تواصل معنا

الكوة الضيقة لمنهج العلم التجريبي (مقالة)

الوصف

ما لا يعرفه الملحد أن مصدر المعرفة في العلم التجريبي الوضعي هو العمل العقلي في مُدخلات الحس والمشاهدة والتجريب، وأساس العلم التجريبي هو البديهيات العقلية والمُسلمات المنطقية، ثم يكون الاستقراء المعرفي بدرجاته، هذه بداية العلم التجريبي ونهايته.

مقالة

يتشنج الملحد قائلاً: لا تُحدثني عن الأدلة العقلية، أو البديهيات المنطقية، أنا لا أُسلِّم إلا بمعطيات العلم التجريبي الوضعي المادي.

 

ما لا يعرفه الملحد أن مصدر المعرفة في العلم التجريبي الوضعي هو العمل العقلي في مُدخلات الحس والمشاهدة والتجريب، وأساس العلم التجريبي هو البديهيات العقلية والمُسلمات المنطقية، ثم يكون الاستقراء المعرفي بدرجاته، هذه بداية العلم التجريبي ونهايته.

 

وواقع الأمر أن الملحد كاذب في ادعائه، لأنه يرفض الأدلة الدينية فقط، ولذا فهو يقبل النص التاريخي طالما أن مصدره خارج التأريخ الديني -ويرفض نفس النص التاريخي بنفس درجات الاستقراء وأدوات الثبوتية لو كان مصدره دينيا-، ويقبل الملحد أيضاً الترجيح العقلي والمنطقي بعموم، ويقبل الترجيح الرياضي، ولولا الترجيحات الثلاثة الأخيرة ما قبل بالعلم التجريبي نفسه، لأن أدوات التثبت من معطيات العلم التجريبي هي أدوات عقلية ومنطقية ورياضية.

 

ولذا نقول للملحد: هل شرطكم في بناء معرفة، أن تكون صحيحة وموافِقة للواقع بدليل علمي صحيح؟ أم تكون مقصورة على جنس البحث الإمبريقي والتجريبية المحضة فقط؟

 

إن كانت الثانية، وكان كل ما يأتيكم من دعاوى معرفية أخرى مرفوضةً، فهذا الشرط ساقط بذاته إذ لا يُتخيل التسليم به مجردا دون تأسيس عقلي ومنطقي ورياضي ومعرفي، دون بديهة أسبقية A-Priori مستقرة في عقل الباحث أو العالم أو الفيزيائي.

 

المعرفة تعتمد على الهاديات الأربع، العقل والنقل والتجربة والوجدان. فالأدلة المعرفية لا تنحصر في الدليل التجريبي الوضعي، وإلا فما مصدر القيمة الأخلاقية؟ وما مصدر الحِس الجمالي؟

والعلم الطبيعي نحت لنفسه كوة ضيقة  بإصراره على:

1- تفرد الخبرة العلمية عن غيرها.

 

2- ادعاء انفصال الخبرة العلمية عن التجربة الذاتية.

 

3- الحديث عن عالم الحياة في مقابل عالم العلم.

 

4- عالم العلم حاضن العقل الوضعي ومتنكر لأي شيء آخر.

 

5- عالم العلم بطبيعته يستبعد معانٍ لا تقل أهمية عن خبرات العلم الطبيعي -إن لم يكن أهم-، مثل الغاية والقصد، والتي لا يمكن فصلها عن عالم الحياة باعتبارها لُب عملية الفهم.

 

ولذا قرر هوسرل ضرورة وضع أُسس منهج ظاهراتي لتبدو الأشياء كما تبدو عليه في سياقها الزمكاني بالنسبة لخبرة الملاحِظ، فلابد في رأيه من الاعتراف الحصري بالبُعد التوصيفي descriptive الموضوعي والبعد الذاتي الحياتي.

