تواصل معنا

مِن السبئية إلى البابية

الوصف

مقالة

لمجتمع الإسلامي في عهده الأول:

التوحيد الخالص، والإيمان الصادق والإخاء النبيل، والتجاوب الروحي الذي يستشعر حتى الأنّة الحيرى في أعماق الليل، والعدالة المطلقة التي يؤاخيها الإحسان والسماحة والرحمة، والجهاد الصادق في سبيل دعم هذه القيم المقدسة، والفدائية التي تستلهم دائما شرف التضحية وروعتها. تلك كانت من خصائص الجماعة الإسلامية في عهدها الأول. تلك الجماعة التي وحد الإسلام غاياتها الساميات، وجعل منها أمة واحدة تسعى في الوجود هدى، ورحمة وسلامًا ومحبة، أمة تذكر كل إنسان بإنسانيته، وتكشف له عما فيها من خير وصفاء وسمو وإشراق، وتعمل معه؛ لترتبط هذه الإنسانية بتقوى الله وحده، فإذا هي محبة ونور وقوة تؤيد الحق، وتلهم الحياة حب الكفاح الدائب في سبيل إقامتها على أسس سليمة قوية هدى إليها الإسلام وحده، فلا شرك ولا أثرة، ولا حقد، ولا بغضاء، ولا عدوان، ولا تواكل، ولا جبانة؛ لأن هذا الدين الحق الكامل يطهر نفس من يدين به من كل ما يشوب نقاءها الأصيل، ومن كل ما يعدو به الشيطان؛ ليطمس معالم فطرتها الصافية. دين يطلق الفكر من إسار التقليد ووثاق الأوهام وأصفاد الأساطير التي تحول بينه وبين معرفة الحق والوصول إلى اليقين، ويخلص به نجيّاً إلى حيث يفرض الحق عليه سلطانه، ويكشف له عن سرائره وجلاله. دين يشيع في القلوب طمأنينة الخلود ويقين الأبد، فلا تعرف حيرة الشكوك، ولا ضلالة الظنون، ولا كراهية إلا لما يكره الله. دين يحكم النفس رضية بشرعة الله، فلا تستنـزلها شهوة، ولا يجمح بها هوى، ولا تطرف عينها لفتنة ناعسة، ولا يظمى إحساسها رغبة هاجسه، ولا تثنيها عن غاياتها السماوية قسوة الكفاح، ولا صم العقبات، ولا تأخذ بها رعدة من قلق، أو زلزلة من خوف؛ لأنها تعمل وهي تكاد تبصر وضاءة العاقبة وفجر المصير الوضيء، فالمصير وعد من الله وهو بيده - سبحانه - وحده، والله قدير، ولا يخلف أبدًا وعده.

 

تعمل في شعور تام كامل بأنها لله وحده، فلا يستعبدها ذل لبشر، ولا خنوع لوثن. تعمل في دأب لا يخفق به نعاس الخمول، وفي تعال كريم عن الفردية الصماء؛ فما في ذهن المسلم - وهو يعمل - صورة فرديته، وإنما في ذهنه صورة فرد لا يمكن أن ينفصل عن الجماعة، أو تنفصل سعادته عن سعادتها. وبهذا الشعور يحيا كل مسلم ويكافح، وتتجاوب معه الجماعة في هذا الشعور والكفاح، فتبنيه كما يبنيها، وتسعى إليه بحقه، كما يسعى هو إليها بواجبه، فكلاهما يقدس الحق والواجب. فإن وهنت قواه عن العمل، وجد القوى التي تجعل من ضعفه قوة مضاعفة، وإن عجز عن الوصول إلى الغاية، وجد القدرات التي تحيل عجزه قدرة غلابة، دون أن يحس في هذا العون حرجا، أو يستشعر ما يمس كريم حيائه، لأن الجماعة فيما تعنيه به إنما تؤدي إليه حقه، وترد إليه دينه، وإذا قضى نحبَه نَعم أولادُه بالأبوة الرحيمة التي تحمل عنهم الكَلَّ، وتقضى الدين، وتصل ما ظنوا أنه انقطع من الأسباب دون أن يحسوا أَثارة من ذلة؛ لأن ما تؤديه إليهم الجماعة إنما هو مما ادخره لهم أبوهم لمثل هذا اليوم. لقد كان يعمل من قبل لأبناء غيره مثل ما تعمل الجماعة اليوم لبنيه.

 

فلم لا تقطع في هذه الأمة يد السارق؟ إنه لا يسرق مال فرد، وإنما يسرق مال جماعة متآخية متكافلة. يسرق ذخر اليتامى وتراث الأرامل، يسرق قوام الحياة للجماعة كلها. ولم لا يجلد الخاطئ الذي يدنس شرف هذه الجماعة ويرميها بالشك القاتل في شرف أنسابها وكرمها؟ ولم لا نُقَطَّع أيدي العصابات المجرمة وأرجلهم من خلاف، وهم يبغون على سلام الجماعة الوريف، وأمنها الذي يغمر العشايا والأبكار، وعلى الحقوق المؤدَّاة في سماحة وأريحية؟!

