تواصل معنا

دليل الإحكام والإتقان (مقالة)

الوصف

تتحصل حقيقة هذا الدليل في الاستدلال على ضرورة وجود الله تعالى بما في العالم من الإتقان في الخلقة والإحكام في تفاصيله الدقيقة المذهلة، إلى درجة تبلغ بالعقول حـالة من الانبهار والذهول، وتحقق ذلك لا بد فيه من فاعل يتصف بالقدرة والحكمة وسعة العلم

مقالة

تتحصل حقيقة هذا الدليل في الاستدلال على ضرورة وجود الله تعالى بما في العالم من الإتقان في الخلقة والإحكام في تفاصيله الدقيقة المذهلة، إلى درجة تبلغ بالعقول حـالة من الانبهار والذهول، وتحقق ذلك لا بد فيه من فاعل يتصف بالقدرة والحكمة وسعة العلم.

ما يستند إليه هذا الدليل 

وهذا الدليل دليل يقيني، ومسلكه الاستدلالي يستعمله عامة العقلاء في تعاملاتهم الحياتية، لا يحتاج إلى دراسة ولا مراجعة.

الفرق بين دليل الخلق والإيجاد ودليل الإحكام والإتقان:

والفرق بين هذا الدليل ودليل الخلق الإيجاد أن هذا الدليل يستند إلى حالة الكون بعد وجوده، ودليل الخلق يستند إلى نشأة الكون في أول حدوثه، فكما أن المخلوقات يدل حدوثها من العدم على ضرورة وجود الخالق، فإن الحالة التي هي عليها بعد حدوثها من الدقة في الخلقة والبراعة في الإتقان والإبهار في التصميم والإحكام تدل على ضرورة وجود الخالق سبحانه أيضا.

ألقاب دليل الإحكام والإتقان ومناسبة كل لقب: 

يسمى: دليل التخصيص، باعتبار أن الكون خصص فيه كل جزء بصورة وتقدير مناسب لطبيعته ووظيفته المتعلقة به.

ويسمى دليل التسوية، باعتبار أن الخلق سويت صورته في أحسن شكل وأكملت صنعته بحيث لا يكون فيه خلل ولا اضطراب.

ويسمى دليل الهداية ، باعتبار أن كل جزء في الكون هدي إلى ما خلق لأجله، ويسر له الطريق لبلوغها.

ويسمى دليل النظام ، باعتبار أن المخلوقات أحكمت بنظام دقيق تسير وفقه لا ينخرم ولا يتغير .

ويسمى دليل الغاية، باعتبار أن كل مخلوق من المخلوقات وضعت له غاية يسير إليها ويتوجه نحوها.

ويسمى دليل التصميم، باعتبار أن كل الكون مصمم مبني بصورة دقيقة مذهلة مبهرة، كل جزء فيه يؤدي وظيفة دقيقة أحيطت به، ولو حصل أي تغيير في المقدار أو المكان لوقعت آثار عظيمة، وهذا الاسم مشتهر كثيرا عن العلماء المشتغلين بالعلوم التجريبية الحديثة.

وفي بيان قوة حضور [هذا الدليل] وتأثيره يقول [الملحد السابق] انتوني فلو (Antony Flew) :”لا شك أن ما كشفه العلم الحديث من معلومات هائلة في مجال قوانين الطبيعة ونشأة الكون، وكذلك نشأة الحياة وتنوع الكائنات الحية  قد أمد هذا البرهان- دليل الإتقان- بالكثير من الأدلة التي أعانتني كثيرا في الوصول إلى هذا الاستنتاج”،[1] يعني الإقرار بأن هناك إله.

مقدمات دليل الإحكام والإتقان ومكوناته:

ودليل الإتقان والإحكام قائم على مقدمين أساسيتين، هما: الأولى: أن الكون متقن ومحكم في خلقته، والثانية: أن الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل حكيم عليم.