 

هذا المنهج الظاهراتي الأقرب للإنسان ولتحليل ظاهرة وجوده يقبل قول النبي صلى الله عليه وسلم لجبل أُحد أنه "جبلٌ يُحبنا ونُحبه"، في مقابل البعد التوصيفي للجبل الذي لا يزيد عن استيعابه كذرات متلاحمة في خضم ذرات أخرى تنفصل عنه بنيويًا، فحب الجبل هو خبرة في عين الملاحظ لا يتيحها التحليل العلمي.

 

ولا عيب في هذا المنهج لعدم الدليل على عيبه، بل العيب في التحليل الجاف، فالصلاة حركات مادية وانحناء أوتار وذبذبات أحبال صوتية، لكنها في الخبرة الذاتية الإنسانية الأقرب للصواب: قُرة عين أو مجرد واجب ينبغي الوفاء به أو عادة أو رياء، وفي كل هذه الخبرات الذاتية هي تحليل إنساني أقرب للعقل، في حين يظل التحليل العلمي الجاف أبعد ما يكون عن الواقع والحقيقة في أصلها، وهنا تكمن المفارقة بين الإنسان وبين العالم المادي.

 

 إن الاستبداد المعرفي للعلم الطبيعي ولغلاة الموضوعية وضحايا التصور المغلوط للعقل، يسعى لإقناعنا بأن النطاق المعرفي للوجود المنطقي العلمي التجريبي هو أساس كل ما نحتاجه من حق، وأن كل معرفة تزعم الاتصال بغير ذلك النطاق أو تتخطاه مهما دعت الحاجة إليها وأقبل الوعي عليها، هي أساس كل وهم، ويجب أن نقتلها في مهدها أو أن ندير ظهورنا لها إن لم نقدر على قتلها.

 

فعندما نحت العلم كوته الضيقة الخاصة به اعترف بالعجز عن معالجة الأسئلة الناشئة عن صلة الوعي بمطلق الوجود -أسئلة النشأة والغاية والمعنى والقيمة والأخلاق وكل أسئلة لماذا-، ولم يكتفِ العلم بعجزه، بل إن كهنته وصموا تلك الأسئلة بالفارغة والتي لا معنى لها، بل تم وصمها بالغير مشروعة، وهذه بعينها مغالطة الاستدلال بعدم العلم على العلم بالعدم، فإن حقيقة قولهم يمكن تصويرها هكذا: لما عجزنا عن معرفة الجواب جاز لنا أن نصف السؤال بغير المشروع والفارغ. لكن مع أدنى تأمل وتنزّل يتبين لنا أن هذه الإجابة تنطوي على مصادرة لأهم ما يميز ويشغل الوجود الإنساني بالكلية، وتنطوي على خطأ بيّن؛ فخبرة عالم العيش أوسع من خبرة عالم العلم ومشتملة عليها، ومن البديهي أن إثبات الأخص -العلم التجريبي- لا يلزم منه نفي الكل -أسئلة النشأة-، بل إن العكس هو الصحيح، ولذا الذي يملك الدين يملك العلم والآخرة معًا، بينما الذي يرضى بظاهر من الحياة الدنيا لا يجيب عن شيء ولن يصل إلى شيء، ﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7].

 

فمحاولة تبرير السكوت عن الأسئلة المطلقة الكبرى بحجة البحث في الوجود الخاص -العلم التجريبي- هو محض تحكم ورغبة في اليقين.

 

وكما قال فريدريك شوماخر-في جمع حافل من العلماء- "محاولة ضغط كل علوم عالمنا في قالب الفيزياء الحسية، سيتحول إلى لعنة يصعب الهروب منها، والأمر أشبه بمحاولة حصر دراسة عمل فني عظيم في دراسة المواد التي يتكون منها

 

 العقل بطبيعته قاصر عن إدراك حقائق الأشياء كما هي عليه في الخارج، فالعقل مثلاً بالنسبة لكانط يُطل على العالم الخارجي عبر ما أسماه بال categories؛ وتعني مفاهيم أولية للإدراك، وهي تفرض على العقل هيئة لا يتخطاها في فهم الأشياء، هيئة تصله بظواهر لا جواهر العالم، فيعجز الإنسان عن النفاذ إلى حقيقة بواطن الأشياء، وهذه طبيعة العلم ومدى قدرة الإنسان، فهناك طوق معرفي خاص على نطاق العقل وطريقة عمله، فلا يعرف بواطن الاشياء في حقيقتها إلا الله، وفي الحديث النبوي" وأنت الباطن فليس دونك شيء".