 

ألا إن في عدل الله حياة الجماعة ونظامها واستقامتها. فما فيه شائبة من قسوة كما يزعم المفترون الماجنون، وإنما فيه الرحمة التي تأسو كل جرح، وتسد كل ثلمه، وتفرض بتر كل عضو فاسد لو أنه بقى لاستشرى داؤه الوبيل في الجماعة كلها، فضربها بالوهن، وقضى عليها!

 

ما حدث من خلاف:

فإذا هَمَّ بوحدة الجماعة خلاف قضت عليه بالرضا بما يحكم به كتاب الله. هكذا عاشت الجماعة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي عهد أبي بكر وعمر وأول عهد عثمان، فما نشبت بينهم خلافات تؤدي إلى قطيعة رحم وتدبير كيد، أو وثوب بحاكم[1]؛ إذ كان هوى كل مسلم تبعا لما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد بلغ نجاح هذه الجماعة قمة الخلود، وما سجل التاريخ لغير هذه الجماعة ما سجله لها من تآخ كريم وفي وَدُود يحرص كل فرد عليه حرصه على نفسه، فإذا مسه طائف من الشيطان تذكر، فأبصر، فأسرع يعترف بذنبه؛ ليقام عليه الحد، فيتطهر، ويجد من نفسه أهلا لمشاركة هذه الجماعة سعيها وكفاحها بعد أن تاب وتطهر. ترى ما الذي دفعه إلى الاعتراف، وما رآه إنسان؟ أنها خشية الله وحده!!. وهل في الحياة التي يحكمها الضمير المؤمن مثل أرفع وأشرف من هذا؟

 

وهفا الناس يحتشدون تحت لواء هذه الجماعة نشدنا لهذا السلام الوريف الجميل الذي يغمر النفس والحياة من هذه العقيدة النقية الصافية، ومما شرع الله - لتثبيتها في القلوب - من شرعة محكمة تظل عبر القرون حتى تقوم الساعة، وهي وحدها مصدر الحق والخير والعدالة والأخوة والسلام والسعادة! ولست بالحالم ولا بالمتعصب فيما كتبت، فإنما هي حقيقة أقصها، وقد مجَّد جلالَها شرفُ الصدق من التاريخ.

 

أحقاد تتآمر:

بيد أن هذا النجاح المخلد ذكره أثار على الإسلام أحقاد الذين يكرهون أن ينتصر الحق، ويسود الخير، ويهدي النور الحيارى في الظلام. أولئك الذين يحبون أن يعيش الناس عبيد ضلالات وأسارى أوهام؛ لتظل لهم السيطرة الباغية على نفوسهم، فيسخروهم لأهوائهم وشهواتهم. كما تلظت على الإسلام والمسلمين أضغان الصهيونية؛ لأنه قضى على ماديتها التي تنشب مخالبها المسممات في كل روحانية، وعلى مجانتها التي تتاجر في الأعراض، وسلع الأجساد في ردغات الخطايا؛ ولهذا هبت مذعورة تجمع حول أهدافها كل ذي ضغن من أولئك الذين أنقذ الإسلام الإنسانية المعذبة من سياطهم الباغية، وجعل من أصحاب هذه الإنسانية - وكانوا عبيداً - أحرارا تهتف أمجاد التاريخ ببطولاتهم المعطرة بالنبل والعزة والكرامة[2]، وتقدمهم مُثلًا عليا لبطولة الإيمان وشجاعة العقيدة وقوتها، وجلال التضحية الملهمة في سبيل الله. حشدت الصهيونية البغاة من أولئك الذين ألّهوا النار، واتخذوا من الكواكب والشياطين والإنسان أربابا معبودة يسخرون باسمها لشهواتهم أقوات الشعوب وتواريخها. حشدت أولئك الذين أدال الإسلام من سطاهم وطغواهم، ثم قذفت منهم بعصابة سوداء تحالفت لقتل عمر بقيادة الصهيوني "كعب الأحبار"[3]، فقتل عمر. وقد ظن هؤلاء أنهم بقضائهم على هذا البطل العظيم، يقضون على الإسلام ودولته، ولكن الصهيونية لم تسعد بهذا السراب، وإن كانت قد قضت عل أمل كبير وقوة عظيمة ظافرة، وعدل سجل التاريخ بيد العدو جلاله وسموه. ثم انشق الغيب المجهول عن الفهد الماكر الخاتل عبدالله بن سبأ[4].