 

أما المقدمة الأولى من مقدمات دليل الإحكام والإتقان، وهي: أن الكون متقن ومحكم في خلقته، فالمراد بها أن الكون:

رُكب بصورة معقدة جدا، لا يمكن اختزالها في أسباب راجعة إلى الكون نفسه أو إلى الصدفة.

وشكلت أحداثه وأجزاءه في مسارات دقيقة صارمة، بحيث أن كل جزء منه يؤدي وظيفة دقيقة خاصة به.

وقدرت مكوناته بمقادير دقيقة، بحـيث أن أي زيادة فيها أو نقصان يؤدي إلى اختلافات كبيرة ربما تؤول إلى فساد الكون كله.

وقد تنوعت الأدلة والشواهد الدالة على صحة هذه المقدمة، وهي منقسمة إلى نوعين أساسيين:

 

أما النوع الأول : فهو الدليل الحسي المباشر، فكل عاقل يشاهد أصنافًا منوعة من الإتقان في الوجود، وقد كان هذا النوع من الاستدلال منتشراً عند الأقدمين قبل ظهور العلم التجريبي، وفي بيانه والاعتماد عليه يقول الخطابي: ” أنك إذا تأملت هيئة هذا العالم ببصرك ، واعتبرتها بفكرك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه ساكنه من آلة وعتاد:

 

فالسماء مرفوعة كالسقف

والأرض ممدودة كالبساط،

والنجوم منضودة كالمصابيح

والجواهر مخزونة كالذخائر،

النبات مهيأ للمطاعم والملابس والمشارب،

وصنوف الحيوان مسخرة للمراكب، مستعملة في المرافق.

والإنسان كالمُمَلّك البيت المخول ما فيه ، وفي هذا كله دلالة واضـحة على أن العالم مخلوق، بتدبير وتقدير ونظام، وأن له صانعًا حكيمًا، تام القدرة بالغ الحكمة”.

وأما النوع الثاني: فهو الدليل العلمي التجريبي، فقد كشف العلماء مع التطورات العلمية الحديثة أصنافا وأشكالا مبهرة من الإتقان والدقة والتقدير في الكون، ودبجوا مقطوعات مطولة في وصف ذلك الإتقان، وتفننوا في توضيح الإحكام وتناغمه ودهشته.

 

والإقرار بإتقان صنعة الكون وإحكامه ليس خاصا بالعلماء المؤمنين، بل أقر به أكثر العلماء الملاحدة، يقول العالم الفيزيائي المعاصر بول ديفيز (Paul  Davies ):”حتى العلماء الملحدون الذين يشكلون جزءً صغيرا جدا وهشا من الكون يدبجون قصائد المديح في ضخامته وعظمته وتناغمه وأناقته وعبقريته”[2] 

 

ومن الملاحدة الذين توسعوا في شرح الإتقان والإحكام في الكون: العالم الفيزيائي المعاصر: ستيفن هوكنج (Stephen Hawking)، فإنه أولى هذه القضية اهتمامًا بالغًا، وكرر مرارًا بأن الكون متصف بالضبط الدقيق المبهر، ويقول:”معظم الثوابت الأساسية في نظرياتنا تبدو مضبوطة بدقة، بمعنى أنها لو عدلت بمقادير بسيطة، فإن الكون سيختلف كيفيا، سيكون في حالات عديدة غير ملائم لتطورات الحياة”[3]، ثم يقول:” يبدوا أن كوننا وقوانينه كليهما مصممان على يد خياط ماهر لدعم وجودنا”[4].

 

وقد أكثر العلماء التجريبيون من الحديث عن أشكال الدقة والإحكام في الوجود، وقدموا أدلة وبراهين متعددة على ذلك، ومظاهر الضبط الدقيق في الوجود ومشاهده شاملة لمجالات وجودية كثيرة:

 

المجال الفلكي

والمجال الفيزيائي

والمجال الحيوي المتعلق بالحياة ومجرياتها ومعلوماته

وغير ذلك من المجالات.