 

وهذا يعني بمنتهى البساطة والجدّية إصابة غرور المؤمنين بكفاية العلوم التفسيرة في مقتل.

 

صدر مؤخرًا في (2012م) كتاب لفيلسوف الوعي الشهير توماس ناجل Thomas Nagel بعنوان Mind and Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature is Almost Certainly False.

 

والكتاب أثار ضجة في الأوساط العلمية والإلحادية، ويمثل ردة صريحة للفيلسوف عن كفاية المذهب الطبيعي، وفكرة الكتاب كما يظهر من العنوان: التدليل على قصور التصور المادي عن الطبيعة.

 

فالعلم الطبيعي ليس شيء موضوعي في الخارج نفزع إليه ونتوكل عليه متى شئنا، إن عبارة "العلم سيجيب عن ذلك" تلك العبارة التي يكررها الملحد في اليوم الواحد أكثر من مرة، أضحت عبارة مستهلكة بلا معنى، تعطي للعلم لاهوت مستقل، وتثبت تصرفًا مستقلاً للعلم فهو يُعز من يشاء ويذل من يشاء ويعطي ويمنع، وهذا تدليس من العيار الثقيل فليس العلم مرجعًا تام الحياد، ولا يمنح سلطانًا ذاتيًا إيجابيًا، فإدراك حقائق الأشياء في الخارج قاصر بقصور العقل البشري، وإلى اليوم نحن لا نعرف ما هي المادة فضلاً عن أي شيءٍ آخر.

 

يقول سير بيتر مداور Sir Peter Medawer في كتابه نصيحة للعالِم الصغير advice to a young scientist: "لا شيء يُفقد الثقة في العالِم أكثر من ادعائه أن العلم يمكن أن يجيب عن كل الأسئلة يومًا ما".

 

العلم ذاتي وليس موضوعي:

 لا تخرج حالة العلم عن كونها محصلة لحالة من أحوال العقل، والعقل يتلبس بأحوال وتعتوره عوامل وثيقة الصلة بكيان الإنسان كله؛ حاجاته الجسدية، مطالبه الوجدانية، إملاءاته العاطفية، اتجاهاته الفكرية، إلى غير ذلك، وبالتالي يلزم من ذلك أن العلم الطبيعي يعتريه ما يعتري العقل من صروف وأحوال، فإذا أضفنا إلى ذلك الشاهد الكانطي الذي ذكرناه قبل قليل لزم من ذلك أن العلم الطبيعي عرض من أعراض العقل غير معصوم، وهو محصلة اجتهاد يتأثر بالاتجاهات العاطفية والمصالح الشخصية، والأهواء الذاتية، للعلماء والمؤسسات على حدٍ سواء.

 

 وقد أحسن التطوري الكبير ستيفن جاي جولد حين قال: "لم تصل السذاجة بنا إلى حد الإيمان بخرافة أن علماء العلم الطبيعي نماذج مثالية للموضوعية غير المتحيزة، أو أنهم منفتحون بدرجات متساوية على كافة الاحتمالات، أو يصلون إلى النتائج على قدر الدليل، نحن ندرك يقينًا أن التحيزات تعلب دورًا قويًا في عملية الاكتشاف"

 

الذاتية والموضوعية لا تنفصلان!

 علينا أن نعلم أن الموضوعية ليست نقيض الذاتية، وإلا ما اجتمعتا في النفس طرفة عين، وإنما صورة من صورها ومرتبة من مراتبها، مثل أن اليقين درجة من درجات الظن.

