحول، الذي لم ينته حتى اليوم. 
4)  أظهر النقد العلمي أن العبارات القليلة التي توهم عالمية النصرانية في الإنجيل لاثقة بها ولا بثبوتها التاريخي. 


التفصيل: 


هذا قلب لحقائق الأمور وطبيعة الديانتين وواقع التاريخ، وقد بلور مضمون هذه الشبهة د. فرج الله عبد الباري بقوله: "وقد جادل المسلمون أهل الكتاب في مسائل عديدة كان من بينها إنكار أهل الكتاب لعموم رسالة الإسلام التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وقد استدل النصارى بآيات من القرآن الكريم حرفوها عن مواضعها ليستشهدوا بها زورا وبهتانا على أن دعوة الإسلام لا تلزمهم ولا تشملهم؛ لأن القرآن نزل بلسان عربي؛ ولأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم بألسنتهم. 


أثار هذا قدماء النصارى وجادلوا بهذه الأباطيل علماء الإسلام كالقرافي وابن تيمية والخزرجي، وتبنى بعض النصارى هذه الشبه وأثاروها مرة أخرى في العصر الحديث، وبينما هم يثيرون الشبه بالنسبة للإسلام تراهم يعملون في غير كلل ولا ملل لنشر النصرانية في أرجاء العالم على اعتبار أنها الديانة العالمية، وهي الدعوة التي يجب أن توجه إلى جميع أفراد الجنس البشري كما يزعمون"  [1].
فإلى نقض هذه الشبهة ورد هذا الافتراء من مختلف جوانبه: 


أولا. عالمية الإسلام أمر ثابت في القرآن والسنة: 


أخرج مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

«فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون» 

[2].

وقال صلى الله عليه وسلم:

«وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».

[3]

وقال الله - عز وجل - في القرآن الكريم:

(قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض)

(الأعراف: 158)،

وقال سبحانه وتعالى:

(وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)

(سبأ: 28). 



ومن العجيب أن بعض النصارى يذهبون إلى القول بأن محمدا نبي للعرب خاصة، يقولون هذا ويرددونه ويتشدقون به، مع وفرة النصوص الكريمة في القرآن والسنة التي تؤكد عموم رسالته للعالمين. 
بل إن كثيرا من نصوص القرآن الكريم دعوة موجهة إلى أهل الكتاب، من يهود ونصارى وغيرهم من أهل النحل والملل المختلفة في كل البقاع والأصقاع، وهذه دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورسله، وجهاده لليهود والنصارى وللمجوس وللمشركين - من العرب ومن غيرهم - شاهد صدق على ما نقول. 


وفي القرآن الكريم في مواضع كثيرة منه ذكر وتنديد بكفر الكافرين من اليهود والنصارى، وأمر بقتال الظالمين والطغاة منهم، ودعوة لهم إلى الدخول في الإسلام دين الله الحق،

قال سبحانه وتعالى:

(قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون (64) يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون (65) ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون (66) ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين (67) إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين (68) ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون (69) يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون (70) يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون (71) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون (72))

(آل عمران). 

وقال سبحانه وتعالى:

(قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون (98) قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون (99) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100))

(آل عمران). 

وقال سبحانه وتعالى:

(يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا (47))

(النساء). 

وقال سبحانه وتعالى:

(يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا (171) لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا (172))

(النساء). 

وقال سبحانه وتعالى:

(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم (16) لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير (17)وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير (18) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (19))

(المائدة). 

وقال سبحانه وتعالى:

(قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون (59)) (المائدة)، وقال سبحانه وتعالى: (قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين (68))

(المائدة)

وقال سبحانه وتعالى:

(قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل (77))

(المائدة). 



قد يقول قائل: أليس هناك تناقض بين هذه الآيات وبين آيات أخرى

تقول:

(لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين (164))

(آل عمران)،

(إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2))

(يوسف)،

(وإنه لتنزيل رب العالمين (192) نزل به الروح الأمين (193) على قلبك لتكون من المنذرين (194) بلسان عربي مبين (195))

(الشعراء)،

(وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون (46))

(القصص). 


