الوصف
مقالة
نشأة السبئية
هم أتباع عدو الله عبد الله بن سبأ الحميري اليهودي، كان من أهل صنعاء وأمه أَمَة سوداء ولذلك كان يقال له: ابن السوداء.
وقد كان عبد الله بن سبأ هذا من هؤلاء الذين غلت مراجل قلوبهم ببُغض الإسلام وأهله، وعجزوا عن محاربته ظاهرًا بعد أن بسط الإسلام رواقه على أنحاء الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر، فلم يجد عبد الله فرصةً لحرب هذا الدين إلَّا أن يُعلن إسلامه، وأن يبطن في قلبه جيوش الحقد والدس والكيد للإسلام والمسلمين، وقد اغتنم عبد الله بن سبأ لهذا الغرض الخبيث فرصة سماحة عثمان ذي النورين رضي الله عنه ولين جانبه، وإنكار بعض الناس عليه أمورًا؛ منها ما زعموا أنه سمح للحكم بن أبي العاص بالعودة إلى المدينة المنورة وقد كان نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها.
عبد الله بن سبأ والفتنة الكبرى
وأظهر عبد الله بن سبأ إسلامه ولبس مسوح الورع والغيرة على الدين، والتفاني في الدفاع عنه، وأخذ ينتقل في بلاد المسلمين يؤجِّج نار الفتنة ضدَّ عثمان رضي الله عنه، ويحاول تضليل المسلمين وتشتيت أمرهم، فبدأ بالمدينة المنورة وكان يتصيَّد بعض الموالي من الفرس الذين كانوا بالمدينة المنورة من أمثال أبي لؤلؤة المجوسي، وكذلك بعض صغار أبناء الصحابة، ولمـَّا تفطَّن له بعض الصحابة هرب إلى العراق ونزل عند حکیم بن جبلة وكان حكيم هذا من قطَّاع الطريق، يسكن بين بلاد الفرس وبلاد العرب في العراق، وينتهب من هؤلاء وهؤلاء، وكان عبد الله بن عامر بن کریز ابن خال عثمان بن عفان رضي الله عنهما قائد المسلمين في البصرة، فوقف على ابن سبأ وقال له: من أنت؟ قال: رجلٌ من أهل الكتاب آمن بنبيِّه ثم آمن بمحمد. فقال له عبد الله بن کریز: ما هذا الكلام الذي يبلغني عنك. فقال له ابن سبأ: يكذبون عليَّ. فقال له: ارحل من هذه البلاد. فذهب ابن سبأ إلى الشام وكان فيها معاوية فلم يستقر بها خوفًا من معاوية، ثم ذهب إلى مصر ونزل بقريةٍ يُقال لها النحاريَّة في منتصف الطريق بين الإسكندرية والفسطاط بعيدًا عن جيوش المسلمين، وأخذ ينشر سمومه حيث وجد فيها الأرض الخصبة الملائمة لبذوره السامَّة المميتة، ولم يزل بها حتى أوجد جماعةً يتمكَّن بهم من تنفيذ ما يُريد.
وكان يُوعز إلى أتباعه أنَّ عثمان رضي الله عنه قد اغتصب حقَّ الخلافة من عليٍّ رضي الله عنه، وأنَّه لا يجوز الصبر دون نصرة هذا الولي المهضوم، وكان يوصي هؤلاء الأغرار فيقول لهم: انهضوا في هذا الأمر فحرِّکوه وأيِّدوه بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتستميلوا الناس.
وقد أثَّرت دعوة عدوِّ الله عبد الله بن سبأ هذا في نفوس بعض الناس الذين لم تُخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، فدعوا في السرِّ إلى ما عليه رأيهم، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار الإسلاميَّة كتبًا يملئونها بالطعن في وُلَاتهم، ورميهم بكثيرٍ من أنواع الفساد، قال ابن جریر رحمه الله: وهم يُريدون غير ما يُظهرون، ويُسرُّون غير ما يُبدون.
