تواصل معنا

نقد الإلحاد: رؤى إيمانية معاصرة (مقالة)

الوصف

الإلحاد المعاصر…الذي أطل بوجهه في مطلع القرن الواحد والعشرين، والمتمثل في وضع العلم بديلاً عن الإله، وليس فقط محو الإله. الإلحاد المعاصر الذي يقوده ويتزعمه “ريتشارد دوكينز Richard Dawkins”؛ صاحب الأسلوب الجريء في الدعوة إلى الفلسفة الداروينية؛ وصاحب الأسلوب العدائي الذي لا يقوم على أية حجج منطقية، بل يقوم فقط على الكراهية الشديدة للإله والدين والمسيحية والإسلام بشكلٍ خاص، كما يؤكد “عمرو عبد المنعم شريف” الذي يعتبر واحد من أبرز الباحثين العرب في قضية الإلحاد، كما سنشير فيما بعد.

مقالة

الإلحاد المعاصر…
ذلك المرض غير التقليدي الذي اقتحم مجتمعاتنا المسلمة في الآونة الأخيرة، بصورةٍ مفزعةٍ لم يكن لها مثيل من قبل، تاركاً معالم افتراسه الشرسة على قلوب وعقول فئة غير قليلة من الشبيبة المسلمة
.

الإلحاد المعاصر…الذي أطل بوجهه في مطلع القرن الواحد والعشرين، والمتمثل في وضع العلم بديلاً عن الإله، وليس فقط محو الإله. الإلحاد المعاصر الذي يقوده ويتزعمه “ريتشارد دوكينز Richard Dawkins”؛ صاحب الأسلوب الجريء في الدعوة إلى الفلسفة الداروينية؛ وصاحب الأسلوب العدائي الذي لا يقوم على أية حجج منطقية، بل يقوم فقط على الكراهية الشديدة للإله والدين والمسيحية والإسلام بشكلٍ خاص، كما يؤكد “عمرو عبد المنعم شريف” الذي يعتبر واحد من أبرز الباحثين العرب في قضية الإلحاد، كما سنشير فيما بعد.

لم يقف في هذا المعترك علماء الشريعة بقدر ما وقف فيه رجال الفكر والثقافة، أمثال د.”محمد عمارة” ود.”مصطفى محمود” ود.”هيثم طلعت علي سرور”؛ بل وأيضاً رجال الطب، كان أبرزهم الطبيب الجراح”عمرو عبد المنعم شريف”، أستاذ ورئيس أقسام الجراحة بكلية الطب جامعة عين شمس. وهو الطبيب صاحب الباع الضخم في مقاومة تلك الظاهرة الإلحادية، حيث قام بتأليف العديد من الكتب ولا سيما بعد اندلاع الثورات العربية الأخيرة في عام 2011. فمن “وهم الإلحاد” (2013) إلى “رحلة عقل” (2013) إلى “الإلحاد مشكلة نفسية” (2016)، ذهب “عمرو شريف” إلى عدة افتراضات رئيسية، أهمها أن الإلحاد المعاصر صناعة أوروبية حديثة وليس صناعة عربية إسلامية؛ وأن الأسباب النفسية والاجتماعية والشخصية هي الأسباب الأولى التي تقف في المقدمة عند تفسير ظاهرة الإلحاد؛ وأن الإلحاد المعاصر (إلحاد القرن الـ21) لا يُقارن بما سبقه من موجات إلحادية في القرون السابقة، حيث يتصف هذا الإلحاد بوقاحة وشراسة في العرض والهجوم لم تعهدها ساحات الجدال والمناظرات من قبل.

ومما يثير الانتباه، أن مقاومة الإلحاد لم تقتصر على “فرسانٍ” مسلمين عرب فقط، بل امتدت إلى “فرسانٍ” مسيحيين غربيين أيضاً، كان أبرزهم الفيلسوف الإنجليزي “أنتوني فلوAntony Flew ” – والذي كان يُعد من أشهر ملاحدة العصر الحديث – صاحب كتاب “هناك إله: كيف غير أشهر ملحد رأيه” (2004). ذلك الفيلسوف الذي ظل يحارب الإيمان بالله قرابة خمسين عاماً، ثم انتهى به الحال – وبعد رحلة عقل طويلة – إلى إعلان حتمية وجود إله خالق ومُنظم لذلك الكون الفسيح، حيث تشهد الأدلة العلمية والفلسفية والعقلية والمنطقية والرياضية على ذلك، على حسب قول “فلو”.

وبالقراءة والبحث في المؤلفات والمنتجات الفكرية لمقاومي الفكر الإلحادي، سواء في الحقل العربي أو الحقل الغربي، وجدتُ أن معظم الأطروحات والقضايا التي تصدوا لها تتلخص في:

أولا: قضية وجود الشر في العالم.

ثانيا: قضية نشوء العالم صدفةً من مادة غير حية.

ثالثا: قضية حتمية أفعال وسلوكيات الإنسان.

رابعا: قضية أفكار الغائية والكونية الأخلاقية.

خامسا: قضية محاسبة الإله والمساواة بينه وبين المخلوق.

 

 

أنتوني فلو”…من الإنكار إلى اليقين

في كتابه “هناك إله”، أرجع “فلو” أسباب إلحاده – منذ الصغر – إلى التنشئة المسيحية الصارمة في داخل البيت، مما ولًد لديه نفوراً عاماً من الدين، الأمر الذي أثار لديه الأسئلة المعتادة التي طالما يطرحها الملحدون، وهي: لماذا يوجد الشر في العالم؟ وأين الدليل التجريبي على وجود الإله؟

أحد الأسباب المبكرة الأولى لتحولي إلى الإلحاد كان مشكلة وجود الشرور في العالم”. هكذا انطلق “فلو” مبرراً ومُقدماً سبباً رئيسياً وراء إلحاده في سنٍ مبكرة، حيث لم يكن قد جاوزً الخامسة عشر من عمره حينما بدأ يرفض فكرة الإله. رأى “فلو” الشرور – حينذاك – متمثلةً في أجواء الحرب العالمية الأولى، والتمييز ضد اليهود؛ الأمر الذي أثار لديه الشك في وجود إله محبٍ ذي قدرةٍ مطلقةٍ وخيرٍ مطلق. كان سؤاله المُلح دائماً: كيف يمكن تفسير وجود الشر والألم والمعاناة في العالم مع وجود إلهٍ قادر؟

وهناك أسباب أخرى أضافت لديه مزيداً من الشكوك والحيرة؛ منها عدم قناعته بالإيمان الصارم لوالده، حيث وصفه قائلاً: “هو الإيمان الذي لم أشعر بأي ارتباط عاطفي قوي تجاهه”. ومنها تأثره بكتابات الفيلسوف “لودفيج ويتينجستاين Ludwig Wittingstei” ” الذي يعتبر من أشهر ملاحدة القرن العشرين. وقد أصبحت فرضية الإلحاد نقطة انطلاق منهجية في كتابات فلو، وقد برر تلك الفرضية بعدم توفر الدلائل والأسباب الوجيهة للاعتقاد بوجود إله، فقام بنفي وتكذيب الحُجة الغائية والكونية والأخلاقية (أن هناك غاية إلهية لخلق هذا الكون)، مفترضاً استحالة الوصول إلى نتيجة صحيحةٍ عبر خبرةٍ دينيةٍ خاصة.