وقد تحدث أصحاب كل اختصاص عما اكتشفوه من ذلك التصميم المبهر والإتقان المذهل، سنقتصر هنا على مظاهر الإحكام في مجال القضايا الكونية الفيزيائية.

 

فمن أهم القضايا التي أبهرت العلماء بإتقانها العجيب : قضية الثوابت الكونية ، فالكون ضبط بقوانين دقيقة ثابتة صارمة تشترك فيما بينها في تسيير مجريات الكون كلها ليكون مناسبا للعيش والحياة فيه، ولو وقع أي تغير في تلك الثوابت ولو قليلا فإنه من المستحيل أن يكون على صورته التي هو عليها الآن ، وقد بدأ حديث العلماء عن دلالة العلم التجريبي على دقة الكون وروعة قوانينه منذ عقود ، فكتب العالم الأمريكي الشهير كريسي موريسون (Cressy Morrison) كتابه “الإنسان لا يقوم وحده” الذي ترجم إلى العربية بعنوان” العلم يدعو للإيمان” ، وانطلق منه في إثبات وجود الله من أن عالمنا الذي نعيش فيه عالم فذ محكم البناء ومتقن التصميم بدرجة مدهشة جدا ، ثم توسع كثيرا في شرح مشاهد الإتقان في العالم ، فذكر أن “دوران الأرض حول محورها قد حدد بالضبط لدرجة أن اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن أن يقلب التقديرات الفلكية”[5]، وتحدث عن الثوابت الكونية المتعلقة بالكواكب الأخرى، كالزهرة والمريخ وعطارد وغيرها، وعن النسب الدقيقة في ضبط الهواء في الكون والغازات المنتشرة فيه[6].

 

وأما فرانك ألين ( Frank Allen ) – عالم الطبيعة البيولوجية – فإنه يتوسع في الكشف عن مظاهر الإتقان في الكون فيقول :” أن ملاءمة الأرض للحياة تتخذ صورا عديدة ، لا يمكن تفسيرها على أساس المصادفة أو العشوائية ، فالأرض كرة معلقة في الفضاء تدور حول نفسها، فيكون في ذلك تتابع الليل والنهار ، وهي تسبح حول الشمس مرة في كل عام، فيكون في ذلك تتابع الفصول الذي يؤدي بدوره إلى زيادة مساحة الجزيء الصالح للسكنى من سطح كوكبنا، ويزيد من اختلاف الأنواع النباتية أكثر مما لو كانت الأرض ساكنة، ويحيط بالأرض غلاف غازي يشتمل على الغازات اللازمة للحياة، ويمتد حولها إلى ارتفاع كبير يزيد على ٥٠٠ ميل ويبلغ هذا الغلاف الغازي من الكثافة درجة تحول دون وصول ملايين الشهب القاتلة يومياً إلينا، منقضة بسرعة ثلاثين ميلا في الثانية، والغلاف الذي يحيط بالأرض يحفظ درجة حرارتها في الحدود المناسبة للحياة، ويحمل بخار الماء من المحيطات إلى مسافات بعيدة داخل القارات ، حيث يمكن أن يتكاثف مطرا يحيي الأرض بعد موتها، والمطر مصدر الماء العذب، ولولاه لأصبحت الأرض صحراء جرداء خالية من كل أثر للحياة، ومن هنا نرى أن الجو والمحيطات الموجودة على سطح الأرض تمثل عجلة التوازن في الطبيعة“[7]، ثم طفق يتحدث عن الشروط الضرورية لوجود الحياة في الأرض ، وكيف أنه شرط ضبط بصورة دقيقة جدا .