ولمـَّا رأى ابن سبأ أنَّ الفرصة قد سنحت لتنفيذ مخطَّطاته الإجراميَّة كاتب الذين هم على شاكلته من أهل العراق وتواعدوا أن يلتقوا هم والمصريون في المدينة المنورة لقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان. فتواعدوا في موسم الحج حتى لا يشكَّ فيهم الناس، وادَّعوا أنَّ عثمان رضي الله عنه ارتكب جرائم، منها: أخذ الولاية من علي وصي رسول الله، وأنَّه حمى الحمى، وآوی الطريد، ورفع المنبر عن ما كان عليه في عهد رسول الله حيث جعله خمس درجات بدل ثلاث.
وقد ردَّ عليهم عثمان بن عفان رضي الله عنه شُبَهَهُم؛ حيث صعد على المنبر وقال: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من احتفر بئر رومه فله الجنة، وقد احتفرته بمالي لصالح المسلمين، وقد جهَّزت جیش العسرة، وقال رسول الله ما ضرَّ عثان ما فعل بعد اليوم، وأمَّا المنبر فقد رفعته ليتمكَّن الخطيب من إسماع المصلِّين، وأمَّا الحمی فقد اشتريته من مالي من بني غني لإبل الصدقة، وأمَّا إيواء الطريد فإنَّ الحَكَمَ أبا مروان حاول أن بنظر من ثقبٍ بالباب لعورة النبيِّ فنفاه النبيُّ إلى الطائف، وإنَّما رددته لكِبَر سِنِّه وتوبته.
ولمـَّا أحس عثمان رضي الله عنه أنَّهم عازمون على قتله أرسل إلى عليٍّ رضي الله عنه رسالةً قال فيها: لقد بلغ السيل الزُّبی، وجاوز الحزام الطبين، وطمع في من لا يدفع عن نفسه:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل وإلا فأدركني ولَمَّا أمزق
وقد تمَّ لهم ما أرادوا واستُشهد عثمان رضي الله عنه، وتحقَّق فيه ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ بشَّره بالجنة على بلوى تُصيبه، كما جاء في صحيح البخاري: حدثنا يوسف بن موسی، حدثنا أبو أسامة، قال: حدَّثني عثمان بن غیاث، حدثنا أبو عثمان النهدي عن أبي موسى رضي الله عنه قال:
"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائطٍ من حيطان المدينة، فجاء أبو بكر، فقلت له حتى أستأذن رسول الله، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشِّره بالجنَّة. ففتحت له، ثم جاء عمر، فقلت له حتى أستأذن رسول الله، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: افتح له وبشِّره بالجنة. ففتحت له، ثم استفتح عثمان، فقلت له حتى أستأذن رسول الله، فقال لي: افتح له وبشِّره بالجنَّة على بلوى تُصيبه. فأخبرته بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمد الله ثم قال الله المستعان).
وقد كانت عائشة رضي الله عنها في الحج ومعها ابن أختها عبد الله بن الزبير وأبوه وطلحة، وقد علموا أنَّ القتلة توجَّهوا إلى العراق، فأشاروا عليها بالخروج ومحاولة إدراكهم قبل أن يصلوا إلى العراق، فلمَّا علم عليٌّ به خرج ليردَّ عائشة ومن معها خشية إصابتها بمكروه، ولكنَّه عندما وصل إلى ملتقى طريق القادم من مكة مع طريق القادم من المدينة وجدها قد سبقته ونزلت بالبصرة، فاتصل بها علي رضي الله عنه وأخبرها أنَّه الآن وليُّ أمر المسلمين، وهو المطالب بعقوبة قتلة عثمان، فعزمت عائشة على الرجوع، ففكَّر عبد الله بن سبأ بحيلةٍ يخرب بها هذا الصلح، فأمر بعض أتباعه أنه إذا جاء الليل وحلَّ الظلام يبدأ بعضهم برمي مخيَّم عائشة رضي الله عنها وبعضهم برمي مخيَّم علي رضي الله عنه، فيظنُّ أصحاب عائشة رضي الله عنها أنَّ عليًّا رضي الله عنه نقض العهد، وكذلك من في مخيَّم عليٍّ رضي الله عنه أنَّ عائشة رضي الله عنها نقضت العهد، وصارت هناك موقعة الجمل، وقد اختار الناس بعد عثمان رضي الله عنه عليَّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه خليفةً للمسلمين وأميرًا للمؤمنين، وأظهر ابن سبأ سروره بمبايعته، وأخذ يسرُّ إلى أصحابه عقائد جديدة؛ فزعم أوَّلًا أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم سيرجع إلى الدنيا. وكان يقول: العجب ممَّن يزعم أنَّ عيسى يرجع، ويُكذِّب بأنَّ محمدًا يرجع، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]، ومحمدٌ أحقُّ بالرجعة من عیسی.
