مقالة
الجواب التفصيلي
إنكار وقوع النسخ في
القرآن (*)
مضمون الشبهة:
ينكر بعض الناس وقوع النسخ في القرآن؛ لأن النسخ بداء، والبداء: ظهور ما كان خافيا على المشرع من قبل معرفته وإدراكه، أي: ظهور قصور الحكم عند التطبيق، فهو علم بعد جهل، وهو محال على الله تعالى، ويستدلون على ذلك بأن الجائز العقلي لا يستلزم الوقوع الفعلي، ردا على من قال بجواز النسخ عقلا. ومن هنا أولوا الآيات التي تدل على وقوع النسخ في القرآن، مثل:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير (106))
(البقرة)،
وقوله سبحانه تعالى:
(وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون (101))
(النحل).
ويرمون من وراء ذلك إلى إنكار ما اقتضاه النسخ من تدرج تشريعي، توصلا إلى الطعن في نصوص القرآن الناسخة والمنسوخة، ومن ثم الطعن في سلامة القرآن.
وجوه إبطال الشبهة:
1) النسخ لغة: الإزالة والنقل. وشرعا: رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه لحكمة أرادها الله - عز وجل - وهو واقع في القرآن الكريم، وقد توافرت على ذلك الأدلة العقلية والنقلية، وهو يختلف تماما عن البداء الذي يعني إدراكا وعلما يسبقه جهل وخفاء، وهو محال على الله تعالى.
2) أنواع النسخ في القرآن ثلاثة، هي: نسخ الحكم والتلاوة معا، ونسخ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة؛ وشروطه: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا، وألا يكون مقيدا بزمان، وأن يكون الناسخ خطابا شرعيا.. إلخ.
3) لا يقع النسخ في الكليات ولا الضروريات ولا التحسينات. كما أن النسخ في القرآن وراءه حكم كثيرة، منها: مراعاة مصالح العباد، و تدرج التشريع الإلهي إلى مرحلة الكمال...
4) النسخ واقع في الكتب المقدسة السابقة للإسلام، وهو واقع بنوعيه: نسخ شريعة لاحقة لشريعة سابقة، وفي الشريعة الواحدة نفسها، فلماذا ينكر وقوعه في القرآن وقد دلت النصوص على وقوعه.
التفصيل:
أولا. النسخ: تعريفه، والأدلة على وقوعه في القرآن الكريم، واختلافه عن البداء:
أنكر ثبوت النسخ - أو بعضه - قلة من المتقدمين والمتأخرين، فاتخذها أعداء الإسلام من ملاحدة ومبشرين ومستشرقين تكأة لغرس أسلحتهم المسمومة في صدر هذا الدين الحنيف، والنيل من قدسية كتابه وشرف سنته. فأحكموا حبك شبهاتهم وروجوا مطاعنهم حتى أمالوا عقول بعض المنتسبين إلى العلم من المسلمين، فجحد هؤلاء وقوع النسخ وأمعنوا في الجحود بتمحلات ساقطة وتأويلات غير سائغة [1]، ومما روج في هذا الشأن، قولهم ببطلان النسخ في القرآن الكريم ظنا منهم أن النسخ بداء، والبداء محال على الله..إلخ، هذا القول.
ولقد عرف الصحابة الكرام وسلفنا الصالح النسخ بأنه: كل ما يطرأ على ظاهر النص من تخصيص عمومه، [2] أو تقييد مطلقه، [3] أو بيان مجمله، [4] أو تدرج حكمه، أو تخفيفه، أو إلغاء حكمه، أو نحو ذلك.
فهو - كما في مفهوم الصحابة - مطلق التغيير، الذي يطرأ على بعض الأحكام، فيرفعها ليحل غيرها محلها، أو يخصص ما فيها من عموم، أو يقيد ما فيها من إطلاق، سواء أكان النص الناسخ عندهم متصلا بالنص المنسوخ كما في الاستثناء والتقييد، أم كان منفصلا عنه، متأخرا في النزول كما في رفع الحكم السابق كلية (وهو النسخ عند جميع الفقهاء والأصوليين)، وكما في رفع الحكم عن بعض ما يشمله العام إذا تأخر نزول المخصص (وهو النسخ الجزئي عند الحنفية) [5].