 

وما زالت مظاهر التصميم العظيم المبهر في الكون تتجلى يوما بعد يوم ، وما زال العلماء التجريبيون يؤكدون مرة بعد مرة البرهنة العلمية الصادقة على دقة الكون ودهشته وروعته، يقول العالم الفيزيائي المعاصر بول ديفيز ( Paul  Davies ) بعد أن شرح شروط إمكان الحياة في الكون وامتلاك كوننا لها :”ولو أن أية خاصية أساسية للكون من خصائص الذرات اختلفت لكان من المحتمل جدا أن تصبح الحياة مستحيلة… لقد بدا لهويل- ملحد وعالم بريطاني شهير – عقلا فائقا كان يلعب بقوانين الفيزياء، وكان محقا في انطباعه، ففي الظاهر يبدو الكون كأنه صمم من قبل خالق عاقل بوضوح لنشر مخلوقات عاقلة”[8].

 

ويقول الملحد الفيزيائي ستيفن هوكنج (Stephen Hawking) مؤكدا المعاني السابقة :”إن نظامنا الشمسي لديه خصائص أخرى محفوظة ، لم يكن من الممكن أن تتطور أشكال الحياة المعقدة من دونها”[9]، ثم طفق في شرح ذلك بكلام مطول  وذكر “أنه لو كان التفاوت المركزي لمدار الأرض قريبا من الواحد الصحيح فإن محيطاتنا ستغلي عندما تصل لأقرب نقطة من الشمس، وستتجمد تماما عندما تصل لأبعد نقطة ، الأمر الذي يجعل إجازات الشتاء والصيف غير ممتعة، إن التفاوتات المركزية المدارية الكبيرة لن تفضي للحياة ، ولهذا فنحن محظوظون بأن يكون لدينا كوكب تفاوته المركزي أقرب من الصفر.

 

ونحن محظوظون بالعلاقة بين كتلة شمسنا وبين المسافة التي تبعدنا عنها … فإن كانت كتلة شمسنا أقل أو أكثر من عشرين في المائة، فإن الأرض ستكون أبرد من المريخ أو أسخن من الزهرة اليوم”[10].

 

وأما أنتوني فلو (Antony Flew) – الفيلسوف الإنجليزي المشهور – فإنه ذكر أن أحد أهم أسباب رجوعه عن الإلحاد ما اكتشفه العلم التجريبي من إتقان هائل في مجال الطبيعة ونشأة الكون والحياة، وتنوع الكائنات الحية ، وذكر أن الكـون أعد وصـمم لاستقبال الحياة عليه بدقة باهرة، ثم بين ذلك بمثال طريف، فقال :”تصور أنك نزلت في إحدى رحلاتك بأحد الفنادق، وعندما دخلت غرفتك وجدت أن الصورة المعلقة فوق السرير نسخة مطابقة للصورة التي علقتها منذ سنوات فوق فراشك في بيتك ، كذلك السجادة التي تغطي أرضية الغرفة ، بل إنهم يضعون في المزهرية نوع الزهور نفسه التي تفضله ، وعلى المنضدة في ركن الغرفة وجدت الطبعة الأخيرة من ديوان الشعر الذي تفضل القراءة فيه من حين لآخر ، كما وجدت الصحيفة التي اعتدت قراءتها يوميا  وداخل الثلاجة وجدت أنواع المشروبات والشيكولاته التي تحبها ، كما أن زجاجة المياه المعدنية من نفس النوع الذي تستخدمه في وطنك ، وعندما شغلت جهاز التليفزيون وجدت ان الإرسال الداخل للفندق يعرض باستمرار الأفلام المفضلة عندك ، كما تذيع الإذاعة الداخلية المقطوعات الموسيقية التي تحبها ، وفي الحمام وجدت الحوائط قد غطت بالقيشاني من نفس درجة اللون الفيروزي التي تفضله ، كما وجدت على أحد الأرفف نفس الشامبو والصابون اللذين اعتدت على استخدامهما .

 

وكلما جلت ببصرك وجدت حولك تطابقا بين ما تحبه واعتدت عليه وبين ما وفّرته لك إدارة الفندق، لا شك أن احتمال المصادفة يتناقض تدريجيا حتى يثبت في يقينك أن أحدا قد أطلع إدارة الفندق على تفاصيل حياتك ودقائق رغباتك” [11]. 