 

فلا يوجد خندق فارغ بين العالم الذاتي والموضوعي، بل هما متداخلان إلى أبعد حد في النفس البشرية سواء نفس عالم أو عامي، بل إن الذاتية أصل الموضوعية وليس العكس، فنحن نقترب من الحقيقة ويمكن أن نصل إليها، وحين نصل إليها تكون مرتبة من الحقيقة تتلاءم مع تركيب عقولنا، وكما قال كانط: "إن الحقيقة تابعة لتركيب عقولنا.

 

فاتصالنا بالحقيقة يكون على الوجه الذي تأذن به بنية العقل، وهو وطيد الصلة بما ذكره ابن تيمية من استحالة مطابقة الحقيقة الذهنية للحقيقة الخارجية من كل وجه، وهذا لا يثبت نسبية كلية للحقيقة وإنما نسبية لطبيعة إدراك النوع الإنساني من جهة، وطبيعة الأشياء في حقيقتها من جهةٍ أخرى.

 

 إذًا إدراك العقل للعلم الموضوعي بطريقة كلية الحياد هو خرافة، مَن يتبناها يجهل طبيعة العقل وطبيعة العلم، فنحن قد قررنا أن العقل لا يعمل كبرنامج حاسوبي صرف، وإنما هو تداخل تام بين الفكر والعاطفة بحيث لا ينفصلان، ثم إن العلم الطبيعي لا يستقل بوجود خاص، وهو ليس أكثر من عرض من أعراض العقل، والعقل عرض من أعراض النفس، وبالتالي يعتريه من التدرج ما يستعصي على الحصر، ثم إن عالم الحياة سابق على عالم العلم كما فصلّنا، ثم عرجنا على الانفصام المتوهم بين الذاتي والموضوعي فرأينا أنهما أحوال للإدراك على مخبار مُدرج، وفي قمة الموضوعية يكون استيعابنا للحقائق بالقدر الذي يأذن به العقل.

 

 وأصل الصراع بين التنويريين والرومانسيين مرجعه إلى الصراع بين الذاتي والموضوعي؛ فالرومانسيون يحاولون حماية الذاتية من جفاف الموضوعية، والتنويريين يتعاملون مع الموضوعية على أنها شيء مطلق متجاوز ترانسندنتالي.

 

لكن حدود العلم الطبيعي الموضوعي غير واضحة ومناهجه غير منضبطة، فمن المستحيل والحال هكذا أن نصِم العلم الطبيعي بالموضوعي فضلاً عن أن نصمه بالمطلقية المتجاوزة.

 

فتخوم العلم الزائف متداخلة بشدة مع تخوم العلم الطبيعي، فنحن إلى اليوم نكاد نجزم أن نظرية التطور علم زائف بلا دليل تجريبي واحد يدعمها ومع ذلك يعتبرها غيرنا علم حقيقي يمكن النقاش حوله.

ولذا يقول فيلسوف العلوم الكبير لاري لودان Larry Laudan: "لكي نُحسب في عداد العقلاء علينا أن نُسقط من معاجمنا مصطلحات من مثل علم زائف وغير علمي، إنها تعبيرات جوفاء تقدم لنا خدمة عاطفية فقط.

 

فمن الخانق التحكم في جنس العلم ومحاكمة جنس المعرفة بناء على فرضيات ومقدمات ظنية، مثل فرضية القابلية للتخطئة عن بوبر falsification، وهذا نفس ما نادى به لاكتوس Lakatos فالغلو في تبني افتراضات لحدود العلم الطبيعي ربما يحرم الإنسان من طرق أكثر وثوقية للمعرفة، وهذا الأمر يتفق عليه الآن كثيرون من فلاسفة العلوم أمثال بول فيرابند ونيكولاس ماكسويل وغيرهم.

 

فمنهج العلم الطبيعي نفسه غير منضبط، مما يجعل سؤال التمييز بين العلم الحقيقي والعلم الزائف ليس مطلب منطقي.

 

من المهم هنا أن نوضح أن الذي يضع مناهج العلم الطبيعي هو فلاسفة العلم الطبيعي وليس علماء العلم الطبيعي، فالذي يضع الأُطر الآن فلاسفة العلم وليس العلم ذاته.

