الوصف
تأمل فيما حولك من مظاهر الحياة، في الأشجار الخضراء اليانعة.. تلك الطيور التي تبسط أجنحتها وتطير في الهواء.. في الحيوانات التي تغدو وتروح تبتغي من رزق الله…
مقالة
-
مدخل
تأمل فيما حولك من مظاهر الحياة، في الأشجار الخضراء اليانعة.. تلك الطيور التي تبسط أجنحتها وتطير في الهواء.. في الحيوانات التي تغدو وتروح تبتغي من رزق الله…
نحن كبشر نجد من أنفسنا تفريقا واضحاً بين الحياة وضدها, فنبتهج بالحياة ونحزن للموت, ولو شهدنا أي ميت من إنسان أو حيوان, ثم قيل لنا أن هذا الميت مثل الحي لاستنكرنا أعظم الاستنكار, بل لو قيل لنا أن هذه الجثة ستقوم وتتحرك لاستنكرنا ذلك, فضلا عن أن يقال لنا أنّ جماداً ستنبعث فيه الحياة تلقائياً, وصدق تعالى: {وما يستوي الأحياء ولا الأموات..}.
فنحن نعلم أنه ليس من سنن الحياة أن تعود الحياة في الدنيا لمن مات موتا قطعيا, ومن باب أولى أنّ الحياة لا يمكن أن تأتي ابتداءً من مصدر لا حياة فيه.. ويستحيل أن تكون المادة غير الحية بمجردها مصدراً مُنشئاً للحياة.. فلا بد أن يكون مصدر الحياة متصفا بكمال الحياة والقدرة والعلم والإرادة, وفي هذا يعظ تعالى عباده بما يعلمونه من افتقار حدوث الحياة إلى فِعل الإحياء فيقول: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم..} الآية.
هكذا نعلم تميّز الحياة وعظمتها بفطرتنا, ونهتدي من ذلك إلى أنّ معطي هذه الحياة عليم خبير عظيم, ولا نحتاج لإطالة الفكر لإدراك الفرق بين ما فيه حياة وما لا حياة فيه, وأنّ الحياة بخصائصها وطبيعتها لا يمكن أن تأتي من مجرد المادة المحسوسة فقط .. ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن أن يهب العِلمَ جاهلٌ، ولا يمكن أن يُهدي المال مُفلسٌ، ومُحال أن تأتي الحياة مما لا حياة فيه! فكل هذا مدرك جليّ بالفطرة ..
غير أنّنا لو تفكّرنا وتعمّقنا في خصائص الحياة سنجد مزيداً من العجب, وسنرى آيات مبهرة تأخذ بالألباب..
فتعال بنا نزيد الأمر تفصيلاً وتأمّلاً ..
-
لنتأمل :
العمل البنائي المحافظ على الوجود للكائن ونوعه
تتضمّن الكائنات الحية عملاً بنائياً للخلايا ومكونات الجسد, وهو عمل تتكامل فيه مختلف الأجزاء, لتتفاعل مع البيئة الخارجية وتحصّل الغذاء ثمّ تنتج الطاقة وتتخلص من الفضلات, وتنمو وتتحرّك وتتكاثر, وغير ذلك من العمليات الحيوية التكاملية التي تمثّل حركة بنائية مستمرة تقاوم التفكّك, وبمجرد موت الكائن الحي وتوقّف هذا العمل الدؤوب يدبّ الانحلال في الكائن الحيّ, ويبدأ بالتفكّك ومشابهة المواد غير الحيّة!
إنّ ثمّة اختلاف واضح بين بيئة الحياة وغيرها, فعند حضور أبسط صور الحياة نجد أنّها ذات تنظيم عال للمواد الكيميائية وتخزين للمعلومات اللازمة لبناء الكائن الحيّ, وهو اختلاف عجيب في واقعه المشهود, عجيب أيضاً في بدايته حين نتفكّر في ظهور الحياة بنظامها البنائي المعقّد في محيط يفتقر لهذه السمة!.
.