ونقول في الإجابة: ليس في القرآن آية واحدة تدل أو تشير إلى أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - مختصة بالعرب وحدهم، وإنما فيه إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش! وليس بين هذين تناقض. وكذلك ليس هناك تناقض بين أن يوجه القرآن الخطاب إلى أهل الكتاب - كما أسلفنا - وبين أن يوجهه إلى بني إسرائيل أو بني آدم، كما في

قوله سبحانه وتعالى:

(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين (47))

(البقرة)،

(يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة)

(الأعراف: 27)،

(يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين (31))

(الأعراف)،

(يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون (35) والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (36)). 

(الأعراف)


فليس التخصيص في توجيه الدعوة الإسلامية إلى العرب أو بني إسرائيل بمناف لعموم الرسالة إلى الثقلين، ولهذا فإن البشرية كلها - بل الجن كذلك - مخاطبون برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومسئولون عن دعوته، وعن مدى استجابتهم واتباعهم لها. وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب». [4] وأولئك البقايا الذين عناهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث، فمن لم يؤمن به فهو كافر من أهل النار،

كما قال صلى الله عليه وسلم:

«والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار»

  [5].


ثم إنه من المعروف أن بني إسرائيل، كانوا أكثر الأمم أنبياء. بعث إليهم موسى، وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون، حتى قيل: إنهم بلغوا ألف نبي، كلهم يلتزمون بشريعة التوراة، يأمرون بها، ويدعون إليها، ولا يغيرون منها شيئا، ثم جاء المسيح بعد ذلك بشريعة أخرى غير فيها بعض شرع التوراة بأمر الله، فإذا كان إرسال موسى والأنبياء بعده لم يمنع من إرسال المسيح إلى بني إسرائيل، فلماذا يرفضون أن يكون محمد رسولا إلى أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، وهم منذ المسيح لم يأتهم رسول من الله،

كما قال سبحانه وتعالى:

(يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير (19))

(المائدة)  [6].


ولا نظن أن منصفا - بعد هذا - يجد مجالا لنفي عالمية الدين الإسلامي والقول بخصوصيته للعرب دون غيرهم من الأمم، كما كانت طبيعة الرسالات قبله، محلية أو قبلية، أو ما شابه ذلك.

ثانيا. النصرانية ديانة محلية: 


هذه هي مقولة الحق تشهد على صدقها تعاليم صاحب الرسالة المسيح - عليه السلام - وتطبيقاته وتصرفاته، وتحت عنوان "خصوصية رسالة عيسى - عليه السلام - لبني إسرائيل من خلال نصوص الأناجيل الحالية " كتب د. فرج الله عبد الباري يقول: "النصوص الدالة على خصوص الدعوة لبني إسرائيل: 


1.  ورد في إنجيل متى: "فستلد ابنا وتدعو اسمه يسوع. لأنه يخلص شعبه من خطاياهم". (متى 1: 21). البشارة هنا بعيسى قبل مولده كما ورد في إنجيل متى، وأن يسوع يخلص شعبه من خطاياهم، ولكن وليم إدي يفسر هذا النص بقوله: "يخلص شعبه: أي اليهود أولا، ثم جميع الذين يؤمنون به من كل أمة"  [7].


وليس هناك إشارة في النص من قريب أو بعيد، تشير إلى تخليصه لغير شعبه وهم اليهود، وهذا تحكم في تفسير النص بقول شارح النص، وإلا فما دلالة ذلك في النص؟ لا وجود لها، وسوف نرصد ونبين كيف طرأت دعوة عالمية النصرانية على يد بولس. 


2.  ورد في إنجيل متى عن توجيهه لتلاميذه بنشر الدعوة: "هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا: «إلى طريق أمم لا تمضوا، وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. وفيما أنتم ذاهبون اكرزوا قائلين: إنه قد اقترب ملكوت السماوات»". (متى 10: 5 - 7). 


في هذا النص تتضح وصية عيسى لتلاميذه: "إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا ". لقد أرسلهم إلى أمتهم اليهود والشعب المختار، والمراد بخراف بني إسرائيل الضالة هم اليهود الذين ضلوا عن مسالك الحق والعبادة الروحية، فكانوا كغنم بلا راع - وهذا التبشير من قبل التلاميذ كان لتنبيه أفكار اليهود وتمهيد الطريق لكل التعاليم المسيحية، كما يقول وليم إدي في تفسيره للنص السابق، ولكن مفسرا آخر لنفس النص يحاول أن يستشف المرحلية في الدعوة من خلال وصية المسيح لتلاميذه التي تأمرهم بألا يدخلوا عند غير اليهود يقول: " أمر التلاميذ بأن لا يكرزوا بالإنجيل في الزمن الحاضر إلا لليهود فقط"  [8].