 

وهذا يؤكد على حقيقة هامة وهي أن المنهج المعتمَد للعلم غير ذاتي؛ أي غير قادر على تبرير نفسه أو وضع أُطره بذاته بل يعتمد على شيء متعدي –فلاسفة العلم- لوضع أُطره الذاتية وهذه نقطة ضعف قاتلة في المنهج العلمي المعاصر، فهو يزعم المطلقية ويبرر لها من خلال شيء متعدي غير مطلق وهو فلاسفة العلم.

 

فكما فعل كارل بوبر من وضع معيار القابلية للتخطئة، وكما صنعت الوضعية المنطقية من وضع فكرة فحص المقولات Peer Review، وهنا ننبه على الفرق بين التحقق verification والتخطئة falsification؛ فالأول ألصق بالممارسة المنطقية الوضعية، ولكن لو طبقنا هذا القيد على نظرية التطور بما تحمله من استحالة التحقق verification فهو ما يجعلنا نؤكد طبقًا للمنهج العلمي ذاته على زيفها، ومع ذلك يصر غيرنا على حقيقيتها، وهنا نؤكد على اختفاء التمييز بين الحقيقي والزائف.

 

تعتمد ممارسات العلم الطبيعي كما نعرفه اليوم على الفرضيات الكلية للمنهج التجريبي المعياري Standard Empiricism، والذي هو بحسب ماكسويل: "المذهب الذي يقول بأنه في العلم لا يمكن قبول فرضية ذات بال عن العالم كجزء ثابت في المعرفة العلمية من غير دليل، ومن باب أولى إذا انتهكت الدليل".

 

وعندما تم تقييم هذا المنهج المعمول به في العلم التجريبي المعاصر؛ عندما أُعيد تقييم هذا المنهج على يد ماكسويل ذاته، اكتشف عشرة إشكالات جوهرية لم يتمكن المنهج المذكور من حلها، ودعاها إخفاقات المنهج التجريبي المعياري the failings of standard empiricism، وهي موزعة كالتالي: ثلاثة إشكالات تتعلق بالاستقراء induction، وإشكالان في طلب البساطة simplicity، وإشكالان يمسان قضية الدليل evidence، وثلاثة إشكالات في أُطروحة تطور العلم scientific progress.

 

 ثم إن المنطقية الوضعية لا تنفي إمكان المعرفة خارج الإطار الذي يوفره العلم التجريبي، لكن لما كانت الوضعية المنطقية بطبيعتها التي يمثلها البشر العاديون، فإنها تجاوزت المسموح وصارت تقلل من شأن بقية المعارف نظرًا لطبيعة دعاتها في محاولة اختزال غيرها من أدلة وطرق للمعرفة.

 

فالمنهج العلمي المنطقي الوضعي يفتقر إلى ضابط جامع ينفي عن الفرضيات التي تقود العلم الطبيعي خلل الاضطراب وآفة الاعتباط في قبول أو رفض النظريات.

 

 فالمنهج التجريبي بحد تعبير ماكسويل نفسه يروم النزاهة إلا أنه ميئوس منه وخادع، فهو يروم مثلاً النظرية البسيطة على النظرية المعقدة وكأنه صاغ فرضية ثابتة عن العالم استقلالاً عن الدليل، وهذا يعني خرق المنهج التجريبي ذاته، بل إن المنهج التجريبي بهذه الصياغة حين يتعامل مع نظرية معقدة فإنه يقوم على ما يكره.

 

والمدهش حقًا أن المنهج التجريبي لا يعترف بأية فرضية تستعصي أو تمتنع على الدليل، لكنه هو ذاته قائم على فرضيات من هذا القبيل، فلا يقوم المنهج التجريبي إلا على:

1- افتراض أن هناك في الخارج توجد أشياء مستقلة عنا تُسمى حقائق.

2- أن هذه الحقائق تستحق اهتمامنا.

3- أن هناك شيء يميز فهمنا لتلك الحقائق.

