تأليف
الوصف
يتذرع كثير من مشجعي دورات هذه الأفكار الوافدة وعلاجاتها ورياضاتها بذرائع متنوعة ويتعلقون بنصوص وأمور اشتبهت عليهم لم يفهموا المراد منها فهماً صحيحاً ، وحقيقة ما أوقعهم في هذه المخالفات أحد ثلاثة أمور ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : ” عمدة من يخالف السنة بما يراه حجة ودليلا ثلاثة أمور : إما احتجاج بقياس فاسد ، أو نقل كاذب ، أو خطاب شيطاني“.
مقالة
يتذرع كثير من مشجعي دورات هذه الأفكار الوافدة وعلاجاتها ورياضاتها بذرائع متنوعة ويتعلقون بنصوص وأمور اشتبهت عليهم لم يفهموا المراد منها فهماً صحيحاً ، وحقيقة ما أوقعهم في هذه المخالفات أحد ثلاثة أمور ذكر
ها شيخ الإسلام ابن تيمية فقال : ” عمدة من يخالف السنة بما يراه حجة ودليلا ثلاثة أمور : إما احتجاج بقياس فاسد ، أو نقل كاذب ، أو خطاب شيطاني“.
وفي هذه الصفحات سنقف وقفة توضيحية موجزة مع بعض أقوالهم التي يبررون بها أخذهم بهذه الأفكار والمناهج ، تلك الأقوال التي شكّلت من بعدهم شبهاً عند عامة المسلمين:
الشبهه (١) قولهم : هي أمور دنيوية حياتية
قولهم : هي أمور دنيوية حياتية ، فالأخذ بها من باب : أنتم أعلم بأمور دنياكم
الرد :
هذه الجملة جزء من حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حادثة تأبير النخل المشهورة ، وفهمها ينبغي أن يكون في ضوء القصة وسياقها لا بحسب الهوى والرغبة ، فأمور دنيانا هي أمور صناعتنا وزراعتنا وسائر الأمور المتعلقة بالأمور الدنيوية البحتة من إدارة ، وتخطيط ، وتكنولوجيا ، ومواصلات ، واتصالات ، وتقنيات ، ونحوها ، أما أمور تربية ذواتنا وتزكية أنفسنا ، وتهذيب أخلاقنا ، وسمو أرواحنا فهي من الأمور الدينية التي بعث الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم بمنهج كامل شامل نافع ، والقول بغير هذا ينبع من غفلة عن كنوز الوحيين أوحصر لمفهوم الدين في الشعائر التعبدية .
قال ابن تيمية موضحاً هذه الأمر : “وقد يكون علم من غير الرسول لكن في أمور دنيوية مثل : الطب والحساب والفلاحة والتجارة وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها مأخذه عن الرسول ، فالرسول أعلم الخلق بها وأرغبهم في تعريف الخلق بها وأقدرهم على بيانها وتعريفها ” .
وقد قال جلّ من قائل سبحانه ممتناً على الأمة بنعمة الدين الخاتم : ” اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ” .