وليس هناك ما يدل على ما ذهب إليه مفسر العهد الجديد من خلال النص الذي يفسره. 
3.  في نفس إنجيل متى نص آخر يدل دلالة صريحة وواضحة على كون دعوة عيسى ـعليه السلام - خاصة لبني إسرائيل فقط، مهما كانت الدواعي والظروف الموجبة لدعوة غيرهم، يقول متى: "وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة: «ارحمني، يا سيد، يا ابن داود! ابنتي مجنونة جدا». فلم يجبها بكلمة. فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: «اصرفها، لأنها تصيح وراءنا!» فأجاب وقال: «لم أرسل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة»". (متى 15: 22 - 24). 


وتعليقنا على هذا النص هو أنه بالرغم من صراخ المرأة وحاجتها الشديدة لشفاء ابنتها، إلا أن المسيح بناء على رواية إنجيل متى لم يغير موقفه، ولم يتصرف من تلقاء نفسه؛ لأنه مرسل إلى بني إسرائيل فقط كما أجاب تلاميذه. ونقرأ تفسير ذلك النص في المصادر المسيحية: " لم يكن من مانع حينئذ لشفاء تلك الابنة سوى عدم إرادته، لم أرسل، أي من الأب، إلا إلى خراف بني إسرائيل". 
ويظهر من هذا أن وظيفة المسيح كانت مختصة باليهود، والله قضى بأن ينادي بالإنجيل لليهود أولا إيمانا للعهد، وشفقة المسيح على اليهود حصرت تبشيره بهم، فلو نادى للأمم لرفض اليهود كلهم ذلك في الحال لشدة تعصبهم، فجواب المسيح لتلاميذه ليس إنكارا قاطعا لطلبتهم، لكنه إظهار لأن إجابة تلك الطلبة خارج عن دائرة رسالته حينئذ. وما كاد - أي هذا القائل بمرحلية الدعوة المسيحية - يعترف بالحق حتى تنكب الطريق وقال في نهاية تفسيره "حينئذ" ليدل على أن دعوة شعب إسرائيل كانت مرحلة مؤقتة تلتها مرحلة أخرى، وهي دعوة المسيح لجميع الأمم بعد ذلك، والنص الذي بين أيدينا لا يساعده في فهمه، ولكن التحكم في النصوص هو الذي يسيطر على هذا المفسر وغيره حتى يخلص إلى عالمية الملة النصرانية التي ما نادى بها المسيح ولا تلاميذه على نحو ما سنرى. 


وتقول رواية متى إن المرأة أتت وسجدت له قائلة: يا سيدي أعني، فأجاب وقال: ليس حسنا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب، فقالت: نعم يا سيد، والكلاب أيضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها: يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لك ما تريدين، فشفيت ابنتها من تلك الساعة. 


وهذه الرواية - إن صحت - لا تعني أنه دعاها إلى الإيمان برسالته، كل ما في الأمر أنه شفى ابنتها، وعلى فرض أنه دعاها إلى رسالته، فلا يعني ذلك عموم دعوته؛ لأن " المبعوث إلى قومه لم ينه عن دعاء غيرهم إلى الله، وهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "، لا من باب التكليف بإيصال الدعوة إلى غير من أرسل إليهم. 


4.  ومن النصوص التي تدل على أن عيسى - عليه السلام - جاء لبني إسرائيل وأن دعوة تلاميذه كانت خاصة باليهود، ما ورد في إنجيل متى عن حساب يوم القيامة، وقيام المسيح وتلاميذه بالمحاسبة، كما يعتقد النصارى، يقول: "ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟ فقال لهم يسوع: «الحق أقول لكم: إنكم أنتم الذين تبعتموني، في التجديد، متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده، تجلسون أنتم أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر»". (متى 19: 27، 28). 