 

وأما المقدمة الثانية من مقدمات دليل الإحكام والإتقان، فهي أن الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل، فالمراد بها: أن مشاهد الإحكام التي في الوجود يتعذر أن تقع بغير فاعل عالم مختار مريد حكيم قادر يقوم بتصميمها وتقديرها؛ لكونها تفاصيل معقدة ومتداخلة جدا، وتصاميم مبهرة مذهلة.

 

وهذه المقدمة من أجلى المقدمات وأظهرها في العقول، ويدل على صحتها وضرورتها أمران:

 

الأمر الأول: الضرورة العقلية؛ وذلك أن الإحكام والإتقان في حقيقته فعل من الأفعال، والعقل الضروري يدل على أن الفعل لا بد له من فاعل يقوم به؛ إذ يستحيل أن يوجد فعل في الوجود من غير فاعل، كما سبق الاستدلال عليه في الدليل السابق، بل الإتقان والإحكام ليس مجرد فعل، وإنما هو فعل مخصوص بحالة تركيبية خاصة، وهذه الخصوصية تتطلب أن يكون فاعله متصف بصفات كمالية عالية متناسبة مع حالة ذلك الفعل.

وأما الأمر الثاني: فهو الضرورة الرياضية، ففضلا عن أن الضرورة العقلية تدل على استحالة وجود الإتقان بغير فاعل حكيم عليم قادر مريد، فإن الحسابات الرياضية تدل على ذلك أيضا وتؤكده.

وقد طبق نديم الجسر هذا المثال على الإبر المنظمة في حوار شيق بينه وبين شاب متشكك مصدق بالصدفة أسماه في الحوار حيران بن الأضعف ، وسننقله هنا مع طوله النسبي لما فيه من الدلالة البليغة على بيان قوة العملية الحسابية في الكشف ضرورة وجود الخالق الحكيم العليم المريد القادر ، فيقول الشيخ نديم :”الآن جاء دور الإبر، خذ هذا اللوح  واغرز فيه إبرة ، وضع في ثقبها إبرة أخرى ، وقل لي يا حيران : إذا رأى إنسان عاقل هاتين الإبرتين ، وسأل كيف أدخلت الثانية في ثقب الأولى ، فأخبره إنسان معروف بالصدق أن الذي أدخلها رجل ماهر قذف بها من بعد عشرة أمتار، فاستطاع أن يدخلها في شق الإبرة الأولى، ثم أخبره إنسان آخر معروف بالصدق أيضا أن الذي ألقاها صبي صغير ولد من بطن أمه أعمى  فوقعت في الشق بطريق المصادفة فأي الخبرين يصدق؟!

 

حيران: إنه ولا ريب يميل إلى تصديق الخبر الأول، ولكنه أمام صدق المخبرين يرى أن المصادفة ممكنة، فلا يجزم بترجيح أحد الخبرين على الآخر.

 

الشيخ: ولكن إذا رأى هذا الرجـل إبرة ثالثة مغـروزة في شق الثانية أيضا، فهل يبقى عدم الترجيح على حاله؟!

 

حيران: كلا، بل يتقوى ترجيح القصد على المصادفة، ولكنه على كل حال يبقى ترجيحا ضعيفا.

 

الشيخ: ولكن إذا رأي الرجل أن هناك عشر إبر، كل واحد منها مغروزة في ثقب الأخرى التي تليها، فهل يبقى ترجيح فكرة القصد على ضعفه؟!

 

حيران: كلا، بل يتقوى عنده ترجيح القصد حتى تكاد فكرة المصادفة أن تتلاشى.

 

الشيخ: ولكن لو جاء إنسان من أولئك يصدق فيهم القرآن :(وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) وأخذ يجادله في معنى الاستحالة العقلية والاستحالة العادية، ويبرهن له على أن الصدفة ليست مستحيلة لا عقلا ولا عادة، ولكنها تكون أحيانا مستبعدة، فإن صاحبنا العاقل لا بد أن يذعن.