وانطلاقاً من تلك التساؤلات التي لم يجد لها إجابات مقنعة – في ظل التنشئة الدينية الصارمة التي أحاطت به منذ الصغر – ظل “فلو” قرابة خمسين عاماً مناصباً العداء لعقيدة الإيمان بالله. إلا أنه مع تقدم العلم في المجالات الطبيعية، وخاصة البيولوجية، بدأ التشكك في الإلحاد يتسلل إلى نفسه. فالاكتشاف العلمي للحامض النووي بتعقيداته الخارقة كان سبباً رئيسياً وراء مراجعته لقناعاته الإلحادية، وبداية اعتقاده بضرورة وجود روح غير مادية عالمة بكل شيء، وبعقل خارق الذكاء والتصميم لا يصل إليه أي عقل بشري، مهما بلغت عبقريته.

لقد كانت اكتشافات الحامض النووي سبباً وراء إعلان إيمانه بجود إله، في ندوةٍ بجامعة “نيويورك New York” عام 2004. تطرق في تلك الندوة إلى التعقيد الشديد – غير القابل للتصديق – المصاحب للخطوات اللازمة لخلق الحياة؛ كيف تعمل العناصر المختلفة معاً؛ وكيف تتفاعل بدقةٍ متناهية؛ مما يستدعي ذكاءً خارقاً. لقد كان إعلان “فلو” متسقاً مع المبدأ الذي تبناه منذ بداية مسيرته الفلسفية؛ وهو مبدأ اتباع الحُجة حيث تقوده.

 وبالإضافة إلى اكتشافات الحامض النووي، التي دفعت “فلو” نحو اكتشاف المقدس، كان هناك أيضاً الاكتشافات العلمية الحديثة عن ماهية العقل البشري، والتي فسرت العقل في شكلٍ معاكس لما كان يفترضه أو يتوهمه الإلحاديون. فقد تم اكتشاف أن العقل ليس نتاجاً فقط لتفاعل أيونات الصوديوم والكالسيوم، وبأن الإنسان ليس مُجبراً على تفكير معين أو سلوك معين، وهو ما أفضى إلى تشكك “فلو” في قانون الحتمية الذي طالما احتفى به الإلحاديون. فقد لاحظ “فلو” – كما أورد [1]في كتابه – أن الاختيارات الإرادية للإنسان لا يمكن اقتصارها على الأسباب المحددة فيزيائياً؛ وهو أمرٌ راجعٌ للاختلاف الجوهري بين أسباب الأفعال البشرية وأسباب الأفعال غير البشرية. بدأ يميز بين التحرك الاختياري للبشر moving (التي هي خاصية البشر) وبين حركة الكيانات التي لا تمتلك الإدراك والقصد والاختيار motion. لقد أفضت جميع تلك الملاحظات إلى تشكك “فلو” في فرضية الحتمية الفيزيائية الحاكمة للكون؛ ومن ثم إعادة نظره في فرضية الإلحاد بشكلٍ عام؛ وساعده في ذلك “ريتشارد سوينبرن Richard Swinburne ” الذي تناول بلغة علمية حديثة  الأدلة التي تثبت وجود الله.  

أما بالنسبة لفرضية الملحدين الكبرى – والتي تتلخص في انبثاق الحياة بالصدفة – فقد قام فلو بدحضها علمياً ومنطقياً وفلسفياً؛ إذ لم يجد الإلحاديون دليلاً واحداً يقدمونه لإثبات تلك الفرضية؛ وهو الذي دعم من شكوك “فلو” في الفكر الإلحادي، كما أشار في كتابه. لقد اكتشف “فلو” بأن “انبثاق الحياة من المادة” ليس له أية دلائل علمية أو فلسفية، ومن ثم يفتقد إلى العقلانية والحُجة. فتساءل مستنكراً: “ما الذي ينبغي أن يحدث أو يجب أن يحدث لكي نعتبره على أقل تقدير سبباً للتفكير في وجود عقل خارق”؟(ص105)

في رحلة اكتشافه للمقدس، أثارته ثلاثة أسئلة: من أين جاءت قوانين الطبيعة؟ كيف جاءت الحياة من اللاحياة؟ كيف جاء الكون إلى الوجود؟ وعبر رحلة عقل – وليس رحلة إيمان – بدأ في اكتشاف الألوهية، كما يؤكد في كتابه. اكتشف أن قوانين الكون المُعقدة تبين وتفسر ما أسماه العلماء “عقل الإله”. فقوانين الاطراد والتماثل في الطبيعة لابد لها من كاتبٍ حكيم؛ إذ كيف جاءت تلك القوانين كحزمةٍ واحدة؟ وهو ما قاده إلى حُجة التصميم Argument from Design التي تقول إن التصميم الواضح في الطبيعة يدل على وجود مصمم للكون.

وبعد رحلة عقلٍ طويلة، اعترف الفيلسوف الإنجليزي بعدم علمية ومنطقية إلحاده. فأقر بأن إلحاده، منذ سنٍ مبكرة، لم يكن مبنياً على أسس علمية، إنما كان مبنياً على “عناد صغار السن”. وفي نهاية كتابه، أبدى “فلو” تقديره “للروح المتفوقة للانهائية التي تُظهر نفسها في أدق التفاصيل التي نستطيع إدراكها بعقول واهية ضعيفة”.  فكتب قائلاً: “هذه القناعة العاطفية العميقة بوجود القوة المنطقية المتفوقة التي تتبدى في الكون الذي لا يمكن الإحاطة به هو الذي شكل فكري عن الإله” (ص121).

وهكذا نجد كيف كانت الاكتشافات العلمية معولاً رئيسياً في هدم منظومة الإلحاد عند انتوني فلو، وكيف أنها وفرت متسعاً لإعادة التفكير في تلك المنظومة؛ فجعلت واحداً من أبرز ملاحدة العصر الحديث يعلن ويجاهر بكفره بتلك المنظومة.

 

هيثم طلعت”: الإلحاد عبثي لا دليل له

يعتبر الدكتور “هيثم طلعت علي سرور” من أبرز “المقاومين” للفكر الإلحادي على المحطات الإلكترونية للتواصل الاجتماعي أو  “السوشيال ميديا”. انطلق من فرضية أساسية تقول إن الإلحاد منظومة عبثية لا مبرر لها ولا دليل ولا منطق. فالملحدون – بحسب وجهة نظره – لم يستطيعوا تقديم دليل واحد على إنكار وجود الله؛ ذلك لأنهم في الأصل معترضون على وجود الله كفراً وجحوداً وتمرداً وليس إنكاراً.