والسلف رضوان الله عليهم كانوا يفحصون كل العلوم في ضوء ثوابتهم حتى تلك التي هي في أصلها حيادية ففي علم الفلاحة أخذوا المتعلق بالزرع والبذر والغرس ونحوه ونبذوا المتعلق بخصائص روحانية مدعاة للنباتات والأغذية على شاكلة روحانية الأفلاك ، وهكذا في سائر العلوم الحيادي
الشبهة الثانية
استدلالهم بالقول المشهور : اطلبوا العلم ولو في الصين:
الرد :
وهذا القول من الحكم المتداولة ، ومعناه صحيح فالعلم يؤخذ من أي مكان والرحلة في طلب العلم رحلة مباركة ، ولكن لابد من وضع ضابط يضبط “العلم” ، فليس كل علم يدرس ويؤخذ ، بل لابد أن يكون علماً نافعاً صحيحاً ، وألا يكون علماً محرماً في ذاته ( مثل الماورائيات والميتافيزيقيا “الغيب” ، والخصائص والطبائع المدعاة للأحجار والأشكال ونحوها ، أو السحر ، والكهانة والعرافة وغير ذلك ) ، أو محرماً لما يجر إليه من مفاسد أو صدّ عن ذكر الله عز وجل ، قال بعض أهل العلم : ” علم لا يقربك إلى الله لن ينجيك غداً من جهنم ” . وواقع كثير من هذه العلوم الوافدة لا يخرج عما ذُكر إلا قليلا ؛ فما يسمى بالطاقة وتطبيقاتها وتفريعاتها ما هو على الحقيقة إلا جهل ، و تخرص وضلالات ، وإن احتوى على شيء من الحق في ثناياه – كما ثبت بتقصي أصوله وفروعه وتطبيقاته – فغالبه مخالف لصحيح النقل ولصريح العقل ، فهل بعد هذا يسمى علماً ويطلب من أصقاع المعمورة!
الشبهة الثالثه
تذرعهم بـ : الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها
الرد :
وهذا كلام حق ولكن ينبغي أن يفهم فهماً صحيحاً ، فلابد من عرض هذه الأفكار الوافدة ومعتقداتها وتطبيقاتها على معنى الحكمة الصحيح في ديننا ؛ فما كان موافقاً للكتاب والسنة بفهم صحيح وقياس مستقيم لا بتعسف وتأويل باطل ؛ كان حكمة حقاً ، وليست الحكمة هي أقوال وأفعال شاعت تسميتها بالحكمة عند من لقبوا النساك والرهبان بل وبعض المجاديب بـ“الحكماء الأوائل” !
فالحكمة ضالة المؤمن حقاً وسيجدها حتماً في أكمل صورها إذا أقبل على مصادر الحكمة الصحيحة : كتاب الله وسنة رسول الله .
أما الضلالة فليست ضالة المؤمن أبداً ، بل هي ما يحذره ويتوقاه ، والعبرة بحقائق الأمور لا بالدعاوى القائمة عليها ولن تكون الضلالة حكمة لمجرد تسميها باسمها وتوشحها بلباسها ، فالحكمة ما أثبت النقل الصحيح أو العقل الصريح أنها حكمة حقاً ، أما زبالة الأذهان ، وآراء الضالين ، وفلسفات المغضوب عليهم فليست حكمة بحال !!
ولنا في الصالحين أسوة ، قال أبي سليمان الدراني : إنه لتقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين : الكتاب والسنة . وقال أبو عمرو بن نجيد : كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل
الشبهة الرابعة
قولهم : الأخذ بالأسباب عبادة ، وما هذه الأمور إلا أسباباً نعبد الله بالأخذ بها
الرد :
هذه العبارة جزء قاعدة من قواعد السلف في الاعتقاد تتمتها ( والاعتماد على الأسباب شرك يرق ويغلظ ) فهي كلام حق وقاعدة صحيحة ولكن لابد من نظر صحيح في الأسباب والمسببات فقد ضل في هذا الباب كثير من الناس ، والمهتدون فيه – باب الأسباب والمسببات– لا يثبتون سبباً إلا إذا ثبت بنقل صحيح أو دل عليه عقل صريح وهم يقدّمون ما ثبت من الأسباب المشروعة على غيره لإيمانهم وتمام توكلهم على ربهم سبحانه وتعالى