فما الذي يجعل الكائنات الحيّة مغايرة لما حولها من وجود مادي محسوس؟ بل ما الذي يجعل بعض الكائنات الحيّة تنتقل من نظام إلى نظام أعلى كتحوّل النطفة الأمشاج إلى إنسان؟
? إنّ فيها شيئاً فريداً لا ينتمي لعالم المادة المقابل لها, شيئاً يوجّه نظامها ونموّها ويحوّل الطاقة إلى أداة إيجابية للبناء وهذا الشيء نرى آثاره أمامنا بل في أنفسنا, ونرى آثار افتقاده في الجمادات أو فقده بعد وجوده في الكائنات التي تموت.
-
لنتأمل :
الحمض النووي
أعجوبة المعلومات ونظامها ..
•باكتشافات علم الوراثة واكتشاف الـ DNA (الدي إن أيه أو الدنا) الذي يحتوي على المعلومات الخاصة بالكائن الحي وصفاته، ثبت أنّ الحياة ليست مجرد مادة وطاقة, بل هي أيضاً مكونة من معلومات .
- ولتقريب الصورة للأذهان…
• يُمكن تشبيه الدنا بمكتبة تحوي كتباً فيها كافة المعلومات والتفاصيل التي تخص الكائن الحي، سواء كانت صفاته الوراثية كلون العين والبشرة والشعر، أو كانت التعليمات الخاصة ببناء جزيئات البروتين وإنجاز الوظائف الحيوية في الخليّة.
• هذه المعلومات تم تخزينها ضمن الدنا الملفوف على شكل سلسلة حلزونية مزدوجة، تم ضغطها في حجم صغير جدا جدا لا يُرى بالعين المجردة، وتشفيرها بأبجدية كيميائية خاصة, فكما نرى أن اللغات تتشكل من أحرف محدودة العدد، تترتب بشكل مُعين لتؤلف آلاف الكلمات، وتتشكل من الكلمات جمل كثيرة متنوعة، فإن أساس لغة الحامض النووي أربع جزيئات كيميائية تُسمى (النوكليوتيدات)، تترتب على طول الدنا بتسلسلات معينة لتخزّن المعلومات.
نظام لمعالجة المعلومات ونقلها وترجمتها ..
الجسم يحتاج للبروتينات لتستمر عملياته الحيويّة, وهذه البروتينات تتكون من أحماض أمينيّة.
وهنا نتساءل ! كيف تقرأ الخليّة المعلومات المشفرة على شريط الدنا، ليحصل بناءً على ذلك بناء الأحماض الأمينيّة ؟
يحصل ذلك عبر عملية التعبير الجيني، وهي عملية في غاية التعقيد، يعتبر الدنا فيها مصدر التعليمات وخطة العمل .
تصدر التعليمات عن طريق نسخ المعلومات المشفرة على الدنا, حيث تقوم جسيمات قارئة بفكّ خيطي الدنا المتوازيين وكشف تسلسل النوكليوتيدات من أجل قراءتها ونسخها عبر صناعة شريط متناسب يسمى بالرنا المرسال
يحمل الرنا المرسال المعلومات إلى الريبوسوم, وهو أشبه بآلة ترجمة وتصنيع، حيث يقوم بترجمة المعلومات التي يحملها شربط الرنا المرسال، ويقوم بناء على تلك المعلومات بتوجيه ارتباط الأحماض الأمينية وفق الترتيب المناسب لتصنيع المطلوب, فترتبط الأحماض معا في سلاسل وتوليفات كثيرة متنوعة تكون البروتينات المناسبة التي تنجز معظم الوظائف الحيوية في الخليّة .
إنّ الذي أمامنا إذاً عملية عجيبة تتضمن أجزاءً تقرأ الأحرف وتفك الشيفرات, ثم يقع التنسيق والتعاون بينها بدقّة لتنجز المطلوب بالضبط. وصدق تعالى: {ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى}.
وهي إذاً ليست معلومات مشفّرة فحسب, بل هناك نظام بديع لمعالجة المعلومات, يقول د. ستيفن ماير في كتابه “توقيع في الخلية”: “.. تماماً كما تكون المعلومات الرقمية المحفوظة على قرص عديمة النفع دون أداة تقرؤ القرص, كذلك أيضا تكون المعلومات على الدنا عديمة النفع دون النظام الخلوي لمعالجة المعلومات “.