ومن عبثية الملحدين – كما يؤكد “هيثم طلعت” في كتابه “مناظرة الملحدين” (الصادر في عام 2016) – إنكارهم لبرهان السببية. فهم يتتبعون منهاج السببية في كل المسائل إلا في مسألة خلق الكون؛ فيدعون أنه لا سبب وراء مسألة خلق الكون، وهو ما يعد ضرباً من الجنون والحمق والسخف. إذ كيف يُعمل الملحد السببية في معمله، وفي كل كبيرة وصغيرة في حياته، ثم يوقف السببية في أصل كل هذه الأمور، مفترضاً العدمية مصدراً وحيداً للوجود؟

ومن عبثية الملحدين أيضاً، جهلهم بالتاريخ الذي يؤكد ويثبت أسبقية عقيدة التوحيد عن أي عقيدة أخرى. فقد جاء التوحيد أولاً، ثم تلته المعتقدات الفاسدة. وقد تأصل الدين والأخلاق منذ بداية نشأة الكون؛ ولم يحدث فيهما تطور؛ كما يدعي الملحدون.

وكما يشير “هيثم طلعت” إلى عبثية الإلحاد، يشير – على الوجه المناقض – إلى عقلانية ومنطقية التوحيد، مشيداً، على سبيل المثال، بمعجزة الشفرة الوراثية الخاصة بالحامض النووي؛ تلك المعجزة التي دلت بوضوح وجلاء عن علمٍ خارق وعن قدرةٍ خارقة لا يستطيع بلوغها أي مخلوق. ثم يشيد بمعجزة تكوين الخلية الأولى، بكل تعقيداتها وتفاصيلها ودقائقها، موجهاً سؤاله إلى الملحدين في سخريةٍ وتعجب قائلاً: كيف تكون الخلية الأولى – بتلك الصنعة المعقدة – عشوائية الصنع أو وليدة الصدفة؟ يتساءل “هيثم طلعت”ً: كيف يمكننا تصديق أن العشوائية هي التي أنشأت الخلية الأولى التي تفوق في كل عصية من عصياتها أعلى الكومبيوترات تعقيداً؟ بل كيف يمكننا تصديق أن العشوائية هي التي تُحول معلومات التشفير الوراثي إلى وجود حقيقي في الكائن الحي؟ إن معجزة التشفير الرباعي عمل إعجازي بكل معاني الكلمة؛ إذ تجتمع جميع المواصفات التي يحتاجها الكائن الحي…تجتمع مُشفرة في نواة الخلية بداخل شريط الـ “دي إن إيه الـDNA” بالكائن الحي عبر نظام التشفير الرباعي. ذلك التشفير الذي إذا قمنا بنسخه على الورق، فإنه سيملأ نحو ألف مجلد بواقع خمسمائة صفحة لكل مُجلد. بل إن عملية التشفير تشمل تخزين المعلومات وحفظها بعد ذلك عند الحاجة، وليس مجرد التشفير.

ومن حُجة التشفير الرباعي، ينتقل “هيثم طلعت” إلى حُجته المناهضة للحتمية؛ مؤكداً أن الإنسان ليس أسيراً لتحركات أيونات الصوديوم والبوتاسيوم؛ ليس أسيراً للطبيعة والفيزياء كما يفترض الإلحاديون. فإن تطلع الإنسان للحق والخير والعدل والقيمة ليس نتاجاً لتحركات الأيونات على جدران الخلية العصبية؛ وإن هذه التفاعلات الفيزيائية والكيميائية لا تفرز الوعي كما تصور الرؤية الإلحادية.  وكما أشار في كتابه قائلاً: “إن للإنسان معنى مفارق لهذا الوجود، منه يستمد معناه وقيمته، ومن خلاله يعرف الحق والخير والعدل” (ص23).

ويتطرق “هيثم طلعت” كذلك إلى حُجته المناهضة لنسبية الأخلاق التي يفترضها الإلحاديون، فيدلل تاريخياً ومعرفياً بأن الأخلاق لا تطور فيها ولا تقدم. فالإنسان هو العنصر الثابت في تاريخ العالم؛ حيث دخل التاريخ برأس مال أخلاقي هائل. والفلسفة الأخلاقية – بعد أفلاطون – لم تحقق أي تقدم على الإطلاق؛ وكذلك أفكار “أرسطو” الأخلاقية، فهي تصلح لكل عصر. فقد تعلو الأخلاق وتهبط، ولكنها لا تتطور.  

يصف “طلعت” الإلحاد انتحاراً متواصلاً للعقل، وإسقاطاً للوعي والإدراك على المادة الجامدة فقط. وهنا يوجه سؤاله للملحد قائلاً: كيف يمكن للمادة أن تستوعب القوانين التي تُطبق عليها حتى تنتج قانوناُ وسبباً ونتيجةً؟ وكيف يُصدق الملحد قدرة الإنسان على إخراج “كتالوج” ورقي للسيارة، ولا يُصدق قدرة الله على إخراج “كتالوج تشفيري” للكائن الحي، بل قدرته على تحويل ذلك “الكتالوج” إلى إنسانٍ متكامل من لحم ودم وروح؟ لماذا يعترف الملحد بصانع السيارة ولا يعترف بصانع الإنسان الذي هو أشد تعقيداً؟ إنه إنكار لصانع الإنسان؛ إنكار يتصف بـ”قمة الشذوذ المعرفي والعقلي والإحصائي”، كما أورد “طلعت” في كتابه. وهو ما جعله يُجزم بأن الإلحاد ليس إلا لعبة عقلية معترضة على وجود الله وليست منكرة لوجوده؛ “كفر سببه الجحود وليس غياب الأدلة”. وهو ما جعله يوقن بأن الإلحاد ليس إلا موقفاً نفسياً، لا موقفاً علمياً أو منهجياً أو فكرياً كما يدعي الملحد.

 

مصطفى محمود”: الشر مُكمل للصورة

في كتابه “حوار مع صديقي الملحد” (2015)، ركز “مصطفى محمود” ردوده على صديقه الملحد في عدة نقاط، كان أبرزها: أن الحرية الإنسانية لا تتعارض مع المشيئة الإلهية؛ وأن تقدم الغرب لم يكن بالإلحاد؛ وأن الله يسمح بالشر لحكمة.