يقول ابن تيمية في وصفهم :”يؤمنون بأن الله يرُدُّ بما أمرهم به من الأعمال الصالحة والدعوات المشروعة ما جعله في قوى الأجسام والأنفس ، ولا يلتفتون إلى الأوهام التي دلت الأدلة العقلية أو الشرعية على فسادها ، ولا يعملون بما حرمته الشريعة ، وإن ظن أن له تأثيراً ، وبالجملة فالعلم بأن هذا كان هو السبب أو بعض السبب ، أو شرط السبب ، في هذا الأمر الحادث قد يعلم كثيراً ، وقد يظن كثيراً ، وقد يتوهم كثيراً وهماً ليس له مستند صحيح ، إلا ضعف العقل “
وقال : “جميع الأمور التي يظن أن لها تأثيراً في العالم وهي محرمة في الشرع كالتمريجات الفلكية ( تخرصات الفلكيين في تأثير الأفلاك ) ، والتوجهات النفسانية ، كالعين ، والدعاء المحرم ، والرقى المحرمة ، أو التمريجات الطبيعية ( ما ركب عليه البدن من الطبائع) ونحو ذلك ، فإن مضرتها أكثر من منفعتها حتى في نفس ذلك المطلوب ، فإن هذه الأمور لا يطلب بها غالباً إلا أمور دنيوية ، فقلّ أن يحصل لأحد بسببها أمر دنيوي ، إلا كانت عاقبته فيه في الدنيا عاقبة خبيثة ، دع الآخرة. والمخفق من أهل هذه الأسباب أضعاف أضعاف المنجح ، ثم إن فيها من النكد والضرر ماالله به عليم فهي في نفسها مضرة ، ولايكاد يحصل الغرض بها إلا نادراً وإذا حصل فضرره أكثر من نفعه “.
الشبهة الخامسة
تذرعهم ببعض منافع حدثت لهم أو على يديهم ، وقولهم : ثبت نفع هذه التطبيقات بالتجربة
الرد :
لا شك أن الشيطان يزين الباطل ويجمله بما يظهره نافعاً وقد يحقق بأسباب الباطل نفع ظاهر ، ومن ذلك ما بينه ابن مسعود رضي الله عنه في قصته مع امرأته عندما كانت تجد النفع عندما تتداوى بغير المشروع لمرض عينها فتبرأ فقال لها : ” إنما ذلك عمل الشيطان كان ينخسها بيده فإذا رقيتها- رقية غير مشروعة- كفّ عنها، إنما يكفيك أن تقولي : أذهب الباس رب الناس اشف وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقماً ”
ثم أنه لابد لإثبات النفع من منهجية علمية ، وفهم دقيق لقانون السببية ، فليس الاقتران الذي يحدث بين حصول نفع وتطبيق أمر ما كافٍ على القول بأنه سببه ، قال ابن تيمية : “ أن الشيطان زين لهم نسبة الأثر إلى مالا يؤثر نوعاً ولا وصفاً ؛ فنسبته إلى وصف قد ثبت تأثير نوعه أولى أن يزين لهم ” ، ثم أن مقياس النفع عند المسلم لا يطلق على النفع الدنيوي المجرد ، بل يخضع لتصورات المسلم الممتدة للحياة في الدنيا والآخرة فالنفع الدنيوي البحت لا يمكن اعتباره نفعاً إلا إذا لم يكن له ضرر ديني .
لهذا بين ابن تيمية يرحمه الله أن الذي ثبت نفعه حقاً بالتجربة هو الدعاء المشروع فقال : “دعاء الله وحده لا شريك له دل الوحي المنـزل والعقول الصحيحة على فائدته ومنفعته ، ثم التجارب التي لا يحصي عددها إلا الله فتجد المؤمنين قد دعوا الله وسألوه أشياء أسبابها منتفيه في حقهم ، فأحدث الله لهم تلك المطالب على الوجه الذي طلبوه ، على وجه يوجب العلم تارة والظن الغالب الأخرى “.