وذكر د. مصطفى الزلمي أن الشاطبي فهم ذلك وعبر عنه فقال: "إن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا؛ لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جاء آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به، وهذا المعنى جار في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال في إطلاقه، بل المعمول به هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ. وكذلك العام مع الخاص، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام من الاعتبار فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الأول. والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك استعمل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني لرجوعها إلى شيء واحد".
ومن ذلك يتضح لنا أن النسخ عندهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يحصى، وزال عنه - بهذا التأمل - إشكالات أوجبها حمل كلامهم على الاصطلاح المتأخر، ومن هذه الإشكالات: استدلال كثير من المتأخرين بقول السلف على نسخ كثير من الآيات بمفهومهم "أعني مفهوم المتأخرين" وهذا مرفوض منطقيا؛ لأن الأعم لا يستلزم الأخص ومن ثم لا يستدل به على إثباته" [6].
وقد جاء المتأخرون من الأصوليين فعرفوا النسخ بتعريف ضيق دائرته، فقالوا: هو رفع الحكم بدليل شرعي متأخر.
وهو تعريف مستمد من معناه اللغوي والشرعي، ولا يخرج عن مفهوم الصحابة له، إلا أنه ضيق دائرته فحصرها في رفع الحكم كلية، فأخرج منه تقييد المطلق وتخصيص العام بالاستثناء وغيره.
قال الأستاذ مصطفى زيد في الموازنة بين المفهومين: "إن قصرنا للنسخ على رفع الحكم كله، بعد أن كان الصحابة يفهمون منه، إلى جانب هذا ما نسميه نحن الآن تخصيصا واستثناء وتقييدا وتفسيرا ووعدا ووعيدا ونحوها - ليس مخالفة منا لهم - وليس خروجا على قواعدهم في التشريع، وإنما هي سنة التطور، قضت بتحديد المصطلحات العلمية، ثم تكفلت بوضع كل مجموعة من القضايا تحت كل منها ما دامت تقوم على حقيقة واحدة، هي التي وضع لها ذلك المصطلح.
وهذا التطور لن يغير شيئا من الأحكام الشرعية كما قررها الصحابة، ما دمنا نعرف الحقائق التي كانوا يطلقون عليها اسم "النسخ"، ونستطيع أن نتبين ما يسمى "نسخا" في اصطلاحنا، وما خصه اصطلاحنا المتأخر عن زمانهم باسم آخر [7].
الأدلة العقلية والنقلية تثبت وقوع النسخ في القرآن:
• الأدلة العقلية:
النسخ لا محظور فيه عقلا، وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلا، فالنسخ لا يترتب على وقوعه محال؛ وذلك لأن أحكام الله، إما أن تشرع لمصالح العباد، أو لا تشرع لمصالحهم، فإن قلنا بالأول - كما تقول المعتزلة - فلا شك أن المصالح تختلف باختلاف الأشخاص، كما تختلف باختلاف الأزمان، فما يكون مصلحة لشخص، قد لا يكون مصلحة لغيره، كشرب الدواء مثلا، فهو مصلحة للمريض ولكنه غير مصلحة للصحيح في الزمن الواحد، وما يكون مصلحة في زمن قد يكون غير مصلحة في زمن آخر بالنسبة للشخص الواحد، كشرب الدواء بالنسبة لزيد مثلا، مصلحة له في زمن مرضه ولكن ليس مصلحة له في زمن صحته، وما دامت المصلحة تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان والأحكام، يراعي في شرعيتها مصالح العباد، فلا شك أن ذلك مما يجعل النسخ أمرا لا بد منه، لا أن يكون محالا.
وإذا قلنا بالثاني، وهو: أن الأحكام لا يراعي فيها مصالح العباد، فظاهر أيضا أن النسخ لا يترتب عليه محال؛ لأنه لم يخرج عن كونه فعلا من أفعال الله - عز وجل - والله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد [8]. ولكن ليس معنى ذلك أنه - سبحانه وتعالى - عابث مستبد ظالم، بل إن أحكامه كلها - عز وجل - لا تخلو من حكمة بالغة، وعلم واسع، وتنزه عن البغي والظلم:
(ولا يظلم ربك أحدا (49))
(الكهف)،
(إن الله بالناس لرءوف رحيم (143))
(البقرة).