 

حيران: إن العقل يذعن، ولكن القلب يميل إلى ترجيح القصد.

 

الشيخ : ولكن إذا ترقينا في تعقيد الأحجية ، وقلنا : إن الإبر العشر مرقمة بخطوط لكل واحدة منها رقم ، من الواحد إلى العشرة ، قيل لنا في الخبر : إن الصبي الأعمى أعطي كيسا فيه هذه الإبر العشر مخلوطة مشوشة ، وأنه كان يضع يده في الكيس ويستخرج الإبر تباع على ترتيب أرقامها بطريق المصادفة ، ويلقيها فتقع الأولى في شق المغروزة في اللوح ، وتقع الثانية في الأولى، والثالثة في الثانية ، والرابعة في الثالثة ، وهكذا حتى أتم الإبر العشر بعضها في بعض ، على ترتيب أرقامها ، وأن ذلك قد حصل بطريق المصادفة ، وجاء ذلك الإنسان المجادل يحاول أن يبرهن على أن إمكان المصادفة لم يزل موجودا وغير مستحيل عقلا ، فماذا يكون موقف صاحبنا العاقل مع هذا المجادل؟

 

حيران: لا ريب في أنه لا يصـدقه؛ لأن المصـادفة بهذا التتابع والتعاقب بعيدة جدا جدا وإن لم تكن مستحيلة.

 

الشيخ: بل إنها في مجال الأعداد الكبرى تصبح مستحيلة بداهة يا حيران.

 

حيران: أعتقد أن هذه البداهة تأتينا مما جربناه في الحياة من ندرة تكرر المصادفات وتعاقبها.

 

الشيخ: كلا، ولكن هذه البداهة تعتـمد في أعـماق العقل الباطن على قانون عقلي رياضي لا يمكن الخروج عنه.

 

حيران: ما هو هذا القانون يا مولاي؟

 

الشيخ: إنه قانون المصادفة الذي يقول:”إن حظ المصادفة من الاعتبار يزداد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الإمكانات المتكافئة المتزاحمة”، فكلما قل عدد الأشياء المتزاحمة، ازداد حظ المصادفة من النجاح، وكلما كثر عددها قل حظ المصادفة، فإذا كان المتزاحم بين شيئين اثنين متكافئين، يكون حظ المصادقة واحد ضد اثنين، وإذا كان التزاحم بين عشرة يكون حظ المصادفة بنسبة واحد ضد عشرة؛ لأن كل واحد له فرصة للنجاح مماثلة لفرصة الآخر، بدون أقل تفاصل طبعا.

 

وإلى هناك يكون الحظ في النجاح قريبا من المتزاحمين ، حتى لو كانوا مائة أو ألفا ، ولكن متى تضخمت النسبة العددية تضخما هائلا ، يصبح حظ المصادفة في حكم العدم ، بل المستحيل؛ ذلك لأنه إذا اتفق للصبي الأعمى أن سحب أول مرة الرقم (١) ، قلنا إن حظ المصادفة للرقم (١) تغلب على الأعداد الأخرى المتزاحمة معه بنسبة واحد ضد عشرة ، وأما إذا اتفق له أن سحب العددين (١و٢) بالتتابع قلنا : إن حظ المصادفة للعدد الثاني هو بنسبة واحد ضد مائة؛ لأن كلا من العشرة يزاحم للرتبة الثانية ضد عشرة ، فيصح التزاحم بين مائة  وإذا اتفق أن سحب الصبي الأعمى الثلاث (١و٢و٣) على التوالي ، قلنا : إن حظ المصادفة بنسبة واحد ضد ألف ؛ لأن كلا من العشرة يزاحم ضد مائة ، وهكذا .

 

فإذا افترضنا أن الصبي سحب الإبر العشر على ترتيب أرقمها، فإن حظ المصادفة يصبح بنسبة واحد ضد عشرة مليارات”.