وثمة أمر آخر وهو أنه ليس كل مافيه نفع يكون الأخذ به مباح، فالنفع ليس ميزان القبول والرد وإنما شرع الله هو الميزان فمن المعلوم أن السحر الذي قد يؤدي قطعاً لحصول نتائج مطلوبة ومنافع دنيوية متيقنة عند أصحابه محرم في الشريعة وكذا في الخمر والميسر ، وعماد ذلك التفريق بين القدر الكوني والقدر الشرعي قال ابن تيمية : “أمور قدرها الله قدراً كونياً وهو لا يحبها ولا يرضاها وتكون فتنة لبعض خلقه ومن ذلك الأسباب المحرمة المحصلة لنفع ما فإن الأخذ بها موجب لعقابه وسخطه ، بينما الأمور التي قدرها الله قدراً شرعياً فهو يحبها ويرضاها كالدعاء المشروع والصلاة والصيام ونحوه”
الشبهة السادسة
قولهم هذه التطبيقات وأفكارها تتوافق مع الدين ، وتقود لما تدل عليه نصوص الوحي
الرد :
الحق أن كثيراً مما في هذه الأفكار وتطبيقاتها يتعارض مع الدين وينقضه وإن اشتبه على بعض الناس ، كما أن فيه بعض ما يتوافق مع الدين إذ أن العقل الصحيح – كما هو معلوم– يمكن أن يوصل إلى الحق في عالم الشهادة ، ولكنه لايوصل إلا إلى حق مجمل في عالم الغيب .
فما كان في هذه الأفكار من موافقة للدين فهي من باب دلالات العقل الصحيحة في أمور عالم الشهادة ، والمسلم المستضيئ بنور الله يُعمل عقله في أمور الحياة – عالم الشهادة– التي لم يأت بتفصيلها الوحي وندبه على التفكير فيها ، ولكنه لايعدل عما جاءه عن الله بالوحي ؛ فالنقل عنده مقدّم على العقل ، ناهيك عن احتمال ضعف العقل وفساد دلالته ، ومن هنا كان شعور المؤمن بنعمة الرسالة عظيم فإرسال الرسل يغني العقل عن مخاطر التجربة في الواقع ، في معرفة الضار والنافع من الأغذية والأدوية وغيرها، ولذا كان التوجيه الرباني :” فاستمسك بالذي أوحي إليك ” والتوجيه النبوي : “تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي” ، ومن نور هذه المشكاة كانت وصية السلف رضوان الله عليهم : “على المسلم الاعتصام بالكتاب والسنة ، وأن يجتهد في أن يعرف ما أخبر به الرسول وأمر به علماً يقينياً ، وحينئذ فلا يدع المحكم المعلوم للمشتبه المجهول ، فإن مثل ذلك مثل من كان سائراً إلى مكة في طريق معروفة لا شك أنها توصله إلى مكة إذا سلكها فعدل عنها إلى طريق مجهولة لا يعرفها ولا يعرف منتهاها ، وهذا مثال من عدل عن الكتاب والسنة إلى كلام من لايدري هل يوافق الكتاب والسنة أو يخالف ذلك .وأما من عارض الكتاب والسنة بما يخالف ذلك فهو بمنـزلة من كان يسير على الطريق المعروفة إلى مكة فذهب إلى طريق قبرص يطلب الوصول منها إلى مكة . فإن هذا حال من ترك المعلوم من الكتاب والسنة إلى ما يخالف ذلك من كلام زيد وعمرو كائناً من كان فإن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد رأيت في هذا الباب من عجائب الأمور مالا يحصيه إلا العليم بذات الصدور ”
ثم أننا لو سلمنا جدلا بأنها تتوافق مع الدين فأخذ التطبيقات والتدريبات والألفاظ والمصطلحات منها لا من الدين استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، وعدول عن المشروع إلى غير المشروع ؛ فتعتاده النفوس وتأخذ حظها منه وقد تستغني به عن المشروع وذلك هو الخسران المبين قال شيخ الإسلام : “من شأن الجسد إذا كان جائعاً فأخذ من طعام حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة وتجشم ، وربما ضره أكله ، أو لم ينتفع به ، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه ، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته ، قلت رغبته في المشروع وانتفاعه به ، بقدر ما اعتاض من غيره بخلاف من صرف نهمته وهمته إلى المشروع ؛ فإنه تعظم محبته له ومنفعته به ، ويتم دينه ، ويكمل إسلامه “.