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن الله لا يجب عليه شيء لعباده، فالنسخ من تصرفه - سبحانه وتعالى - العليم الحكيم، الذي يمحو ما يشاء ويثبت، وإن كان ذلك لا يخلو من مصالح البشر، وأما مذهب المعتزلة في النسخ فهو مبني على علم الله الأزلي بمصلحة عباده، في نوع أفعالهم في وقت ما؛ فيأمرهم به، وأن في علمه - سبحانه وتعالى - الأزلي - أن تلك الأفعال نفسها ضرر لهم - أو إن شئت قل: لا تصلح لهم في وقت آخر؛ فينهاهم عنها في ذلك الوقت [9].
ومن الواضح اتفاق المعتزلة مع أهل السنة والجماعة في مبدأ جواز النسخ، ولكنهم اختلفوا معهم في دليل إثباته، تبعا لاختلاف الفريقين في أحكام الله، هل يجب أن تتبع مصالح العباد أم لا؟
فالمنطق السليم يقرر جواز النسخ عقلا؛ لأنه لا يترتب على وقوعه محال، والجواز العقلي يكفيه هذا فهو حسبه من دليل.
وكذلك الواقع التاريخي يؤكد وقوع النسخ سماعا بنوعيه، نسخ الشرائع السابقة بالإسلام، ونسخ الحكم في الشريعة الواحدة كالإسلام وغيره بحكم متأخر عنه، وليس أصدق من التاريخ شاهدا حين يقرر الواقع.
• الأدلة النقلية:
وهي كثيرة، نذكر منها
قوله سبحانه وتعالى:
(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها)
(البقرة: ١٠٦)،
وهذه الآية برهان صريح على وقوع النسخ في القرآن الكريم، ومعناها: ما ننسخ من حكم أو ننسه نأت بحكم مثله أو أفضل منه، حسبما تقتضيه المصلحة، وتستدعيه سياسة الأمة، وحيثما صح نسخ الوحي بوحي خير منه للعباد، صح نسخه بوحي مثله أو في درجته، وهذا دليل على أن النسخ كما يكون في القرآن، يكون في السنة كذلك؛ لأن السنة وحي من الله تعالى [10].
وقوله سبحانه وتعالى:
(يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب (39))
(الرعد)،
والمعنى: أن الله يغير من شرائعه وخلقه على وفق علمه وإرادته وحكمته، وعلمه - عز وجل - لا يتغير ولا يتبدل، وإنما التغيير في المعلوم لا في العلم؛ إذ إنه - سبحانه وتعالى - عنده (أم الكتاب)، أي المرجع الثابت الذي لا محو فيه ولا إثبات، وهو اللوح المحفوظ، وإنما يقع المحو والإثبات على علم وفقه، فيمحو - عز وجل - شريعة ويثبت أخرى، ويمحو حكما ويبثت آخر، ويمحو مرضا ويثبت صحة، ويمحو فقرا ويثبت غنى، ويمحو حياة ويثبت موتا، وهكذا تعمل يد الله في خلقه وتشريعاته تغييرا وتبديلا، وهو الحق وحده لا يعروه تغيير ولا تبديل، ولا يتطرق إلى علمه محو ولا إثبات [11].
قوله سبحانه وتعالى:
(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم)
(النساء: ١٦٠).
ووجه الدلالة في هذه الآية أن بعض الطيبات التي لم تكن حلالا لبني إسرائيل أحلت لهم، فلما أفسدوا في الأرض وظلموا حرمت عليهم، وهذا نسخ، وكلمة (أحلت) يفهم منها أن الحكم الأول كان حكما شرعيا، وليس براءة أصلية [12].
كما جاء
«أن رجلا من الصحابة قام في جوف الليل يريد أن يفتتح سورة قد كان وعاها، فلم يقدر منها على شيء إلا (بسم الله الرحمن الرحيم)، فأتى باب النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أصبح يسأله عن ذلك، ثم جاء آخر وآخر، حتى اجتمعوا فسأل بعضهم بعضا ما جمعهم؟ فأخبر بعضهم بعضا بشأن تلك السورة، ثم أذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهم وسألوه عن السورة، فسكت ساعة لا يرجع إليهم شيئا، ثم قال: " نسخت البارحة "، فنسخت من صدورهم ومن كل شيء كانت فيه»
[13].
