تأليف
الوصف
حيث إن القوم أصبحوا ينادون بـ"الإنسانية"، مرددين هتافات أتباعها وأحفاد مؤسسيها دون وعي منهم بحقيقة المبدأ الذي ينادون به، مبادئه وأبعاده، واللبوس الذي يلبسه، والطريقة التي ينتهجها للتغلغل في عقيدة المسلمين؛ ومن ثَمَّ نقضها. وجدنا ضرورة وضع بحث متواضع عن هذا المذهب، على شكل مقالات؛ حتى لا نثقل على المهتم ببحث طويل.
مقالة
تكلمنا في الحلقات السابقة عن الركيزة الأولى وكانت عبادة العقل ، والثانية وكانت عن النفعيَّة، والثالثة الفلسفة الوضعية، ونتكلَّم اليوم عن المذهب الأخلاقي كركيزة رابعة.
بسم الله نبدأ:
المذهب الأخلاقي Ethical Culture / Ethical movement 1876 :
جذر آخر من جذور الفلسفة الإنسانية/ الدين الإنساني، هي الحركة الأخلاقية أو المذهب الأخلاقي الذي ظهر في القرن التاسع عشر.
المهد الأول: بريطانيا العظمى:
تعود أصول هذا المذهب إلى "الجمعية الأخلاقية الجنوبية" التي أُسِّسَت عام 1793 في ساحة فينزبري الواقعة أقصى مدينة لندن، أُطلِق عليها حينها اسم "المعبد الجنوبي"، فيما كانت تُعرَف في وقت مبكر من القرن التاسع عشر "بمكان التجمُّع الأصولي".
دعمت هذه الحركة مساواة المرأة بالرجل، فكانت آنا ويلر من أوائل النساء اللاتي قُمْن بحملة من أجل المرأة، تكلَّمت فيها عن حقوق المرأة، وكان هذا في اجتماع عام في إنجلترا عام 1829.
تحوَّل اسم "المعبد" فيما بعد من الجمعية الأخلاقية الجنوبية إلى "جمعية كونوي هول الأخلاقية"، ثم ما لبثت أن أُسِّسَت الجمعية الأخلاقية الأولى في بريطانيا عام 1886، ومع حلول عام 1896 اتَّحدتْ أربع جمعيات بريطانية أخلاقية لتُشكِّل اتحاد الجمعيات الأخلاقية.
ولم يكد يمْضي عَقْدانِ من الزمن حتى أصبح هناك أكثر من 50 جمعية أخلاقية في بريطانيا العُظْمى مع بداية القرن العشرين (ما بين عامي 1905- 1910)، سبعة عشرة منها تابعة للاتحاد.
الأخلاقية الدينية الحديثة - أمريكا:
إلا أن الانطلاقة الحقيقية والفاعلة للمذهب الأخلاقي كانت على يد "فليكس آدلر" الذي يُعتبَر الأب الروحي لهذا المذهب، أسس آدلر جمعية نيويورك للثقافة الأخلاقية عام ، عندما كان عضوًا في الجمعية الدينية الحرة
ومع حلول عام 1886، ظهرت مجموعة من الجمعيات المماثلة للجمعية الأم في كل من فيلاديلفيا وشيكاغو وسانت لويس
تبنَّت هذه الجمعيات التي تعنتنق المذهب الأخلاقي مجموعة من المبادئ:
• الأخلاق لا علاقة لها بالدين.
• التأكيد على أن مشاكل أخلاقية جديدة ظهرت في المجتمع الصناعي لا تعالجها الأديان العالمية بالشكل المطلوب.
• وجوب الانخراط بالأعمال الخيرية للارتقاء بالأخلاق.
• الإيمان بأن الإصلاح الذاتي يجب أن يتلازم مع الإصلاح الاجتماعي.
• النظام الجمهوري هو نظام الحكم المناسب للمجتمعات الأخلاقية وليس النظام الملكي.
• الاتفاق على أن تثقيف الشباب هو الهدف الأهم.
• استبدال اللاهوت بالأخلاق بشكل مطلق.
• فصل المبادئ الأخلاقية عن المذاهب الدينية، والنظم الميتافيزيقية فصلًا تامًّا، وجعلها قوة مستقلة تحكم الحياة الشخصية والعلاقات الاجتماعية
وجدت الحركة الأخلاقية في الأزمة الدينية التي كان يعيشها المجتمع الغربي بسبب فساد الكنيسة، فرصةً جيدةً لاستبدال اللاهوت بالأخلاق، كانت تهدف إلى تفكيك الأفكار الأخلاقية وسلخها عن العقائد الدينية والأنظمة الميتافيزيقية، وجعلها قوةً مستقلةً في الحياة الشخصية والاجتماعية.