الشبهة السابعة
تذرعهم بدعوى “الأسلمة ” فيقولون نحن ” نُفلتِر” هذه الوافدات وننقيها ، ونأخذ الصحيح منها مع الاستدلال عليه بالآيات والأحاديث ، وهذا الصحيح إنما هو من ديننا أصلا ولكننا غفلنا عنه
الرد :
لابد أن نفرق بين ما يمكن ” أسلمته” وبين ما لا يمكن ، فلا يقول عاقل مسلم بأننا يمكن أن نؤسلم النصرانية ، واليهودية ، والبوذية والطاوية ، ويمكن أن ننقي عقيدة التثليث من الدخن ، ونقبل من عقيدة التثنية بعض تطبيقاتها ، فالعقائد المنحرفة ترفض ولا يقبل فيها ترقيعاً وإنما تكون أسلمتها الصحيحة – إن صح التعبير– برفضها وأخذ الإسلام الصافي الذي قد توافقه في بعض أفكارها ، بخلاف مالو قلنا : سنؤسلم الفضائيات فنوجد قنوات فضائية كغيرها ولكنها على منهج الإسلام تسير في فكرها ووسائلها .
أو لو قلنا : سنؤسلم نظريات الإدارة ، وتقنيات الإقناع ؛ فنرفض منها ما يخالف الدين منها ، ونقبل ما لا يتعارض مع الدين فيكون مما يرفض مثلا : تقنيات الإدارة التي تقود لعبودية المرؤوسين للرؤساء ، أو وسائل الإقناع والتأثير التي ينتج عنها التغرير بالمستهلكين وخداع المفاوضين وغير ذلك .
ولهذا ينادي كثير من العلماء المسلمين في علم النفس والاجتماع والاقتصاد وغيره بما أسموه “أسلمة المؤسلمين” لما رأوا من جرأة في الاستدلال بالنصوص على غير مرادها الحقيقي وما يتبعه من تسويغ للضلالات. وقد سعى كثير منهم – جزاهم الله خيراً- إلى النظر ببصيرة في الأفكار والنظريات الوافدة بعين التأصيل الصحيح لا “الأسلمة المتعسفة ” فما كان منها له أصل في ديننا حقيقة أخذوا الأصل وأبرزوه وقعّدوا قواعده ، ومالم يكن له أصل نظروا فيه وفرقوا بين مالم يكن متعارضاً مع الدين ، وبين المعارض المخالف له .
والناس من القديم يغترون ببعض الحق المبثوث في الباطل وينخدعون به ، فينبري له بعض المتحمسين ثقة بقدرتهم على استخلاص الحق أو أسلمة الباطل ، فقد حدث مع الأفكار الوافدة من المنطق اليوناني من قبل قال ابن تيمية : “ كتب المنطق اليوناني فيها من الباطل والضلال شيئ كثير ، ومن المسلمين من اتبعها مع ما ينتحله من الإسلام وهم الفلاسفة ، ومنهم من لم يقصد اتباعها ولكن تلقى عنها أشياء يظن أنها جميعها توافق الإسلام وتنصره . وكثير منها تخالفه وتخذله مثل أهل الكلام . ومنهم من أعرض عنها إعراضا مجملا ، ولم يتبع من القرآن والإسلام ما يغني عن كل حقها ويدفع باطلها ولم يجاهدهم الجهاد المشروع فهذا حال كثير من أهل الحديث والفقه ” والصواب أن يجاهدوا الجهاد المشروع ، وينصحوا بنبذ الباطل والإقبال على المنبع الصافي من كتاب الله وسنة رسول الله ، وقد كان ابن تيمية يرحمه الله إمام في هذه الطائفة المجاهدة .