إن إقران الحرية الإنسانية بالمشيئة الإلهية إقران عادل، كما يؤكد “مصطفى محمود”. فبُناءً على ما يختاره المرء بحريةٍ كاملة، يُسيره الله ويشاء له المقادير. بمعنى آخر، إن الله يُسير كل إنسانٍ على هوى قلبه. ومن ثم، يصير التسيير الإلهي هو عين التخيير؛ ومن ثم لا تتعارض الحرية الإنسانية مع المشيئة الإلهية. فلا ظلم ولا إكراه ولا جبر ولا قهر للإنسان. فعلى العبد النية وعلى الله التمكين؛ هكذا تلتقي رمية العبد والرمية المُقدرة من الرب؛ فتكون رمية واحدة. إن حريتنا منحة إلهية؛ لم نأخذها من الله كرهاً، بل فطر الله قلوبنا عليها، فأعتقها من كل صنوف الإكراه والإجبار.

أما بالنسبة للفرضية القائلة بأن الغرب لم يتقدم إلا بالإلحاد، فقد كان رد “مصطفى محمود” هو العكس تماماً؛ إذ أكد قائلاً إن الغرب إنما تقدم بالعلم؛ وإن الخلط الواقع بين الدين والتخلف – كما يزعم الملحدون – كان نتيجة ما حدث في العصور الوسطى بأوروبا، حيث تسلطت الكنيسة الكاثوليكية – بل استأسدت –  على العلم والعلماء.

وقد أدلى كثير من المفكرين دلوهم في هذه الحجة الإلحادية لإثبات ألا تعارض بين العلم والدين، فوجدوا أن اضطهاد الكنيسة الكاثوليكية للثورة العلمية في أوروبا المسيحية، في القرن السادس عشر الميلادي، كان إيذانا بميلاد النزعة الشكية الإلحادية الكبرى بأوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي، والذي تحول إلى أكبر عصر للشك في العصر الحديث، كما أوضح “عمرو شريف”. إنها تلك النزعة الإلحادية التي عمت أرجاء أوروبا، وأفضت إلى ترسيخ الصراع المرير أو الفصام النكد بين العلم والدين في العصر الحديث (ما بعد القرن الخامس عشر الميلادي)، حيث صار كل شيء مُفسراً من خلال منظور آلية العلم على عكس القرون الوسطى (الممتدة من القرن الخامس حتى القرن الخامس عشر الميلادي) التي تسلطت فيها الكنيسة على الملوك والشعوب، وبسطت سيطرتها على العلم والدين. فكان ترسيخ ذلك الفصام النكد بين العلم والدين في العصر الحديث بمثابة رد فعل انتقامي على اضطهادات الكنيسة للعلم والعلماء عبر القرون الوسطى.

وكان من أبرز ملاحدة العصر الحديث Auguste Comte”  أوجوست كومت” الذي أسس الفلسفة الوضعية في القرن التاسع عشر تحت شعار “ما لا يمكن رصده لا وجود له”؛ وهي الفلسفة التي قامت وتأسست عليها الفلسفة الإلحادية المعاصرة.

وكان من آثار النزعة الشكية الإلحادية – التي اجتاحت أوروبا منذ القرن السابع عشر الميلادي – تبلور ونشوء الفكر المادي الغربي الذي استبعد الكثير من العناصر الأخلاقية والإنسانية من أجل تبسيط الواقع، ومن ثم التحكم فيه، كما يؤكد “عمرو شريف” على لسان “عبد الوهاب المسيري”. إنه ذلك الفكر المادي الذي أخفى الإله، ثم أخفى الإنسان المتسامى؛ فاختزله أولاً في رؤيةٍ آلية (إسحاق نيوتن)، ثم في رؤيةٍ عضوية (تشارلز داروين)، وأخيراً في اللاشيء (فرانسيس فوكوياما). فمن عالم الفيزياء والرياضيات “إسحاق نيوتن Isaac Newton ” (القرن الـ17) الذي جعل من الكون ساعةً، ومن الإله صانعاً ماهراً لتلك الساعة، إلى عالم الأحياء “تشارلز داروين Charles Darwin ” (القرن الـ19) الذي أخفى الإله تماماً، وأرجع أصول الإنسان إلى أسلاف القردة العليا ومن قبلها الزواحف، إلى عالم السياسة “فرانسيس فوكوياما Francis Fukuyama ” (القرن الـ20) الذي قارن الإنسانية ببعض الأشكال التي خطت على الرمال ثم محتها الأمواج…وهكذا اختفى الإله والإنسان والغاية من خلق هذا الكون.

إن إقامة الصراع بين العلم والدين لا يُكذبه فقط التاريخ والعقل، بل يُكذبه أيضاً الكثير من العلماء الغربيين الذين دأبوا على ربط قوانين الطبيعة بعقل الإله، ابتداء من “ألبرت أينشتاين Albert Einstein ” ( 1955 – 1879) مروراً بعلماء العصر الحديث؛ منهم Max Planck، وWeiner Heisenberg، وPaul Dirac. لقد آمن هؤلاء العلماء بأنه لا وجود لتعارضٍ بين الدين والعلم، بل إنهما يقاتلان سوياً في نفس المعركة ضد الكفر والخرافة والشك، كما أورد “عمرو شريف” في كتاباته. ومن الجدير بالذكر، حدوث نهضة إيمانية توحيدية في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين في أواسط الفلاسفة التحليليين – أمثال “توماس تريسي Thomas Tracy ” – وإيمانهم بوجود “روح معنوية حاضرة في كل زمان ومكان”، وأن الإله هو الفاعل الكامل المحب الحكيم.

أما مسألة وجود الشر في العالم، فقد تصدى إليها “مصطفى محمود” بحُجة منطقية تتلخص في أن سماح الله جل وعلا بوجود الشر في الدنيا إنما هو لحكمةٍ عليا؛ وأن ذلك لا يعني أبداً رضاه جل وعلا عن الشر، أو أمره به. والدليل على ذلك، أنه سبحانه لن يترك أبداً أصحاب الشر دون عقابٍ؛ وإن أفلتوا من عقاب الدنيا فلن يفلتوا أبداً من العقاب الخالد في الآخرة. فالنفوس ذات الشر الأبدي ستنال عذاباً أبدياً في النار؛ وهذا من عدله سبحانه وتعالى. ولا يجوز أن نحكم على مسرحيةً من فصلٍ واحد، ولا يمكن استطلاع الحكمة كلها إلا في آخر المطاف. وفي النهاية، فإن جشع النفوس هو الذي قلب الخير شراً، وليس الله.