ثم زعم ابن سبأ بعد ذلك: أنَّه رأى في التوراة أنَّ لكلِّ نبيٍّ وصيًّا، وأنَّ عليًّا رضي الله عنه وصيُّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وكما أنَّ محمدًا خير الأنبياء فإنَّ عليًّا رضي الله عنه هو خير الأوصياء؛ ثم يغلو ابن سبأ في عليٍّ رضي الله عنه فيزعم أنَّه نبيٌّ، ثم يتجاوز ذلك فيزعم أنَّ عليًّا رضي الله عنه فيه جزء إله أو هو الإله. وقد تبعه على ضلالته هذه بعض غواة الكوفة.
وقد تقدَّم بعضهم إلى علي رضي الله عنه وقالو له: أنت هو. قال علي رضي الله عنه: ومن هو؟ قالوا: أنت الله. فلم يجد عليٌّ رضي الله عنه أجدى في عقوبتهم من تأجيج نارٍ وإلقائهم فيها؛ فإنَّه حينما سمع ذلك منهم أمر مولاه قنبرًا فحفر حفرتين وملأهما نارًا، وجييئ بمن تحقَّق لعليٍّ رضي الله عنه أنَّه على هذا المذهب الخبیث فطُرِح في هاتين الحفرتين، وفي ذلك يقول الشاعر:
لترمي بي الحوادث حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
وقد أُثر عن علي رضي الله عنه أنَّه قال في ذلك:
لمـَّا رأيت الأمر أمرًا منكرًا أججت ناري ودعوت قنبرًا
هذا وقد نُقِل أنَّ بعضهم لمـَّا طُرِحَ في النار قال لعليٍّ رضي الله عنه: الآن أيقنَّا أنَّك الإله؛ فإنَّه لا يُعذِّب بالنار إلا الله.
وكانت الإشاعات تشيع أنَّ ابن سبأ هو محور هذه الضلالات، وقد عزم عليٌّ رضي الله عنه على طرحه في النار مع هؤلاء، لكن ابن عباس رضي الله عنهما أشار على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أن لا يقتل ابن سبأ مخافة حدوث فتنةٍ أخطر، وحتى لا يشمت به أهل الشام، فنفاه عليٌّ رضي الله عنه إلى ساباط المدائن، ولمـَّا قُتِلَ عليٌّ رضي الله عنه بيد عبد الرحمن بن ملجم المرادي الخارجي زعم ابن سبأ أنَّ عليًّا لم يُقتل، وأنَّ الذي قتله عبد الرحمن بن ملجم شیطانٌ تصور في صورة علي رضي الله عنه. وقال: كما كذبت اليهود والنصارى في دعواهم قتل عیسی، كذلك كذب القائلون بقتل عليٍّ، وإنما رأت اليهود والنصارى شخصًا مصلوبًا شُبِّه لهم أنَّه عیسی، كذلك القائلون بقتل علي رأوا قتيلًا يُشبه عليًّا، فظنُّوا أنَّه عليٌّ، مع أنَّ عليًّا صعد إلى السماء، وأنَّه يمشي في السحاب، وأنَّ البرق سوطه، وأنَّ الرعد صوته، وأنَّه يرجع إلى الأرض فيملؤها عدلًا كما مُلِئَت جورًا، وتخضع له مشارق الأرض ومغاربها.
وقد روي عن الشعبي أنَّه قال: قيل لابن سبأ إنَّ عليًّا قد قُتِل. فقال: إنْ جئتمونا بدماغه في صرة لا نُصدِّق بموته؛ إنَّه لا يموت حتى ينزل من السماء ويملك الأرض بحذافيرها.
خلاصة مذهب السبئية:
[1] - إحداث القول برجعة محمد صلى الله عليه وسلم.
[۲] - إحداث القول بأنَّ عليًّا رضي الله عنه وصيُّ محمد صلى الله عليه وسلم.
[۳] - القول بالحلول.
[4] - قرَّروا نبوة عليٍّ رضي الله عنه.
[5] - قالوا بألوهيَّة عليٍّ رضي الله عنه.