تواصل معنا

مقالات في مذهب الإنسانية: "الدين الإنساني" (1) (مقالة)

الوصف

حيث إن القوم أصبحوا ينادون بـ"الإنسانية"، مرددين هتافات أتباعها وأحفاد مؤسسيها دون وعي منهم بحقيقة المبدأ الذي ينادون به، مبادئه وأبعاده، واللبوس الذي يلبسه، والطريقة التي ينتهجها للتغلغل في عقيدة المسلمين؛ ومن ثَمَّ نقضها.     وجدنا ضرورة وضع بحث متواضع عن هذا المذهب، على شكل مقالات؛ حتى لا نثقل على المهتم ببحث طويل.     اللهم وجهك نبتغي.  

مقالة

حيث إن القوم أصبحوا ينادون بـ"الإنسانية"، مرددين هتافات أتباعها وأحفاد مؤسسيها دون وعي منهم بحقيقة المبدأ الذي ينادون به، مبادئه وأبعاده، واللبوس الذي يلبسه، والطريقة التي ينتهجها للتغلغل في عقيدة المسلمين؛ ومن ثَمَّ نقضها.

 

وجدنا ضرورة وضع بحث متواضع عن هذا المذهب، على شكل مقالات؛ حتى لا نثقل على المهتم ببحث طويل.

 

اللهم وجهك نبتغي.

بسم الله نبدأ.

 

أولًا: الدين الإنساني: تعاريف:

الدين الإنساني: هو دين يؤلِّه الإنسان ويجحد كل ما عداه من قوى يمكن أن تتحكم في مسيرته في الحياة، لا يعترف هذا الدين بالشرائع السماوية؛ حيث إنه لا يؤمن بوجود إله مشرِّع، ويرى أن الإنسان وُجد من الطبيعة عن طريق التطور، وهو المسؤول الأول والأخير عن حاضره ومستقبله، يشكله كيف يشاء.

 

ولا مكان "للغيب" في الدين الإنساني، فالمادة هي أساس الوجود، وهو ينكر كل ما وراء الملموس والمحسوس.

 

تعريف الويكيبيديا للإنسانية الدينية: هي اندماج بين الفلسفة الإنسانية الأخلاقية والطقوس والمعتقدات الدينية التي تدور حول احتياجات الإنسان واهتماماته وقدراته  والإنسانية الدينية ترفض الشرائع السماوية على تنوعها، وهو ما عبرت عنه المصادر التي بحثت في الإنسانية "بالمعرفة الموحاة أو المنزَّلة" Revealed Knowledge كما ترفض الأخلاق والأدبيات التي تقوم على أساس الإيمان بالله، ولا تؤمن بالغيبيات.

 

تؤمن الإنسانية بأن "الإنسان هو المتصرف الحقيقي بالكون، والقادر على كل شيء، كما أنها تؤله المادة، وتنكر كل الخوارق والمعجزات"

 

تعريف في قاموس ويبستر العالمي الثالث "للإنسانية الدينية" 1961: حركة أمريكية معاصرة تتكون بشكل أساسي من إنسانيين غير موحدين، ومن الكنائس الإنسانية، وتهدف إلى تحقيق الأهداف الأخلاقية للدين، دون وجود معتقدات وطقوس تعتمد على الغيبيات".

 

وتعتبر "الديانة الإنسانية" الجذر الأول لِما أضحى يُعرف "بمذهب الإنسانية"؛ حيث يعيد المؤرخون بذرتها إلى عصر التنوير، فبالرغم من أن أتباع هذه الديانة لم ينتظموا رسميًّا تحت مسمى "الإنسانية" حتى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فإن تاريخ ظهور الأديان الإلحادية "التي تنكر وجود الإله"، والتي ارتبطت مع الفلسفة الإنسانية التي تقوم على "الأخلاق" - تعود إلى ذلك العصر

 

ثانيًا: الدين الإنساني في الأقوام الغابرة:

أ‌- عقيدة تأليه الإنسان في قوم عاد:

 وقالوا من أشد منا قوة...

تطاول الزمن على البشرية بعد نوح عليه السلام، فعادت إلى سيرتها الأولى من الشرك وعبادة آلهة الآباء، والتعنت والعناد والإصرار على إشراكها بالله في العبادة والتصرف في كل شؤون الحياة، لكنها في هذه المرحلة أضافت إلى الشرك شركًا استمدته من فيض شيطاني لم يكن في قوم نوح، فكان تأليه الإنسان!

 

﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15].

 

قوم نوح بذروا في العقيدة التي فطر الله البشرية عليها بذرة "الشرك بالصالحين"، عبادة صور وتماثيل الصالحين، وقوم عاد بذروا فيها بذرة "الإنسان الإله".

 

﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 128 - 130].

 

ومنذ ذلك الوقت وفكرة الإنسان الإله بين مد وجزر، كنوع من أنواع الشرك، تجلت بعد عاد، في أقوى صورها، في بني إسرائيل، لتعود في قرون البشرية الأخيرة تحت مسمى "الدين الإنساني"، وتنتهي إلينا بالكثير من الصور المضللة؛ وأهمها "العلمانية".