 

يقول الفيزيائي روبرت لالفين: "علماء الفيزياء يقومون على فرضية مسبقة أن العالم دقيق ومنظم، وأن أي فشل للعلم في تعزيز هذه الرؤية هو قلة إدراك بسبب عدم الدقة في إجراء القياسات الكافية

 

وعالم الفيزياء الشهير بول دافيز Paul Davis يُسلم بمعقولية الكون قبل البدء بممارسة العلم كحقيقة خارجة مستقلة وتتيح نفسها للفهم بنفس المقدار.

 

لا يمكن تصور قيام علم تجريبي من دون إيمان مسبق بهذه الفرضيات السابقة، وكأن هذه الفرضيات في حكم القبلية البديهية A-periori التي لا يقوم علم تجريبي بدونها.

 

ثم قل لي: هل علوم مثل "علم النفس، اللسانيات، الاجتماع" هل تدخل في نطاق العلم الطبيعي أو العلم الزائف؟ إن التمييز الحاد مستحيل وغير منضبط، وفي مثالنا هذا ينهار.

وحينها يصبح تخلف التناسب incommensurability بين ما هو علمي وما هو غير علمي حقيقة، ويصبح من الصعب تمحيص إحدى النظريتين في ضوء نظرية أُخرى.

 

وينص مبدأ التناسب commensurability أنه إذا كان لدينا نظريتان علميتان متعارضتان وتعذر الترجيح ساعتها لا يعمل مبدأ التناسب ويتوقف، وهل تخرج النظريتان خارج إطار العلم؟ على خلاف بين العلماء؛ يقول فيلسوف العلوم فيرابند: "لا يوجد شيء اسمه نظرية علمية للعالم، وهذا لا يمنع أن هناك أشياء نتعلمها من العلم، ولكن أيضًا نحن نتعلم من الدين وبقايا الفلسفات القديمة، لا يوجد مبدأ أو مجال موحد موضوعي يصرفنا بعيدًا عن متجر الدين"

 

بل إن العلم الطبيعي بأشخاصه وأدواته ومناهجه وغاياته ومؤسساته صار يمارس استبدادًا فظيعًا، خاصةً عندما يدعي احتكاره لسلطة التمييز بين ما هو مشروع وممنوع في حق المعرفة، ولذا افتتح فيرابند كتابه Against Method بدعوى أن الأصل في العلم الطبيعي أنه فوضوي وغير منضبط بأصل، فلا وجود للنظرة العلمية كنموذج paradigm متماسك كامل في ذاته، منضبط تفسيريًا ووظيفيًا، بل تخومه كما فصلنا تتداخل بشدة مع تخوم العلم الزائف واللا علم.

 

تشظي المعرفة التجريبية:

جُل العلم الطبيعي مركب من أوضاع معرفية مكتسبة ومتغيرة، فهو ليس كتلة معرفية صلدة موحدة monolithic، بل هو يعاني من انقسامات وتعتريه انشطارات، وتنتابه أزمات وينطوي على ثغرات متعددة، سواء على مستوى المنهج أو على الممارسة الفعلية لآحاد المؤسسات العلمية أو على مستوى النظريات أو على مستوى تطوره من منظور تاريخي، من هذا المنطلق يمكن أن يحدث التعارض بين الوضع المعرفي المنتمي للعلم الطبيعي والوضع المعرفي المنتمي لبقية العلوم، ولذا قفزت المدرسة الظاهراتية التي تحدثنا عنها في بداية المقال لانتشال الخبرة البشرية من براثن العلم الطبيعي، حتى تتم إعادة الاعتبار للمنطلق الأخلاقي والخبرة البشرية والوجدان والفطرة.