من هو فيليكس آدلر؟
• ولد فليكس آدلر في ألمانيا لحَبْر يهوديٍّ يُدعى صموئيل آدلر وكان شخصيةً بارزةً في الحركة اليهودية الأوربية الإصلاحية، هاجرت العائلة من ألمانيا إلى الولايات المتحدة بعد أن تم تعيين الأب صاموئيل حَبْرًا أعظم لمعبد إيمانويل في نيويورك ، كان فليكس حينها في السادسة من عمره
• نشأ آدلر الصغير على التعاليم اليهودية، فقد كان يَتمُّ تدريبُه ليُصبح حَبْرًا كأبيه.
• درس آدلر في مدرسة كولومبيا القواعد، وتخرج في جامعة كولومبيا عام 1870 بدرجة الشرف، تابع دراسته في جامعة هايدلبرغ؛ حيث كانت دراسته جزءًا من مرحلة تدريبية ليصبح "حَبْرًا"، حصل على درجة الأستاذية "بروفسور" من جامعة هايدلبرغ عام 1873 وأثناء إقامته في ألمانيا تأثَّر بالكانطية الجديدة (فلسفة إيمانويل كانط)
، وخاصة المفاهيم القائلة بأن المرء لا يستطيع إثبات أو دحض وجود الإله أو الخلود، وأن الأخلاق يجب أن تُؤسَّس بشكل مستقل تمامًا عن اللاهوت..
• في عام 1876 دعي آدلر- وكان قد بلغ السادسة والعشرين من عمره- لإلقاء محاضرة حول أفكاره التي كان قد عرضها أول مرة في خطبة له في معبد إيمانويل، وفي الخامس عشر من شهر مايو من عام 1876 كرَّر آدلر فكرته في حاجة البشرية إلى الدين؛ لكن بعيدًا عن الطقوس والعقيدة، دين يُوحِّد البشرية في عمل اجتماعي أخلاقي، كانت فكرة توحيد المتدينين والملحدين والمنكرين للقوى الغيبية في مذهب ديني مُوحَّد فكرة ثورية إلى حد كبير في ذلك الوقت.
• بعد الخطبة ببضعة أسابيع شرع آدلر بإلقاء محاضرات أسبوعية كل يوم أحد. وفي شهر شباط من عام 1877، وبمساعدة جوزيف سيلغمان - رئيس معبد إيمانو- إيل أسس آدلر جمعية الثقافة الأخلاقية
أفكار آدلر:
• يعتقد الرجل أن مفهوم "الرب الشخصي" ليس ضروريًّا، كما يعتقد أن شخصية الإنسان كانت هي القوة المركزية للدين، وهو يؤمن أن اختلاف الناس في تفسير الأديان يجب أن يُحترَم، كما تُحترَم الأديان نفسها، كانت الحركة الأخلاقية مفتوحةً للناس على اختلاف عقائدها.
• يقول آدلر بالمذهب الأخلاقي كدين جديد يمكن أن يكتسح المذاهب "غير العلمية" بتعبير آخر الأديان التقليدية، في حين يعمل على استعادة جميع الرسائل الأخلاقية من جميع الأديان وتشكيلها بعيدًا عن البُعْد الديني.
• كما يرى الرجل أن الأديان التقليدية ستُثبت في النهاية أنها غير مناسبة (متوافقة) مع النظرة العلمية العالمية (وهذا تمامًا المبدأ الذي يُنادي به الوسطيُّون اليوم).
• الأديان تُعلِّم حقائق هامَّة حول العالم، إلا أنها تعرض هذه الحقائق من خلال استعارات غير مناسبة دائمًا للمفاهيم العالمية، على سبيل المثال- كما يقول آدلر- تقوم الأديان الموحَّدة على استعارة الملكية المستبدة، بينما أصبح معلومًا أن العلاقات الديمقراطية هي المثالية (ربط الدين بالاستبداد، واللادين بالديمقراطية).
• يُعتبَر التركيز على العقيدة الدينية مصدرًا للتعصُّب الطائفي؛ لذا وجب استبدالها بالأخلاق.
باختصار، كان آدلر ينتقد بشكلٍ خاصٍّ التركيز الديني على العقيدة، بحجَّة أنه سيكون مصدرًا للتعصُّب الطائفي، من هذا المنطلق أراد آدلر أن يستبدل الروابط الدينية برابطة عالمية منفصلة تمامًا عن الدين، وتنكره تمامًا كعاملٍ أساسي في حياة البشرية.
بعد مرور عام على تأسيسها، بدأت جمعية نيويورك الأخلاقية مشاريعها بروضة أطفال، ومركز للتمريض في المنطقة، وشركة بناء للمساكن، وفي وقت لاحق، قامت الجمعية بافتتاح مدرسة الثقافة الأخلاقية، التي كانت يُطلَق عليها آنذاك اسم "مدرسة العامل"، إضافة إلى مدرسة الأحد، والمنزل الصيفي للأطفال، ثم ما لبثت أن بدأت الجمعيات الأخلاقية بإقامة مشاريع مماثلة.
إلا أن الآدلريين لم ينتهجوا نهج "التبشير" المباشر، الذي كانت تتبعه الجمعيات الخيرية التابعة للمؤسسات الدينية في تلك الحقبة؛ بل كان الأسلوب المتَّبع أكثر ذكاء.