وإذا كان هذا هو النسخ، فإنه يختلف عن البداء اختلافا ظاهرا، وقد جعلهما اليهود شيئا واحدا، ولذلك لم يجوزوا النسخ فضلوا، قال النحاس: " والفرق بين النسخ والبداء، أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم، أو كان حراما فيحلل. وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه؛ كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول: لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول؛ وهذا يلحق البشر لنقصانهم. وكذلك إن قلت: ازرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، وهو البداء [14].
إذن البداء هو أن تأتي بحكم ثم يأتي التطبيق فيثبت قصور الحكم عن مواجهة القضية فيعدل الحكم، وهذا محال بالنسبة لله - سبحانه وتعالى - وأما النسخ فليس بداء؛ وإنما هو إزالة الحكم والمجيء بحكم آخر، ونقول لهم: ساعة حكم الله الحكم أولا فهو - سبحانه وتعالى - يعلم أن هذا الحكم له وقت محدود ينتهي فيه، ثم يحل مكانه حكم جديد، ولكن الظرف والمعالجة يقتضيان أن يحدث ذلك بالتدريج، وليس معنى ذلك أن الله - عز وجل - قد حكم بشيء ثم جاء واقع آخر أثبت أن الحكم قاصر فعدل الله عن الحكم،إن هذا غير صحيح.
لماذا...؟ لأنه ساعة حكم الله أولا كان يعلم أن الحكم له زمن أو يطبق لمدة، ثم بعد ذلك ينسخ أو يستبدل بحكم آخر، إذن فالمشرع الذي وضع هذا الحكم وضعه على أساس أنه سينتهي، وسيحل محله حكم جديد.
وليس هذا كواقع البشر، فأحكام البشر وقوانينهم تعدل؛ لأن واقع التطبيق يثبت قصور الحكم عن مواجهة قضايا الواقع؛ لأنه ساعة وضع الناس الحكم علموا أشياء وخفيت عنهم أشياء، فجاء الواقع ليظهر ما خفي، وأصبح الحكم لا بد أن ينسخ أو يعدل، بيد أن الأمر مع الله - سبحانه وتعالى - ليس كذلك؛ لأن أمر الله - عز وجل - جعل الحكم موقوتا ساعة جاء الحكم الأول.
مثلا حين وجه الله المسلمين إلى بيت المقدس؛ أكانت القضية عند الله أن القبلة ستبقى إلى بيت المقدس طالما وجد الإسلام وإلى يوم القيامة؟ ثم بدا له - سبحانه وتعالى - أن يوجه المسلمين إلى الكعبة؟ لا، لم تكن هذه هي الصورة، ولكن كان في شرع الله أن يتوجه المسلمون أولا إلى بيت المقدس مدة، ثم بعد ذلك يتوجهون إلى الكعبة إلى يوم القيامة، إذن فالواقع لم يضطر المشرع إلى أن يعدل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وإنما كان في علمه وفي شرعه أنه سيغير القبلة بعد مدة إلى الكعبة، ولعل لذلك هدفا إيمانيا في أن العلة في الأمور أنها من الله، فلا قدسية لشيء في ذاته، ولكن القدسية لأمر الله فيه [15].
واعتمادا على ما سبق، فإن البداء مستحيل على الله تعالى؛ لما يلزم من ذلك سبق الجهل وحدوث العلم، والجهل والحدوث عليه محالان؛ لأن النظر الصحيح في هذا العالم دلنا على أن خالقه ومدبره، متصف أزلا وأبدا بالعلم الواسع المطلق المحيط بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون، كما هدانا هذا النظر الصحيح إلى أنه - سبحانه وتعالى - لا يمكن أن يكون حادثا ولا محلا للحوادث، وإلا لكان ناقصا يعجز عن أن يبدع هذا الكون ويدبره هذا التدبير المعجز، وهذا دليل عقلي على أن النسخ والبداء مختلفان.
وثمة نصوص فياضة ناطقة بأنه - سبحانه وتعالى - أحاط بكل شيء علما وأنه لا تخفى عليه خافية:
(ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22))
(الحديد)،
(وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين (59))
(الأنعام)،
(الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار (8) عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (9) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار (10))
(الرعد).
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تؤكد إحاطه - عز وجل - بكل شيء علما.