 

وقد ظهر الملعون في عهد عثمان في صورة زاهد ورع يفيض حبًا للإسلام، ويبشر بسماحة مبادئه، ويصطنع الغيرة على شريعته من أن ينال منها حاكم وأخذ يقعد لفرائسه كل مرصد، ومن ورائه عصابة مقنعة بالحذر والدهاء تحرس خطاه، وتحمي ظهره، وتبشر بمفترياته السود، وتعينه في الإجهاز على ضحاياه. لقد تلمس الماكر السبيل إلى عاطفتين يضطرب بهما القلب إذا اضطربتا فيه؟ عاطفتي الحب والكراهية، فوجد في القلوب حبا مشبوبا لآل البيت، وهوى يحنو على علي، ويرمض بعضها الأسى لحرمانه من الخلافة[5]، فهفا يؤجج أوار عاطفة الحب هذه، حتى استزلها إلى الغلو النـزاع إلى تأليه المحبوب، وإلى العمل في سبيل القضاء حتى على من تتخيل أنه يعاديه، أو يظلمه! كما لمس في نفوس بعض الموالي ومن على شاكلتهم - كراهية مقيتة للعرب، وفي نفوس قلة من العرب كراهية لبني أمية فظل بهذه الكراهية يهيجها حتى صمّمت على أن تعمل؛ لتدمر العرب وبني أمية، فتروِّه عن الغليل المسعور في أعماقها.



[1] يحدثنا الشهرستاني عن الخلافات التي وقعت بين الصحابة في مرض النبي وبعد وفاته فيقول: إنها اختلافات اجتهادية كان غرضهم فيها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج الدين. ثم يعدد هذه الخلافات، وهي باختصار: (1) الخلاف حول الكتاب الذي طلب رسول الله أن يكتبه في حال مرضه (2) الخلاف حول تجهيز جيش أسامة (3) الخلاف حول موته، فقد دفع الجزع عمر إلى تكذيب نبأ موته، حتى سمع من أبي بكر، فتطامن حزينا موجعا (4) الخلاف حول مكان دفنه (5) الخلاف حول من يخلف الرسول (6) الخلاف حول فدك (7) الخلاف حول قتال مانعي الزكاة في أول خلافة أبي بكر (8) الخلاف حول عهد أبي بكر إلى عمر بالخلافة (9) الخلاف حول أمر الشورى بعد وفاة عمر، إلى أن استقر رأي الجميع على بيعة عثمان (10) الخلاف الذي نشب بعد عقد البيعة لعلي من بعض الصحابة.

ويقول الشهرستاني عقب هذا عن الصحابة: (وإنما أهم أمورهم الاشتغال بقتال الروم وغزو العجم، وفتح الله الفتوح على المسلمين، وكانوا كلهم يصدرون عن رأي عمر، وانتشرت الدعوة، وظهرت الكلمة ودانت العرب، ولانت العجم) ويقول عن عهد عثمان:  (وانتظم الملك، استقرت الدعوة في زمانه، وكثرت الفتوح، وامتلأ بيت المال، وعاشر الخلق على أحسن خلق وعاملهم بأبسط يد) جـ1 ص13 وما بعدها الملل والنحل. ط مكتبة الحسين التجارية.

[2] أمثال بلال وعمار بن ياسر وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، وحسبك ما قاله عمر، وهو يفكر في الخلافة من بعده:(لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته، وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: إن سالما شديد الحب لله) ص34 جـ3 ابن الأثير.

[3] كان المؤتمرون هم (كعب الأحبار) وهو يهودي والهرمزان وهو مجوسي وجفينة وهو صليبي من نصارى الحيرة. وأبو لؤلؤة المجوسي، وهو الذي نفذ المؤامرة. وهكذا اشترك في قتل عمر كل خصوم الإسلام.

[4] يهودي من صنعاء نـزل أول ما نـزل بالحجاز مدعيًا الإسلام، ثم راح ينساب كالصل في الأمصار الإسلامية، وقد رغب إلى عثمان رضي الله عنه في أن يوليه منصبًا كبيرًا، لعله يستطيع به السيطرة على الخليفة نفسه، فرفض الخليفة، وقد كان وراء كل فتنة في عهد عثمان ثم في عهد علي، وقد ظفر علي بالسبئيين فحرقهم. أما ابن سبأ نفسه، فنفاه علي إلى المدائن.

[5] كان علي وقت بيعة أبي بكر مشغولا بإعداد ما يلزم لدفن الرسول، وحينما سمع ببيعة أبي بكر خرج عجلان في قميص ما عليه إزار ولا رداء حتى بايعه. وقيل لم يبايع إلا بعد موت فاطمة - رضي الله عنهما - انظر ص220 جـ2 ابن الأثير، ويروي عنه قول: (والله ما كان قعودي في كسر هذا البيت قصدا للخلاف، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما وقدني - أي تركني عليلا - به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فراقه، وأودعني من حزنه) ص229 جـ7 نهاية الأرب، وسواء أكان هذا أم ذاك، فالثابت أن عليا رضي الله عنه طابت نفسه ببيعة أبي بكر، وظل له عضدا قويا ووزيرا صدق وإخلاص في المشورة.

 

المرفقات

التصنيفات العلمية

أضف تعليقا