نعم…لقد سمح الله تعالى بوجود الشر، لكنه لم يأمر به؛ فالله كله رحمة وكله خير. ومن حكمة وجود الشر في الدنيا، التعرف على الجمال والخير؛ فلولا القبح ما عرفنا الجمال وما اشتاقت إليه تفوسنا. “إن نقص الكون هو عين كماله، مثل إعوجاج القوس هو عين صلاحيته، ولو أنه استقام لما رمى” (أبو حامد الغزالي). ويكمل “مصطفى محمود” حجته قائلاً، أنه في دستور الله وسُنته تكون الحرية مع الألم أكرم للإنسان من العبودية مع السعادة؛ ولهذا تركنا الله نخطيء ونتألم ونتعلم. وتلك حكمة أخرى من وجود الشر في الدنيا

كذلك، فإن الشر له أوجه خير كثيرة. فالمرض قد يخلف وقاية؛ والألم قد يُربي صلابة؛ وسُم الثعبان قد يُخرِج ترياقاً؛ والميكروب قد يصنع لقاحاً؛ والحروب قد تُنتج أعظم الاختراعات، مثل البنسلين والذرة والصواريخ؛ والآلام قد تفرز بشراً وتكشف قلوباً…. إذن فالشر مُكمل للصورة، كما يؤكد “مصطفى محمود”.

ومن ضمن الفرضيات أيضاً التي “تربص” لها “مصطفى محمود”, الفرضية التي تصف الدين بالجمود والتشدد. فإذا به يدفع بحُجته التي تدعم حركية الدين، واستحالة وصفه بالتحجر والجمود. فدين الله دين نظر وفكر وتطور وتعبير؛ بل هو يأمر صراحةً بالنظر والتفكر في خلق الله، مصداقاً لقوله تعالى “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق”. وكيف يكون الدين جامداً، وهو يأمر بالعلم والتعلم والتأمل والتدبر؟ فيكفي القول أن لفظة “العلم” ومشتقاتها تكررت نحو 850 مرة في القرآن، كما يؤكد “محمود”.

ويستمر “محمود” في حجته الداعمة لحركية الدين موضحاً  قانون الخلق والإيجاد، القائم على التنوع والتفاضل في كل شيء؛ في البشر، في الثمار، في البهائم.  فكيف يمكن وصف دين الله بالتحجر، وهو الذي يعترف ويقر بالتنوعات والاختلافات والتباينات بين جميع المخلوقات؟

 

محمد عمارة”: الإلحاد ردة فعل

تطرق “محمد عمارة” إلى الحديث عن جذور نشأة الإلحاد في التاريخ البشري. فيؤكد بدايةً أن الإلحاد هو الإبن الشرعي للتاريخ الغربي والحضارة الغربية والفكر الوضعي المادي الغربي. وذلك على عكس التاريخ الإسلامي الذي لم يشهد تلك الظاهرة اللهم إلا في نماذج استثنائية محدودة.

حتى تلك النماذج الاستثنائية – كما يشير “عمارة” –  كان يتم مجابهتها بالعقل والبرهان والدليل. ذلك أن الإسلام دين يحترم إعمال العقل، بل ينادي به ويدعو إليه في جميع مجالات الحياة. ومن ثم، لم يدخل الإسلام في مواجهة مع العلم والعلماء، كما حدث بالنسبة لأوروبا المسيحية في أثناء القرون الوسطى. وعلى الرغم من بروز قرن الزندقة عن طريق الشعوب الفارسية، فقد كسرتها شوكة عقلانية الإسلام.

وكما يشير “عمارة”، فإن الإلحاد – كظاهرة غربية – استقطب قطاعاً من الفلاسفة والمفكرين الغربيين والجماهير الغربية، منذ الجاهلية اليونانية وحتى العصر الحديث. وتعود الظاهرة تاريخياً إلى الفيلسوف اليوناني “ديموقريطس الأبديري” (حوالي 460 – 370 4 قبل الميلاد). وقد أصبح الإلحاد مذهباً فلسفياً عبر تطور الحضارة الغربية، حيث بلغ ذروته في الماركسية بماديتها الجدلية والتاريخية التي هيمنت على أحزاب وحكومات ومجتمعات. إن الماركسية مثلت أكبر ظواهر الإلحاد في التاريخ الإنساني، حتى جاء سقوطها المدوي في أوائل العقد الأخير من القرن العشرين. ورغم سقوط الماركسية، ظلت ظاهرة الإلحاد ملحوظة بل ومتزايدة في المجتمعات الغربية بسبب سيادة الفلسفة الوضعية المادية، وبسبب العلمانية التي نزعت القداسة عن كل مقدس.

وعدم ورود تلك الظاهرة عبر تاريخ الحضارة الإسلامية، كما يؤكد “عمارة”، إنما يعود إلى البون الشاسع بين العقلية الإسلامية وبين العقلية الغربية. فبينما احتقرت العقلية الغربية، سواء اليونانية أو المسيحية الغربية، التجربة العلمية على اعتبارها نجساً، احترمت العقلية الإسلامية المنهج التجريبي، ورفعت من شأنه. فقد خاصم العقل اليوناني التجربة العلمية باعتبارها عملاً يدوياً، لا يقدر عليه إلا العبيد؛ ثم جاء العقل المسيحي الغربي الخرافي ليخاصم التجربة العلمية للمرة الثانية؛ إلا أن هذه المرة تطورت المخاصمة إلى سلوك عدائي تجاه العلماء، أفضى إلى حرقهم أحياءً.

وكان نتيجة التضييق المسيحي الغربي على العقل والعلم هو فتح الباب نحو الإلحاد والزندقة في الوسط الغربي على عكس التاريخ الإسلامي الذي وقف في صف العقل والعلم. وكيف لا يقف التاريخ الإسلامي في صف العقل والعلم، وقد كانت معجزة الإسلام عقلية في الأساس؛ معجزة تستفز العقل للتدبر بل للشك حتى يصل الإنسان إلى اليقين. لقد استبعد الأفق الإسلامي المتميز بعقلانيته الفذة القيود الملجئة للإلحاد، كما يؤكد “عمارة”. إنها تلك العقلانية الإسلامية التي تزاوجت مع الشرع، ولم تطلقه كما حدث مع العقلية الغربية. إنها تلك العقلانية المسلمة التي اتسمت بالاتزان والوسطية الجامعة؛ فلم تنظر إلى الانسان باعتباره روحاً مجرداً أو جسداً جامداً، وإنما نظرت إليه كإنسانٍ جامعٍ لتلك الثنائيات.

فبينما كان تبجيل البحث في أسرار الكون، بل وجعله عبادة يجعل علماءها الأكثر خشية لله، أقول بينما كان هذا التبجيل هو الصبغة التي صبغت تاريخ الحضارة الإسلامية، كان احتقار البحث العلمي – في ظل الحضارة المسيحية الغربية – هرطقةً يفر أصحابها من محاكم التفتيش إلى الإلحاد.