 

يقول عالم الأحياء التطوري الشهير هنري جي Henri Gee وأحد كبار المحررين في مجلة Nature الشهيرة يقول: "من الأخطاء التي يقع فيها الناس، وأنا أضع العلماء والصحفيين ضمن كلمة ناس لأنني هكذا أكون مُحسنًا، من الأخطاء التي يقعون فيها اعتقادهم أن العلم الطبيعي كله معنيّ باكتشاف الحق، بل يذهب العالم الملحد ديفيد سلون David Sloan إلى أبعد من هذا فيصف العلم بأنه دين يجعل مطلبه إلهًا، ولكن العلم ليس شيئًا من هذا القبيل، والوصول للحقائق مفهوم يُفضل تركه لعلماء اللاهوت والفلاسفة، فمن الأفضل النظر إلى العلم ليس على أنه دين وإنما على أنه عملية عقلية، ليس هدفها البحث عن الحق، وإنما هدفها قياس كمية الشك.

 

ويقرر الملحد ديفيد سلون أن الإلحاد أيضًا تحول إلى دين ويرى أن المرء العاقل "سيكون مُغفلاً إذا ما افترض أن الإلحاد يكافئ العقل الخالص لمجرد أنه لا يستدعي الإيمان بأية آلهة

 

نعود للعلم موضوع المقال ونقول: العلم يؤدلَج ويؤدلِج لأنه يرتبط بأشخاص، وليس مرتبطًا بمُثل أفلاطونية، والعلم أسير المرحلة واللحظة التي تهيمن على سياقه التاريخي، وبالتالي أوضاعه المعرفية عرضة للإخفاق والظن والمغالطات والتخمينات والأساطير والخرافات، ما يداني القدر الذي نقموا جنسه على أنواع الملل والديانات.

 

يُحكى أن سيجموند فرويد بعث رسالة خاصة إلى أينشتاين يسأله فيها عما إذا كان يمكن للنظريات العلمية أن تُصبح أساطير من حيث لا نشعر؟! ويعلق الفيلسوف الموسوعي إدغار موران على هذه الحادثة بقوله: "هذا التساؤل يستحق أن يُطرح، صحيح النظريات العلمية في سمائها المفتوحة والدنيوية هي الطرف النقيض للأُسطورة، ولكن في نواتها منطقة معتمة تستطيع أن تحوي خميرة تحول الفكرة التي أصبحت سائدة إلى أُسطورة، وهكذا أصبحت أفكار غاليليو ولابلاس ونيوتن عن النظام الرياضي للعالم أساطير.

 

لكن المُربك حقًا أنه لو تحولت الأصول العلمية إلى أساطير فإن وعي الكثيرين لن يستوعب ذلك، وستتعرض الأفكار الجديدة لمحاربات من قِبل المجتمع العلمي.

 

مثلاً ظل نموذج بطليموس قرونًا طويلة سائدًا، وكلما اتسعت الاكتشافات يتم تكييف التفاصيل حتى تنضبط مع النموذج المعياري المهيمن لبطليموس-الأرض مركز الكون-، ويمكن في أيّة لحظة أن تعود النظرية للثبوتية، فليس بمقدورنا أن نتيقن من هذا أو خلافه إلا برصد الظاهرة في علاقتها بالنظام برمته وهو متعذر.

 

المهم أن للعلم دجاجلته كما للوثنيات كهنتها؛ فبين وَهْمِ الفلوجستون phlogiston وكذبة البلتداون piltdown وأُحجية البانسبرميا panspermia وتزييف أرنست هيكل Ernest Haeckel وشطحة تيكتاليك tiktaalik وتخرصات لورانس كرواس، بين كل هذا يقبع العلم معترفًا بوجود كهنة مكرة في كنيسته يروجون ويكرزون للسخافة بلا وعي.

 

يقول كارل بوبر علميًا: "أبدًا لن نتيقن تمامًا من أننا لم نقع في الخطأ، وهذا يعني أننا لن نتأكد تمامًا أننا لم نُخطئ حتى لو اتخذنا أقصى قدر من الحذر.