والآن بعد هذا الشرح المبسط جداً ، ترى ما الدلالات التي رفع الستار عنها اكتشاف الحمض النووي وطريقة عمله !؟
-
لنقف مع بعض منها ..
الدلالة الأولى :
” الفارق المذهل ! “
إنّ نظام نقل وتشفير المعلومات هذا ليس من سمات المادة غير الحية, بل هو من خواص الأنظمة الحيّة ويعدّ مركزياً فيها, بل حتى في الكائنات الحيّة وحيدة الخليّة, فأبسط بناء للحياة يتطلب في المقام الأول وجود تعليمات التجميع, ولا يوجد في أي مكان من عالم الطبيعة غير الحيّة تسلسلات كهذه تحمل معلومات نوعية .
وهذا يدل على أنّ الحياة شيء متميّز فريد لا يمكن أن يأتي من مجرد المادة فقط، ولذلك ذكره القرآن من الآيات, كما قال سبحانه :{ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}, فخلق الحياة يستلزم خالقا يتصف بالعلم والقدرة, أبدع الكائنات الحيّة وميّزها وجاء بهذه المعلومات ونظامها المتكامل إلى عالمنا بعد أن لم تكن .
الدلالة الثانية: طبيعة المعلومات تثير العجب !
“المعلومة لا توجد إلا من فاعل يتصف بالعلم والإرادة ..”
إنّ طبيعة المعلومات نفسها تثير العجب! فالمادة المكتوبة على شكل أحرف كيميائية في المادة الوراثية ترمز لمعلومات, كما أن الأحرف المكتوبة بالحبر أو الرموز الرقمية في الحاسب ترمز لمعلومات, لكن المعلومة ذاتها ليست الشيء المادي الذي رمز لها, بل هي معنى يُدرك, ليس له كتلة ولا طول ولا عرض, وفهمنا لها يعتمد على طبيعة حيوية غير مادية وهي الإدراك والفكر والوعي, وما نميزه كمعلومات يعكس دائماً نشاطاً مسبقاً لوعي الأشخاص وذكائهم, ويستحيل أن توجد معلومات نوعية ولا أنظمة معالجة للمعلومات المعقدة المتكاملة إلاّ بوعي, وهذه حقيقة بدهية تظهر في تفوّق عقولنا على المادة, وضرورة وجود العلم والقدرة والإرادة لكي يتم ترتيب المادة في بنى مفيدة للحياة.
واسأل نفسك هنا ليتضح لك عظم هذا الدليل:
هل إذا وجدت كتابا تحمل صفحاته كل المعلومات عنك بما في ذلك جميع صفاتك! كلونك وطولك وعينك وتقبلك لبعض الأمراض الوراثية.. وغير ذلك.. هل ستشك لحظة أنّه كُتب بلا علم وإرادة وقدرة! أو أن جمادا كتب ما فيه من معلومات!
هذا بالطبع مُحال!
بل ستتيقن أن وراءه حيّاً عالماً بك!
فكيف بما هو أعظم من ذلك!؟
فإذاً هذا يبرهن أيضاً حتمية وجود خالق عظيم يتصف بالعلم والقدرة والإرادة, منه جاءت هذه المعلومات، فمجرد وجود معلومات تخص كل كائن حي في قلب كل خلية من خلايا جسده دلالة مبهرة عليه سبحانه. وصدق الله تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
الدلالة الثالثة :
” ترتيب مسبق مقصود ! “
لنتأمّل بعمق في بعض الموجودات التي ألفناها مثل الهاتف الجوّال، سنجد أنّ الكهرباء المتدفقة فيه تتبع قوانين الكهرومغناطيسية, ومع ذلك لا تنتج بنية الهاتف النوعية عن هذه القوانين أو غيرها من القوانين الفيزيائية والكيميائية, فالقانون لا يصنع الآلة ولا يحدد كيفية ترتيب أجزائها وتجميعها, فذلك الترتيب هو عمل المصمم, فهو ما يحدد مكان تدفق الكهرباء في أي آلة .