إلا أن العصر الحديث، كما يُكمل “عمارة”، حمل في طياته – بكل أسف –  أدواتٍ غربيةٍ حديثة لاختراق الشعوب المسلمة؛ إنها أدوات وآليات الفلسفة المادية الوضعية التي مهدت التربة لإنبات نبتة الإلحاد الجديد في القرن الواحد والعشرين، في وسط مجتمعاتنا المسلمة. ومما أزاد الطين بلة، وساهم مؤخراً في شيوع الإلحاد بالمجتمعات العربية، اجتياح ثورة الاتصالات المقرونة بالعولمة الفكرية؛ ولا سيما بعد اندلاع الثورات العربية الأخيرة في عام 2011؛ حيث أفضى ارتفاع سقف الحريات وسرعة تواصل الشعوب فيما بينها، عبر محطات التواصل الاجتماعي، إلى سهولة وصول الفكر الإلحادي إلى عقول وقلوب الشباب المسلم الذي يمثل قاعدةً عريضةً في المجتمعات المسلمة.

وصفوة القول، إن الإلحاد غربي النشأة – كما يبين “عمارة” – لم يكن ظاهرةً علميةً قامت على الحُجة والدليل والبرهان، بقدر ما قامت على ردة فعل انتقامية تجاه مؤسسة الكنيسة ورجال الدين المسيحي، جراء ما اقترفوه من جُرم بحق العلم والعلماء.

 

عمرو شريف”: الحُجج العلمية في مواجهة الإلحاد

لم يكن د.”عمرو شريف” عالماً من علماء الشريعة أو الفقه أو التفسير، ليقف متصدياً ومتترساً لظاهرة الإلحاد؛ بل كان طبيباً جراحاً، أخذته الحمية الوجدانية والعقلية ليقارع الملحدين؛ الحُجة بالحُجة؛ والفكرة بالفكرة، والرؤية بالرؤية.

تلخصت أبرز حججه في الأدلة العلمية عن الألوهية: أدلة علوم البدايات، وأدلة الظواهر الكونية المُعقدة. أما الأولى، فهي أدلة علمية وتاريخية توضح أن بدايات الكون لم تكن محل صدفة أو عشوائية، كما تبين أصالة عقيدة التوحيد التي تواجدت منذ بدء نشأة الكون. وأما الثانية، فهي أدلة الظواهر الكونية المُعقدة التي يستحيل – منطقياً وعقلياً – أن تنشيء ذاتها بذاتها، دون مسبب رئيسي وراء وجودها.

كما ساق “شريف” حُججه عن حتمية غائية الوجود الإنساني، وعن استحالة خلق الكون وخلق الإنسان دون غاية. فإذا كان صانع السيارة يحدد غايةً وهدفاً من وراء صناعته للسيارة، فهل يُعقل أن يغفل صانع الإنسان والكون عن تحديد الغاية والهدف من وراء صناعته وخلقه؟

كذلك تطرق “شريف” إلى معضلة الشر والألم، التي كثيراً ما يطرحها الملحدون. فإذا به يحل تلك المعضلة بالتصور الإسلامي عن ماهية الحياة الدنيا، ومقارنتها بالحياة الآخرة. فشرور الدنيا وآلامها لها نهاية حتمية، وإن طالت. أما خير الحياة الآخرة ونعيمها الباقي – لمن صبر على تلك الآلام – فليس له نهاية. وكذلك عقاب الحياة الآخرة ونارها الخالدة – لمن داوم وأصر على فعل الشر والإجرام في الدنيا – ليس له نهاية.

ومما تطرق إليه أيضاً، قضية الخالق والمخلوق، وإلى الفارق الكبير بينهما؛ وهو الأمر الذي لا يدركه الملحد، فيتعامل مع الخالق كأنه مخلوق ويتعامل مع المخلوق كأنه خالق. إن عدم إدراك ذلك الفارق لا يناقض فقط الوحي والإيمان، بل يناقض أيضاً العقل والمنطق والفطرة.  وقد اهتم الإسلام – دين الفطرة – بإبراز ذلك الفارق، مما جعل من الإسلام ديناً متميزاً، كما يؤكد “عمرو شريف”.

 إن الملاحدة الجدد (تحت زعامة وريادة “ريتشارد دوكينز”) –والذين يُسمون أنفسهم “اللامعين” أو the Brights– يعتبرون أنفسهم سلالة مرحلة الاستنارة التي ظهرت بأوروبا في بدايات العصر الحديث لمواجهة “ظلمات” المفاهيم الدينية، بينما يعتبرون المتدينين أغبياء مُعتمين، كما يشير “عمرو شريف”. وهم يرون أن الدين وهماً خطيراً مؤدياً إلى الحروب، مما يستوجب التخلص منه، وإحلال العلم مكانه، ذلك العلم الملك، القادر على طرح البديل عن الدين؛ ويعتبرون الإلحاد منطلقاً قوياً للأخلاق. وقد ابتدعوا طرقاً جديدة للصراخ والضوضاء في مواجهة الأديان – ولا سيما الإسلام بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 – منها استخدام حافلات النقل العام في لندن عام 2009، وقد علقوا عليها إعلان عن محاضرة زعيمهم “دوكينز”، تقول: “في الأغلب ليس هناك إله، لا تقلق، واستمتع بحياتك”. وينقض “عمرو شريف” أطروحتهم، قائلاً إن الدين ليس سبباً للتطرف والحروب، مدللاً قوله بالواقع التاريخي للحروب عبر التاريخ البشري؛ حيث أن أكثر الحروب دمويةً في التاريخ الإنساني لم تكن دينيةً على الإطلاق؛ فالحربان العالميتان لم تكونا دينيتين؛ والحروب التي قادها الاتحاد السوفيتي الملحد – وأزهقت ملايين البشر – لم تكن لها أدنى علاقة بالدين.

ومن أساسيات الغكر المادي الإلحادي، كما يؤكد “شريف”، رفضه للمتتاليات الثلاث التي تقوم عليها منظومة الإيمان في المنظور الإسلامي؛ وهي متتاليات الألوهية والدين والأخلاق، حيث يأتي الإيمان بالله أولاً، ثم بالدين الذي أنزله الله، وأخيراً بالمنظومة الأخلاقية التي أنزلها الله في دينه. ورفض الفكر المادي الإلحادي لتلك المتتاليات الثلاث، يتبعه رفض آليات الفطرة والرسالة والعقل، واعتقاده في اكتساب الإنسان للحس الإلهي والديني والأخلاقي عن طريق “التطور لتحقيق المصلحة”. وفي رد “شريف” على ذلك، يستحضر ما أثبته العلم الحديث عن الإيمان بالله، باعتباره منظومة فطرية تشارك فيها آليات بيولوجية. فالإنسان يرث مجموعة من الجينات التي تجعله مستعداً لتقبل مفاهيم الألوهية والدين؛ ما أسماه العلم الحديث “فرضية جينات الألوهية” أو God Gene Hypothesis. كما أثبت العلم الحديث وجود نوع من “الذكاء الروحي” الذي يهتم بالقضايا فوق الحسية. وكذلك تأسس علم جديد تحت اسم “بيولوجيا الأعصاب” أو Neuro – Biology، وهو الذي يختص بدراسة الأسس البيولويجة للروحانيات، والذي أكد على وجود المشاعر الروحية، وأن لها مراكز عصبية بالمخ، وليست أوهاماً كما يفترض الماديون الملحدون. خلاصة القول، أثبت العلم الحديث أن المخ البشري وأن الجينات البشرية تم إعدادهما من قبل الخالق للتعامل مع المنظومة الإلهية والدينية.