 

 المنطلق الأول لدين "الإنسانية" قوم عاد:

مع عاد ظهرت فكرة الإنسان الإله.

 

تقوم فكرة الإنسان الإله على الإيمان المطلق بالقوة المادية، وهذا الإيمان يتولد عن تعاظم القدرة البشرية في البناء والتطور والتقدم، وإيجاد ما لم يكن موجودًا من أسباب الحياة والرفاهية، بما تتوصل إليه الأقوام من اختراعات تقنية وعلمية، تتخيل معها أنها قادرة على حكم الكون والتحكم فيه، بعد أن بلغت أعلى مستويات العتو والتكبر ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ [فصلت: 15].

 

والوصول إلى هذا المستوى من التفكير ينتفي معه الإيمان بوجود قدرة عليا تحكم بني البشر، بعد أن وجد الإنسان نفسه هو الأقوى والأفضل والحاكم المتحكم!

 

وانتفاء الإيمان بوجود قدرة عليا وإله متحكم بالكون، يستجلب نكران يوم الحساب والبعث بعد الموت، فتأليه الإنسان لنفسه يستوجب الاعتقاد بخلوده في النعيم، سواء على الأرض أو ما بعد حياة الأرض، وهذا ما اختلف في تصويره "الإنسان الإله" على مر العصور بعد عاد.

 

 الأسس التي اعتمد عليها قوم عاد في رسم الإنسان الإله:

1- القوة الجسدية: ﴿ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾ [الفجر: 7، 8]، ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ﴾ [الأعراف: 69].

 

2- الرخاء المعيشي: ﴿ وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ﴾ [الشعراء: 132 - 134].

 

3- القوة الحضارية: ﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾ [الشعراء: 128، 129].

 

4- الجبروت والسيادة الطاغية: ﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾ [الشعراء: 130].

 

5- تكذيب واحتقار كل من خالفهم أو حاول المساس بسيادتهم، وهو حال جميع الأقوام الكافرة عندما تأتيهم الرسل والنذر: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66]، ﴿ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [هود: 54].

 

6- الاستكبار: ﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [فصلت: 15].

 

7- إنكار القوة الإلهية واعتبار القوة المادية أساس التألُّه: لا يوجد قوة تحكم البشر فوق القوة البشرية: ﴿ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾ [فصلت: 15]، كما تبدو هذه النزعة جلية عند فرعون: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 51 - 55]؛ ففرعون "المتألِّه" الذي حشر قومه ونادى فيهم: ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24] يرى أن الاحتكام إلى المادة وامتلاكها هو الدليل الأمثل على أحقيته بالألوهية والربوبية المطلقة، والحق في التحكم بالأقوام والشعوب، والآيات تفيد أن فرعون تمكن من إقناع قومه بهذا المنطق، لما وجده فيهم من خفة عقل، وحال فرعون البارحة هو حال فراعنة الغرب اليوم الذين يعتقدون ألوهيتهم بما يملكونه من أسباب مادية، وخفة عقل قوم فرعون البارحة هي خفة عقول الشعوب اليوم التي ترى في فراعنة العصر آلهة فعلًا، فيتبعونهم شبرًا بشبر، وباعًا بباع.

 

 

8- إنكار اليوم الآخر والبعث: هم ينكرون البعث بعد الموت واليوم الآخر، معتبرين أن الحياة الدنيا نهاية كل شيء، فالإنسان والمادة هما المبتدأ والمنتهى: ﴿ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 35 - 37]؛ أي: يموت الآباء ويحيا الأولاد فتستمر الحياة، ولا بعث بعدها.

 

9- الإنكار المطلق لوجود قوة إلهية عليا تدير الكون، ترزق وتمنع، تحيي وتميت، ترحم وتعذب، فمن أهم سمات "الإنسان الإله" أنه أعمى تمامًا عن تدابير الخالق؛ لأنه لا يؤمن بقدرته أصلًا، فهو لا يرى مقدمات العذاب، ولا يشعر بالابتلاءات التي تحيق به على أنها تصرف خالقه فيه، هو يعتقد أن كل الحوادث التي يعيشها من صنعه هو، ولا يمكن أن تخرج عن المألوف الذي عاشه ودرج عليه، إلا بإرادته، فكل ما في الكون مسخر لخيره ورفاهيته، ولا يوجد قوة أعلى وأشد من قوته يمكنها أن تسلبه نعيمه وملكه وحضارته!

 

وها هم قوم عاد يرون سحاب العذاب سحاب خير وفير: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [الأحقاف: 24].

 

أما فرعون، فقد أضاف إلى هذا الإنكار السخرية والاستهزاء بدعوة موسى له لعبادة الله الواحد؛ فقال لوزيره هامان: ﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ ﴾ [غافر: 36، 37].

 

هذه الأسس هي ذاتها التي يقوم عليها دين الإنسانية الحديث، الذي زُرعت شجرته في القرن الثامن عشر، وتمت رعايتها بهدوء شديد حتى ضربت جذورها في أمتنا، فأخرجت فروعها السامة على تنوعها، والتي سنأتي على ذكرها لاحقًا إن شاء الله.

 

 

المرفقات

التصنيفات العلمية

أضف تعليقا