وهذا ما ينطبق على أنظمة الاتصالات الموجودة في الكائنات الحيّة, فقوانين الصوتيات لا تحدد أي الأصوات المنقولة سيتكلم بها صاحب اللغة, كما لا تحدّد خصائص الحبر الكيميائية ترتيب الأحرف في ورقة مطبوعة, وإنما تسمح هذه القوانين بمجال واسع من التسلسلات الممكنة, ويأتي دور التصميم والفعل الواعي في تحديدها.
ووفق المبدأ نفسه نجد الحال في الدنا, إذ لا توجد خصائص كيميائية أو فيزيائية تحدد تسلسل وارتباط وحدات بناء الدنا الأربعة (النوكليوتيدات) وتجعلها ذاتية التنظيم, بل تسمح كيمياء الدنا بارتباط أيٍّ من وحدات بناء الدنا الأربعة بأي موضع أو آخر من هيكل الدنا بنفس القدر من السهولة, كما تسمح خصائص الحبر الكيميائية بأي ترتيب للأحرف في الورقة, وفي الحالتين يحدّد الترتيب الفعل الواعي الناتج عن إرادة وعلم, ليحمل المعلومات والمعاني المطلوبة, وفي حالة الدنا يدلّ غنى التسلسلات بالمعلومات النوعية المشفرة أنّها حتماً من خالق حكيم عليم خبير .
الدلالة الرابعة :
” دلالة ضرورة التكامل “
ما يصفه علماء البيولوجيا هنا هو نظام محكم متكامل يوظّف أجزاء متعددة ضرورية معا، فهناك احتياج متزامن لكل الأجزاء معاً, فالبروتينات – على سبيل المثال – تعتمد في تشكُّلها على معلومات الـدنا, ولكنَّ الـدنا لا يمكن أن يتشكَّل دون بروتين موجود قبله، مما يؤكد أن هذا النظام لا يمكن أن يبدأ إلا بكليته وتكامل أجزائه, فهو نظام وجد بكليّته وتعقيده وإحكامه من البداية,{فتبارك الله أحسن الخالقين}.
يقول ميلر وزميله لفين :
” كل الخلايا الحية محكومة بالمعلومات المختزنة في الدنا الذي يتحول إلى رنا ثم يتحول إلى بروتين، وهو نظام في غاية التعقيد, وكل من هذه الجزيئات الثلاثة يحتاج الاثنين الآخرين، إما ليحفظ له تماسكه أو ليساعده على العمل, فالدنا مثلا يحمل المعلومات ولكنه لا يستطيع أن يفعل استخدامها، ولا حتى أن يستنسخ نفسه دون مساعدة الرنا والبروتين ” .
وهذا كلّه إذا أردنا أن نركّز على داخل الخليّة, أمّا إذا أردنا أن نفكّر في نشأة بناء الخلية ذاتها, فكما يقول ماير: ” ..بناء خلية وظيفية.. سيحتاج أكثر من مجرد المعلومات الجينية التي توجه الاصطناع البروتيني؛ إذ سيحتاج أيضاً -على الأقل- إلى مجموعة بروتينات وجزيئات RNA موجودة مسبقاً.. “, وسيحتاج هذا أيضاً إلى طاقة ليمكن بناء النظام الخلوي، وهذه الطاقة تنتج عن الميتوكندريا والتي هي بدورها بروتينات تحتاج في بنائها إلى الدنا، ويضاف لذلك غشاء من نوع خاص لحماية الخلية والتفاعلات الكيميائية التي تحصل فيها, وهو يعتمد على بروتينات وأنزيمات وجزيئات خلوية, وكل ذلك يعيدنا لنفس النقطة, وهي الحاجة لوجود نظام متكامل توجد أجزاؤه معا في تكامل منظّم هادف. وقد قدّر بعض العلماء أنّ الحد الأدنى من الجينات المطلوبة لحياة خليّة مستقلة عن غيرها وقادرة على النمو السليم هو 473 جين, أي أكثر من نصف مليون حرف نيكلوتيدي بترتيب مخصوص! وهناك تقديرات أعلى فسبحان الذي {أحسن كل شيء خلقه}.