 

يقول الفيلسوف نورمان كامبل: "العلم درس فكري خالص، غايته تلبية حاجة العقل لا حاجة البدن، إنه لا يروق لشيء كما يروق للفضول النزيه للإنسان

 

فهنا كامبل يستبعد مسائل كالأخلاق والقيمة عن العلم وهو الحق الذي لا مرية فيه، والعلم هو مجرد خبرة مجتزأة من الخبرة الإنسانية، لا يجوز أن يخرج على هذا السياق ولا أن يتضخم.

 

يقول نورمان كامبل: "يستحق رجال العلم الطبيعي القدر الأكبر من اللوم إزاء التخليط الذي نعترض عليه، لقد اعتادوا إلى حدٍ بعيد فرض استنتاجاتهم على مجتمع العوام والمترددين، إلى درجة أنهم مُعرَّضون لتخطي حدود ميدانهم الخاص، إنهم ينسون أحيانًا أنهم لم يعودوا خبراء فور مغادرتهم لمختبراتهم، وأنهم فيما يتعلق بالأسئلة الأجنبية على العلم لا يستحقون أن يحظوا باهتمام يفوق ذلك القدر الذي يستحقه غيرهم.

 

إن التداعيات التي خلفها المنهج ما بعد البنائي post-structuralist على التصور المألوف للعلم والدرس الذي أعطاه لدعاة موضوعية العلم التجريبي لن يُنسى، فقد أكد المنهج ما بعد البنائي أن العلم يمتنع عليه سمة التفرد التي يدعيها في تحصيل المعرفة، فالعلم يقوم على فرضيات منهجية ووظيفية ودلائلية ونطاقية، بحيث تجعل هذه الفرضيات من العلم شبحي المُعطى لا يحق له الاستبداد tyranny بالمعطى المعرفي، أو ممارسة أيّة صورة من صور القوة، فيصدق عليه أنه مروية arbitrary narrative كسائر الموريات التي يؤلفها الإنسان عبر الأزمان.

 

ويتكئ كل مُنظري العلم الطبيعي على النجاحات المحلية Parochial التي حققها العلم في نطاق وجودي محدود limited ontological sphere، مما يجعل من اعتقادهم بموضوعية العلم مجرد دوغما واهمة، من أجل ذلك نادى جورج كونغليم Georges Canguilhem فيلسوف البيولوجيا الفرنسي إلى ضرورة إدخال مفردة "أيديولوجيا العلم" إلى معاجمنا.

 

الخاتمة:

فالعلم لا يُغطي إلا جانبًا ضيقًا جدًا من حقل المعرفة، وهو ليس موضوعي وإنما ذاتي، يخضع للرؤية البشرية وتحلله القدرة البشرية، فعلى العلم أن يُنشئ ممارسته الخاصة وطريقة تواصله الخاصة ومجتمعه الخاص وجماعته الخاصة، لا أن يحتكر جميع الأوضاع المعرفية، ثم يدعي الموضوعية، بل ويصِم غيره بالحدسية غير المنضبطة وغير المعرفية، لذا فمطلب الألفية الثالثة هو عزل العلم عن الدولة.

 

فالخبرة العلمية قاصرة بقصور الإنسان، وعاجزة عن استكناه ذاتها قبل غيرها، وغايتها الرصد وليس اختراق المرصود أو الحلول فيه لتبينه. لذا فمحاولة إصدار أحكام شمولية universalist- absolutist هو تصرف لا مبرر له، فمِن أين للإنسان البرهان الضروري على أن خبرته هي الأساس في فهم الأشياء؟!

 

لذا يعبر القرآن الكريم عن هذا الشعور الوهمي بقدرة الخبرة البشرية على إعطاء أحكام مطلقة، يعبر عنه بلفظ السلطان authority ﴿ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ ﴾ [غافر: 35]، فهذا التخويل المقترن بذلك السلطان يُمنح من سلطان يتجاوزنا، وليس شيئًا نمتلكه ﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾، فمجموع قيم هذا العالم لا تجد معناها إلا خارج هذا العالم لا داخله، لأنها في ذواتها أشياء اتفاقية غير مقصودة، والاتفاقي لا يبرر ذاته بذاته.

 




المرفقات

التصنيفات العلمية

أضف تعليقا