ورداً على ما اتجه إليه السلوكيون في مجال علم النفس، من إنكار الإرادة الإنسانية الحرة والإيمان بالحتمية البيئية، أتى “شريف” بنتائج البحوث العلمية الأخيرة في مجالات العلوم العصبية وبيولوجيا الخلية ليثبت عدم صحة ما ذهب إليه السلوكيون. ففي مجال المخ والأعصاب، أتى “شريف” بما اكتشفه الأطباء عن عدم قدرة المريض التحكم في حركات غير إرادية، أو دفعه لمشاعر ووساوس غير إرادية، الأمر الذي يدل على وجود إرادة حرة في الإنسان السوي غير المريض الذي يستطيع بإرادته دفع كل ذلك. وفي مجال بيولوجيا الخلية، أتى “شريف” بما اكتشفه الأطباء حديثاً عن دور غشاء الخلية في برمجة الخلية، مما يدلل على قدرتنا نحن البشر على برمجة خلايانا من خلال ذلك الغشاء الذي يتأثر بظروفنا وحالتنا النفسية والروحية؛ ومن ثم نصير سادةً لمصائرنا لا ضحايا لجيناتنا. وهو ما يعد ضرباً بالنظريات البيولوجية السابقة التي كانت تنظر إلى الجينات باعتبارها مسئولة عن برمجة الخلية، أو ما يُسمى بالحتمية الجينية.

ومن النقاط الرئيسية التي ركز عليها “عمرو شريف” – عبر بحثه في ظاهرة الإلحاد – وصفه لتلك الظاهرة بكونها ظاهرة نفسية في المقام الأول. فقد بدأ  الإلحاد في أوروبا كمشكلة نفسية بالأساس، إذ لم يتحمل الأوروبي المسيحي استيعاب القهر البدني والنفسي الذي أذاقته الكنيسة الكاثوليكية لأصحاب الاكتشافات العلمية في العصور الوسطى؛ بل ولكل من تسول له نفسه البحث علمياً في الظواهر الكونية.

وإن طرح الملاحدة للأسباب المعرفية الموضوعية – التي أدت بهم إلى الإلحاد – ليس إلا قناعاً تختفي وراءه العوامل النفسية والاجتماعية مثل التقصير الأبوي واختلال رمز الأم. وقد أسس عالم النفس الأمريكي “بول فيتز Paul Vitz ” نظرية التقصير الأبوي التي رآها سبباً جوهرياً لإلحاد الإبن أو الإبنة؛ إلا أنه يؤكد، رغماً عن ذلك، بأن الإنسان ما زال يمتلك إرادةً وحريةً واختياراً.

وفي العالم الإسلامي أيضاً، يعتنق الشباب الإلحاد لأسباب نفسية محضة، كما يؤكد “عمرو شريف”. فنجد إلحاد المراهقين؛ ونجد إلحاد الندية والكبر؛ ونجد إلحاد الشهوات. وفي المُجمل، يُصنف “عمرو شريف” إلحاد الشباب العربي بالإلحاد السفسطائي الذي يتصف بالسطحية والطفولية.

ويمكننا رصد أهم ردود “عمرو شريف” على ادعاءات الملحدين، كما بينها، على الوجه التالي:

إن قواعد اللعبة (كما يقولون) يضعها الخالق، وليس للعبد المخلوق إلا الطاعة والالتزام. فأنت إذا شاركت في لعبة كرة القدم، على سبيل المثال، فعليك الالتزام بقوانينها.

إن الإنسان إذا أقدم على فعل أمر دون سبب عددناه أبلهاً، فهل يُعقل أن يخلق الإله الوجود دون حكمة أو غاية؟

الإله ليس كمثله شيء، فهو لا يفعل لغاية أو احتياج مثلما يفعل الإنسان، وليس محكوماً بالأسباب والزمان والمكان مثل الإنسان.

أعظم بلوى في قضية الإلحاد هو وزن الفعل الإلهي المطلق بميزان الفعل البشري المحدود، فتنشأ عدم القدرة على التصور.

الدليل التجريبي يُستخدم في العلوم التجريبية؛ أما إذا طلبته في قضية الألوهية فإنك تطلب دليلاً في غير موضعه، كالذي يريد أن يبصر بأذنيه.

الطبيعة تعجز عن تفسير الوجود والإنسان. إن اختزال الإنسان في مادة فقط، ونسبه إلى الطبيعة العمياء، ظلم له وإجحاف بحقه.

ليس هناك آلهة متعددة؛ فقد توصل العلماء إلى وحدة قوانين الطبيعة، وأن نمط الخلق واحد؛ من الذرة إلى المجرة.

 

براهين ضد الإلحاد

بعد استعراض مضمون أبرز الكتابات العربية والغربية عن مواجهة الإلحاد، يجدر بنا جمع وحصر أهم البراهين التي قدمتها مختلف تلك الكتابات ضد الإلحاد؛ وهي براهين تجمع بين العلمي والفلسفي والمنطقي والنفسي:

التوحيد هو نمط التدين الأول للبشرية

أثبت الأنثروبولوجيون أن التوحيد هو نمط التدين الذي تبنته البشرية منذ أول عهدها؛ وأن العقائد المزيفة التي انحرفت بالبشر عن التوحيد إنما أتت – زمانياً – بعد عقيدة التوحيد. كذلك أثبتوا أن الدين من صنع الله وليس من صنع البشر؛ فإذا كان الإنسان هو الذي صنع أو فبرك الدين – كما يدعي الملحدون – فكيف يخلق الإنسان ديناً يمنعه من تحقيق رغباته ومتعه الراهنة؟ أما فرضية “فرويد” القائلة بأن الدين قد نشأ على أساس الخوف من الطبيعة أو الشعور بالذنب، فتلك فرضية لا دليل عليها، بل إن “فرويد” ذاته لم يقدم أية أدلة عليها من مجال التحليل النفسي.

لا وجود للحتمية التي يدعيها الملحدون

أثبت العلم الحديث أصالة الحرية في عالمنا، بدليل وعينا بحريتنا؛ فحرية الإرادة هي جوهر الذات الإنسانية؛ وهو ما يفند ويدحض ما يدعيه الحتميون والجبريون من حتمياتٍ دينية وفيزيائية وسلوكية وبيولوجية، تجعل الإنسان عبداً وأسيراً لتلك الحتميات. وفي مجال العلوم العصبيىة، ثبت أن عملية اتخاذ القرار هي عملية واعية مستمرة، نابعة من إرادة حرة، وليست عمليات تمليها الخلايا العصبية.