ولكن على الرغم من توافر هذه الأدلة والبراهين الساطعة العقلية والنقلية، اشتبه الأمر على أقوام فزعموا أن النسخ ضرب من البداء أو مستلزم للبداء! وهكذا اشتبهوا أو شبهوا على الناس الأمر، وقالوا: لولا ظهور مصلحة لله ونشوء رأي جديد له، ما نسخ أحكامه وبدل تعاليمه، ونسوا أو تناسوا أن الله - سبحانه وتعالى - حين نسخ بعض أحكامه ببعض، ما ظهر له أمر كان خافياعليه، وما نشأ له رأي جديد كان يفقده من قبل، إنما كان - سبحانه وتعالى - يعلم الناسخ والمنسوخ أزلا من قبل أن يشرعهما لعباده، بل من قبل أن يخلق الخلق، ويبرأ السموات والأرض، إلا أنه - جلت حكمته - علم أن الحكم الأول المنسوخ منوط بحكمة أو مصلحة تنتهي في وقت معلوم، ولا ريب أن الحكم والمصالح تختلف باختلاف الناس، وتتجدد بتجدد ظروفهم وأحوالهم، وأن الأحكام وحكمها، والعباد ومصالحهم، والنواسخ والمنسوخات - كانت كلها معلومة لله من قبل - ظاهرة لديه لم يخف شيء منها عليه،والجديد في النسخ إنما هو إظهاره - سبحانه وتعالى - ما علم لعباده، لا ظهور ذلك له، على حد التعبير المعروف: شئون يبديها ولا يبتديها
(وما نتنزل إلا بأمر ربك) .
(مريم: 64) [16]
ثانيا. أنواع النسخ في القرآن وشروطه:
النسخ الواقع في القرآن يتنوع إلى أنواع ثلاثة، هي:
1. نسخ الحكم والتلاوة معا: وهو نوعان:
• ما بلغنا لفظه أو موضوعه، كما في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: «كان فيما أنزل من القرآن: عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي مما يقرأ من القرآن» [17].
وإذا كان الحديث موقوفا على عائشة - رضي الله عنها - فإن له حكم المرفوع؛ لأن مثله لا يقال بالرأي، بل لا بد فيه من توقيف، وقد تكلم العلماء في قول السيدة عائشة: "وهي مما يقرأ" فظاهره بقاء التلاوة، وهو ليس كذلك، ولكن المقصود أن التلاوة نسخت ولم يبلغ ذلك كل الناس، إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فتوفي وبعض الناس يظنها من القرآن.
• ما بلغنا مجرد الخبر عنه ورفع منه كل شيء، كما في حديث زر بن حبيش، قال: قال لي أبي بن كعب، كأين تقرأ سورة الأحزاب، أو كأين تعدها؟ قال: قلت له: ثلاثا وسبعين آية، فقال: قط؟ لقد رأيتها، وإنها لتعادل سورة البقرة. [18]وهذا يندرج عند أكثر أهل العلم تحت النسخ؛ لأنه رفع بعد ما أنزل، وعند طائفة تحت الإنساء - التأجيل - والأمر في ذلك قريب.
2. نسخ التلاوة دون الحكم:
وهذا النوع قليل الوجود في النصوص المنقولة إلينا، وثبوت حكمه مع نسخ تلاوته، إنما عرف عن طريق النقل الثابت، ومن أمثلته: عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «إنا كنا نقرأ من كتاب الله: ألا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم، أو: إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم». [19] وعن زيد بن أرقم قال: «لقد كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضة لابتغى إليهما آخر، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» [20].
وقد يثار هنا سؤال، وهو: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم، وهلا أبقيت التلاوة ليجمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وقد أجاب صاحب الفنون على هذا السؤال، فقال: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن، من استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء، كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام، والمنام أدنى طرق الوحي [21].
3. نسخ الحكم دون التلاوة:
ويدل على وقوعه، قوله سبحانه وتعالى: (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا (15)) (النساء)، وهذا الحكم نسخ بقوله سبحانه وتعالى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) (النور: 2).
وثبت عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم». [22] وهذا النوع من النسخ فرض على الفقيه تمييزه من نصوص الكتاب والسنة، وذلك لما له من الأثر في الأحكام العملية [23].