التأثير النفسي المعتمد على تسليط الضوء على السلبيات التي تحكم المجتمع والتي سببها "الدين" دون فرض أي بديل مباشر، والاكتفاء بالإيحاءات في المراحل الأولى.
(طبعًا هذا الأسلوب لا زال مُجْديًا حتى يومنا هذا، ليس من قِبَل أصحاب المذهب الأخلاقي تحديدًا؛ بل من قِبَل كل المذاهب والحركات التي تسعى إلى "سلخ المسلم عن عقيدته" .. اللهم افتح على بصيرة أبناء هذه الأمة).
توحُّد الجمعيات الأخلاقية في أمريكا: توسَّعَتْ أنشطة الجمعيات إلى أن توحَّدَت الجمعيات الأربع التي كانت على الساحة تحت مظلة جمعية أُمٍّ أُطلِق عليها "الاتحاد الأخلاقي الأمريكي.
بعد تحقيق بعض النجاح دخلت الجمعية في حالة ركود حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث عاودت نشاطها من جديد.
في عام 1946 بدأت الجهود تتضافر لإعادة تنشيط المذهب الأخلاقي، فأُقيمت جمعيات في نيوجرسي وواشنطن دي سي، إلى جانب معسكرات المواطنة.
ومع حلول عام 1996، أصبح هناك ثلاثون جمعية تضم ما مجموعه 5500 مواطن أمريكي، إلا أن هذه الجمعيات كانت تختلف عن سابقتها في أسلوب الانتشار، حيث اعتمدت تشكيل المجموعات في مناطق الضواحي، واستبدال مدارس الأحد للأطفال بفعَّاليات للمراهقين.
كذلك، شهدت هذه الجمعيات الجديدة مزيدًا من التركيز على التنظيم والبيروقراطية، إلى جانب التركيز على احتياجات أعضاء المجموعة فيما يخص القضايا الاجتماعية العامة التي ركَّز عليها آدلر فيما سبق. كانت النتيجة تحوُّل المجتمعات الأخلاقية الأمريكية إلى شيء أقرب إلى التجمُّعات المسيحية الصغيرة التي يكون فيها أكثر شواغل الكاهن إلحاحًا هو التمسُّك بقطيعه. في القرن الحادي والعشرين، تابعت الحركة تنشيط نفسها من خلال شبكات التواصُل الاجتماعي، والانخراط في التنظيمات الإنسانية، مع نجاحات مختلطة تستغرق الطرفين، وفي عام 2014 أصبح هناك ما يُقارب 10000 عضو رسمي في الحركة الأخلاقية.
الصبغة الدينية للمذهب الأخلاقي:
تشبه الجمعيات الأخلاقية من الناحية الوظيفية كنائسَ النصارى وكُنُس اليهود، ويقوم على كُلٍّ منها قائد، بما يُوازي الكاهن في الكنيسة نموذجيًّا، تقيم الجمعيات الأخلاقية اجتماعات صباح الأحد؛ لكنها تُقدم فيها تعليمات أخلاقية للأطفال والمراهقين، وإقامة فعَّاليات خيرية وأنشطة اجتماعية، وربما يُقدِّمون برامج تثقيفية منوَّعة، ويُقيمون احتفالات الزواج والارتباط، وتسمية المواليد.
ويمكن لأفراد الجمعية الأخلاقية أن يؤمنوا بإله أو أن يعتبروا المذهب الأخلاقي هو دينهم، يقول فليكس آدلر: "إن الثقافة الأخلاقية هي دين مَن يرون الدين ضرورةً للحياة، ومَنْ لا يعترفون بالدين يكتفون بها كأسلوب للحياة".
ارتباط المنظمة الأخلاقية بالمذهب الإنساني:
اعتبارًا من عام 1950 بدأ المذهب الأخلاقي يأخذ تعريفًا على أنه جزء من الحركة الإنسانية الحديثة، وفي عام 1952 تحديدًا أصبح الاتِّحاد الأخلاقي الأمريكي التنظيم الأم لجميع الجمعيات الأخلاقية في الولايات المتحدة الأمريكية أحد المنظمات المؤسسة للاتحاد الأخلاقي الإنساني العالمي .
الفعَّاليات: تعقد الجمعيات الأخلاقية عادة اجتماعات أسبوعية في أيام الأحد؛ حيث تكون الفعَّالية الرئيسية لكل اجتماع هي "المنبر"، وتتضمَّن خطابًا لمدة نصف ساعة من قِبَل رئيس الجمعية الأخلاقية، أو أحد أعضائها، أو ضيفًا عليها؛ كما تقام مدرسة الأحد للأطفال في معظم الجمعيات الأخلاقية بالتزامن مع فعالية "المنبر".
يعقد الاتحاد الأخلاقي الأمريكي اجتماعًا سنويًّا يضُمُّ الجمعيات الأخلاقية من كافة أنحاء الولايات المتحدة.