الشبهة الثامنة
قولهم : إنما الأعمال بالنيات ، ونحن حتى لو طبقنا تطبيقات غير مشروعة أو شابهنا أهل الجحيم في شيء فنحن لا نقصد ذلك ولا نريده فلن تضيرنا مشابهتهم
الرد :
الحديث المستدل به صحيح ولكن الاستدلال خاطئ والقياس فاسد ، والشبهة قوية .
فمن المعلوم أن قوام الأعمال على النيات المنعقدة عليها ، وأمر النية خفي يحتاج إلى صدق وبصيرة ، ومن وجه آخر فالعلاقة بين أعمال القلوب وعلى رأسها النية وبين الأقوال والأفعال الظاهرة قد تشكل على كثير من الناس فلا يقول عاقل بأن كلمة الكفر أو مقارفة أعمال الشرك – من غير إكراه– أمر سائغ جائز إن لم تصاحبه نية الكفر والشرك . والقول بهذا يفتح بوابة الشرك على مصراعيها وينصر القول الشعبي البدعي : “المهم مافي القلب ، والظاهر قشور ” ، وقد كان عند المشركين نية حسنة عندما عبدوا غير الله وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . فهل يقبل عملهم على أساس نيتهم ؟
إن أعمال الظاهر من أقوال وأفعال لها أهميتها وأحكامها في الشريعة كما أن للباطن وأعمال القلوب أهميته وأحكامه ، ومن هنا كانت أهمية اعتبار فهم السلف الصالح للنصوص وتطبيقهم لها حتى لا تشتبه الأمور لا سيما مع هوى النفوس ورين القلوب فتقود إلى خلاف ما تدعو إليه النصوص الكريمة في حقيقتها ولا ننسى أن معظم أهل البدع قد استدلوا بالنصوص على بدعتهم على أفهامهم السقيم .
الشبهة التاسعة
قولهم : أفتى بجوازها بعض أهل العلم ، ويدرب على تطبيقاتها بعض من ظاهرهم الصلاح والله حسيبهم
الرد :
لرد هذه الشبهة لابد أن نتذكر فردية التبعة بين يدي الله سبحانه وتعالى :” إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب ” فكلٌ يؤخذ منه ويُردّ إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ، كما نتذكر أنه عليه الصلاة والسلام كان يحذر من الأئمة المضلين ، وقد يكون هناك مضلين وإن لم يكن إضلالهم عن سبق قصد ونية سوء ، وإنما ضلوا هم فأضلوا من بعدهم ؛ فالباطل كثيراً ما يلبس لبوس الحق فيخفى على الناس ويشتبه عليهم وقد دخل سابقاً كثير من أهل العلم والصلاح في متاهات المنطق ، ودروب التصوف الغالي وغيره فمنهم من هلك في تلك الدروب ومنهم من رجع وتاب ، ومنهم من نجا ولكن ببعض اللوثات. ثم أن الفتاوى لا تحلل حراماً ولا تحرم حلالا ، والفتوى تخضع لتصور الأمر وهذه أمور مشتبهة ملتبسة متلونة مما جعل الفتوى بشأنها غير مستوفية الشروط عند الكثير من أهل العلم والفقه وهذا ما جعل لا أدري هي أكثر ما قيل في إجابة الاستفتاءات حولها
.
وختاماً أذكّر المفتونين بهذه الوافدات بتذكرة قيّمة من كلام شيخ الإسلام : المخالفة تجر أولا للبدعة والضلال وآخراً إلى الكفر والنفاق ، ويكون لصاحبها نصيب من قوله تعالى : “الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا”. وأذكّرهم بأن مطلبهم لخير الدنيا والآخرة الذي ينشدونه ؛ وصفته الصادقة إنما هي فيما أمرهم الله به ؛ فمن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية ، ومن أراد السعادة الوهمية فدونه فلسفات الطاقة الكونية وتقنيات البرمجة العصبية .