وفي مجال الدراسات النفسية، ثبت أن لحرية الإرادة دوراً في الموازنة بين البدائل؛ بينما أكد الباحثون في الحقل الفلسفي على وجود اعتبارات أخلاقية يجب مراعاتها قبل الانقياد لنظرية الحتمية. وفي مجال بيولوجيا الخلية، أثبت العلماء مؤخراً أن “غشاء الخلية” هو الذي يتأثر بالظروف الخارجية المحيطة بالإنسان، وبحالته النفسية؛ مما يدلل على قدرة الإنسان على التحكم في نفسه وفي ظروفه المحيطة، مما يؤثر بعد ذلك على غشاء الخلية، وعلى طبيعتها، وعلى مهامها. وهذا بدوره يدحض فرضية “الحتمية الجينية” التي طالما تمسك بها الملحدون، مدعين أن الإنسان وُلد حبيساً لجيناته، وأنه لا يستطيع التصرف أو التحرك إلا في إطارها.

وقبل كل تلك الاكتشافات العلمية – التي أدحضت مبدأ الحتمية الذي طالما ارتكن إليه الملحدون – جاء القرآن الكريم معلناً صراحةً حقيقة العبد المُخير وليس العبد المُجبر (“اعملوا ما شئتم”)؛ مُقراً بالمشيئة الإنسانية وبالخيار الإنساني في إطار المشيئة الإلهية المطلقة. فمتى اختار الإنسان الخير شاء الله له الخير ويسره له؛ ومتى اختار الإنسان الشر شاء الله له الخير ويسره له؛ وهو أمر في منتهى العدل والإنصاف من لدن رب وإله هذا الكون.

الإيمان بالله فطرة وغريزة

أثبت العلم الحديث أن الإيمان بالله منظومة فطرية. فإذا كان “تشارلز داروين” قد جعلنا قتلةً وسفاحين منذ بداية نشأتنا، فما هو إذن مصدر شوقنا الفطري لفضائل العدل والرحمة والحق والجمال؟ وما هو مصدر لجوءنا الفطري لما هو كلي وأعلى وأكمل؟ كذلك، فإنه ليس من المنطق أن يعتبر الملحد عدم وجود الله مُسلمة، لا غبار عليها، دون طرح أدلة المؤمنين على وجود الله للنقاش.

قوانين الطبيعة وإطراداتها أكبر دليل على وجود الله

إن وحدة قوانين الطبيعة في الكون – وتكرارها في جميع المخلوقات – لهي أكبر دليل على وجود إله واحد لهذا الكون. فإذا كانت الصنعة واحدة فلابد أن يكون الصانع واحداً. وإذا كانت القوانين قد صُممت بتلك الدقة المتناهية – التي لم يعتريها خلل واحد منذ بداية وجودها – فلابد أن يكون وراءها مصمم حكيم مدبر، متحكم في سير تلك القوانين بقدرته الخارقة المطلقة. فالقوانين الجامدة التي ليس فيها حياة، لا يمكن أن تمتلك عقلاً لتصريف ذاتها. فهل يُعقل أن يكون للجماد عقلاً؟ وهل يمكن لمادةٍ لا عقل لها أن تنتج كائنات لها نهايات جوهرية، ولها قدرات على التكاثر، ومُشفرة كيميائياً؟

كيف لهذه القوانين أن تُحول غازات ساكنة إلى حياة ووعي وذكاء؟ سؤال طرحه “بول ديفيس Paul Davis “، متحدياً الفكر الإلحادي. يدعو “ديفيس” – الذي يعتبر حالياً من أكثر مُفسري العلم الحديث تأثيراً –  العلماء بالتنقيب لفك “رسالة الطبيعة، رسالة الله، وليست رسالتنا”. فهو يؤمن بأن وجود عقل الإله ليس فقط حجة أو عملية استدلال منطقية، وإنما هو رؤية للواقع، تفرض نفسها على الذهن العقلاني.

وها هو عالم الفيزياء “فيرمان دايسون Ferman Dayson ” – من علماء العصر الحديث – الذي قال: “كلما قمت بفحص هذا الكون، ودرست تفاصيل تكوينه، وجدت دليلاً إضافياً على أن الكون يعرف أننا قادمون”. فهو يؤمن بأن الطريقة التي خُلق بها الكون – تلك الطريقة التي توفر البيئة المناسبة لحياة الإنسان – لهي أكبر دليل على الصنعة الإلهية.

وها هو الفيلسوف ” جون فوستير John Foster” الذي كتب عن المصدر الإلهي لقوانين الطبيعة، حيث فسر الإطرادات في الطبيعة بالعقل الإلهي. وهو يعتبر من الفلاسفة المؤمنين المعدودين، حيث يشح مجال الفلسفة بتلك النوعية من الفلاسفة.

انتشار الشر في العالم هو مسئولية الإنسان وذنبه

وهب الله الإنسان الإرادة الحرة؛ تلك الهدية الخطرة التي أساء الإنسان استخدامها، فقادته إلى الإتيان بمعظم الشرور في العالم. فالأمر إذن مسئولية الإنسان الحر المُخير الذي اختار الشر، فسمح الله به ولكن لم يأمر به أبداً. لقد أذن الله بوجود الشر في الحياة الدنيا، وعلم به مُسبقاً، لكنه لم يُكره أحداً على فعله. سمح الله به في القانون الدنيوي، حيث يُترك الإنسان المُخير يفعل ما يشاء؛ ولكنه تعالى لن يسمح به في القانون الأخروي، حيث الجزاء والعقاب الأبدي للإجرام الأبدي الذي حدث في الدنيا. فإذا كان الشر في الدنيا هو الفصل الأول من الكتاب، فإن العقاب الأبدي الأخروي هو الفصل الأخير والفاصل في الكتاب، الذي لا تعديل فيه ولا تبديل.

ومن الجدير بالذكر، أن المُحصلة النهائية من الخيرات المتحققة من هبة أو هدية الحرية أعظم بكثير من سلبها. فكما أنه هناك الكثير من الشر المتحقق نتيجة منح تلك الحرية، فهناك أيضاً الكثير – بل الكثير جداً – من الخير المتحقق نتيجة منح تلك العطية المميزة للإنسان وحده دون سائر المخلوقات.

وختاماً

ليس الإلحاد فقط انفلاتاً عن الدين والفطرة والأخلاق، إنما هو طمس للهوية المسلمة، وتشويه لوجدان الأمة المؤمنة بالله ورسوله. وحينما تُطمس الهوية، ويُشوه الوجدان…يُفقَد الإنسان، فتضيع كينونته، ويشرد عنها. وكيف لأمتنا من مخرجٍ بعد فقدان الإنسان لذاته؟

 

 

المرفقات

أضف تعليقا