 

ومن الأمثلة على ذلك:

 

مثال البروتين ، فقد قام العالم الرياضي السويسري تشارلز بوجين بحساب العوامل التي يمكن من خلالها تكون بروتين واحد بالصدفة ، فوجد أن ذلك يتطلب نسبة ١: ١٠ ١٦٠ ، أي بنسبة واحد إلى رقم عشرة مضروب في نفسه مائة وستين مرة، وهو رقم لا يمكن النطق به أو التعبير عنه، وهو عند علماء الرياضيات يساوي صفر ، لأن أعلى نسبة للاحتمال عندهم ١: ١٠ ١٥٠، واكتشف أن كمية المادة التي تلزم لحدوث هذا التفاعل بالمصادفة أكثر مما يتسع له كل هذا الكون بملايين المرات، واكتشف أيضا أن تكـوين هذا الجزئي على سطـح الأرض بالمصـادفة يتطـلب بلايين لا تحصى من السنوات ، قدّرها بأنها عـشرة مضـروبة في نفـسها ٢٤٣ مرة من السنين ، وهذا شيء لا يمكن أن يتصور[12].

مثال القردة، فقد قام الدكتور شرويدر بحساب الاحتمالات التي يمكن من خلالها كتابة قصيدة سوناتا لشكسبير عن طريق ضرب القردة على مفاتيح الكتابة بطريقة عشوائية، وأحصى عدد حروف القصيدة، فإذا هي ٤٨٨ حرفًا، وعدد أزرار لوحة المفاتيح فإذا هي ٢٦ زرا، فالاحتمال إذن يساوي واحد مقسوم على ٢٦ مضروبا في نفسها ٤٨٨ مرة، والنتيجة: ٢٦-٤٨٨، وهو ما يعادل: ١٠-٦٩٠، أي: واحد بعده ستمائة وتسعين صفر!!

وهذا عدد كبيرًا جدًا، فقد أحصى العلماء عدد الجسيمات في الكون – الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات- فوجودها: ١٠ ٨، أي: واحد بعده ثمانون صفرًا، ومعنى هذا أنه ليس هناك جسيمات تكفي لأجراء المحاولات لكتابة قصيدة سوناتا بالصدفة فقط، فكيف بأحداث العالم الأخرى، فإن حدوثها بالصدفة ممتنع؛ لأن المدة التي تحتاجها تفوق عمر العالم وحجمه بملايين المرات[13].

 

فـ[الضرورة العقلية] وهذه الحسابات وغيرها تدل على أن الإتقان والإحكام في الوجود لا بد له من فاعل عالم قادر مختار.

 

فإذا ثبت أن الكون متقن ومحكم، وثبت أن الإتقان والإحكام لا بد له من فاعل، فإن الذهن الإنساني ينتقل مباشرة إلى النتيجة من غير توقف أو تردد.

 

ودليل الإتقان لا يدل على ضرورة وجود الخالق فقط، وإنما يدل على ضرورة أن يكون الخالق متصفا بصفات عديدة ،

 

كصفة العلم

والقدرة

والحكمة

والإرادة

والمشيئة

والحياة

وذلك لأن الإتقان والإحكام فعل متصف بالدقة والتركيب المعقد، ووضع كل شيء في موضعه المناسب له، وهذه الصنائع تتطلب أن يكون الفاعل للإتقان متصفاً بالعلم حتى يمكنه إدراك كل ما يتعلق بصفات الأجزاء وطبائعها، وأن يكون متصفا بالقدرة حتى يمكنه التأثير على كل مكون، ومتصفا بالإرادة حتى يمكنه رسم صورة الإتقان وترجيحها، وكل ذلك يتطلب أن يكون متصفا بالحياة؛ لاستحالة الاتصاف بذلك الصفات بدون الحياة .

 

والنصوص الشرعية في الإسلام اهتمت به كثيرا، وجاءت إشارات كثيرة في القرآن الكريم في الدلالة إلى مقدماته ومشاهده، فانتهى أمره إلى أن يكون دليل عقلي شرعي في آن واحد.

المرفقات

أضف تعليقا