بنفس منطق إنجيل متى مع عدم اعتقادنا بمحاسبة المسيح لأحد ولا التلاميذ؛ لأن الذي يتولى الحساب هو الله رب العالمين، نقول: نص متى يشير إلى أن المسيح والتلاميذ عن يمينه يدينون أسباط إسرائيل عشر، الذين يتكون منهم الشعب اليهودي، ولو كانت رسالته للعالم لأدان الناس جميعا. وعلى الرغم من الوضوح في الخصوصية بأسباط إسرائيل الاثنا عشر فإن مفسر إنجيل متى يأتينا بفهم جديد للأسباط، وأنهم ليس المراد بهم في العهد الجديد بني إسرائيل، وإنما كل المؤمنين يقول: "أسباط إسرائيل الاثنى عشر في العهد القديم شعب الله الخاص، ومعناه في العهد الجديد غالبا كل المؤمنين"  [9].


وقد اضطر إلى ذلك التفسير المخالف للمتعارف عليه بين الجميع - من أن الأسباط هم بنو إسرائيل - فذكر أن كلمة الأسباط في العهد الجديد "غالبا" تدل على كل المؤمنين - فذكر كلمة "غالبا" ليتسنى له إثبات أن التلاميذ يدينون أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر، الذين معناهم في العهد الجديد كل المؤمنين، هل رأيت تحكما وليا للنصوص مثل ما يقوم به مفسر الإنجيل ليدلل على أن الدعوة عامة وليست خاصة؟ كل هذا لحساب بولس فقط؛ لأنه هو أول من ابتدع عموم دعوة المسيح لغير اليهود مخالفا المسيح - عليه السلام - والتلاميذ في فهمهم للدين الذي تلقوه عن المسيح عليه السلام. 


5.  وإذا تركنا إنجيل متى، فإننا سنجد التصريح بخصوصية رسالة عيسى واضحة من خلال بعض النصوص في إنجيل يوحنا، فقد ورد في يوحنا: "إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله". (يوحنا 1: 11). 
ونحن مع المفسر في أنه جاء إلى بني إسرائيل، وكثير منهم لم يقبلوه، وإن كان بعضهم قد آمنوا برسالته، والتزموا بتعاليمه، وليس معنى أنه لم يقبل من شعبه وإنما قبل من غيرهم أن هذا يجعل رسالته عامة، وإنما قبول غيرهم له ولرسالته لا يخرج دعوته من الخصوصية إلى العمومية، ثم لنا أن نتساءل: في أي وقت قبل غير اليهود دعوة المسيح؟


إن نصوص الأناجيل لا تقدم لنا أي دليل على قيام عيسى - عليه السلام - بدعوة غير اليهود إلى الإيمان به أثناء حياته، ولكن بولس يبني ذلك على رؤياه الخاصة، حتى الذين ناصبوه العداء ووقفوا ضده، حين أخبرهم المسيح أنه سيغادر الدنيا، لم يفهموا أنه يشير إلى الرفيق الأعلى، وإنما فهموا أنه سيغادر مكانهم إلى حيث يعيش اليهود في الشتات خارج فلسطين؛ لأنهم كانوا يفهمون أن رسالته خاصة بهم دون سواهم من الشعوب، فلو فكر في دعوة غيرهم فأول ما تبادر إلى ذهنهم اليهود في الشتات، ورد في يوحنا: "فقال لهم يسوع: «أنا معكم زمانا يسيرا بعد، ثم أمضى إلى الذي أرسلني. ستطلبونني ولا تجدونني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا». فقال اليهود فيما بينهم: «إلى أين هذا مزمع أن يذهب حتى لا نجده نحن؟ ألعله مزمع أن يذهب إلى شتات اليونانيين ويعلم اليونانيين؟»". (يوحنا 7: 33 - 35).

 
وهنا إشارة إلى أن اليهود لم يفهموا كلامه، أو عوجوه، وقالوا: إن معناه الهرب من البلاد إلى حيث يعيش اليهود متفرقين بين اليونانيين. فإذا كان الأمر على هذه الشاكلة، وأن خصوصية النصرانية ثابتة بنصوص الأناجيل، وممارسات المسيح ـعليه السلام - وتوجيهاته؛ فما الذي حولها عن وجهتها وحرفها عن مسارها؟ الجواب هو ما يلي  [10]. 

 
  1.  

المرفقات

التصنيفات العلمية

أضف تعليقا