الدلالة الخامسة:
” ما تحمله الخلية من عمل غائي منسّق دقيق “
والعجب يزداد كذلك إذا تأمّلنا في طريقة تفاعل مكونات الخلية مع بعضها في أعمالها التكامليّة الغائية الدقيقةّ ..
فإذا أخذنا مثلاً عمليات مراجعة النَسخ في الحمض النووي الصبغي, نجد أنّها تتحرك نحو غاية محدّدة, تقوم على رصد الخطأ وإصلاحه وطلب الصورة النموذجية للبناء العضوي.
ويزداد العجب عندما ندرك أنّ بنيان الحمض النووي الصبغيّ عرضة للفساد السريع بما يصيبه من أعطاب مهلكة, ولكن ثمّة آليات كثيرة متنوعة وذكيّة تقوم بالإصلاح, وتتضمّن آليات تدقيق متعددة المستويات, تتعرّف على الأعطاب التي تحدث خلال تضاعف الحمض النووي وتُلغيها بدقّة بالغة, ويتضمّن ذلك أنزيمات تقوم بقطع جزءٍ من شريط الحمض النووي الصبغي المعطوب, وإزالته وتبديله بآخر صحيح.
بل إنّ الأبحاث تكشف عن عمليات عجيبة للاستدراك والتوجيه, فالبروتين إذا أصيب بعطب ينحلّ ليظهر حمضه الأميني من داخله, ثمّ يتعرّف أحد الأنزيمات على هذا الحمض, فيضع في البروتين جزيئاً بروتينيّاً صغيراً كعلامة تبيّن حاله للخليّة ليتمّ التخلّص منه بعد ذلك !.
إنّ هذا العمل الغائي وما فيه من مظاهر تكامل وتنسيق دقيق يظهر فارقاً عظيماً تختصّ به الكائنات الحيّة في أدقّ مكوناتها الخلوية, عن تلك الموجودات الماديّة المحسوسة التي تفتقد لهذه الخواص, فلا يمكن أن تنشأ عن مجردّها، وهو ما يحتّم كذلك خالقاً حكيماً متصفاً بالحياة والعلم والإرادة والقدرة أبدع وأتقن، وأخضع كل شيء لعظمته وقدرته .
-
وليس هذا كلّ شيء !
بدأ علماء البيولوجيا مؤخراً في استيعاب أنّ المعلومات الحيويّة متعددة الأبعاد بشكل عميق جداً وتتحرك في جميع الاتجاهات من خلال شبكة اتصالات واسعة النطاق, وأنّ الطبقات المختلفة للمعلومات لا تتجاوب فقط مع المحيط الخلوي, بل تتداخل بقوة مع البيئة الخارجية كذلك, وأنّ المعلومات الحيويّة ليست مقصورة على الدنا وتسلسلاته وشيفرته فقط, بل هناك شبكة اتصالات وتبادل معلومات واسعة بين أجزاء متنوعة في الخلية, إضافة للاتصالات بين الخلايا والأنسجة والأعضاء المختلفة, هذا وإدراكنا لأعجوبة المعلومات لا يزال يتسع! وصدق تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا }.
ثم إنّ لنا حديثاً متصلاً أيضاً بخصائص أخرى لا تنتمي لعالم المادة غير الحية, مثل الوعي والإرادة الحرة والقيم ونحو ذلك مما تتميز به حياتنا وذواتنا, ولا شك أنّ هذه الخصائص ممّا يدخل في الاستدلال بالحياة, ولكنّها تستدعي وقفات خاصّة نتأمّل فيها عجيب صنع الله تعالى, وذلك في مقالات قادمة إن شاء الله.
-
وفي الختام :
والخلاصة مما سبق أنّ الحياة دليل مبهر على الخالق وكماله سبحانه, فالإنسان يدرك بفطرته أنّ الحياة لا يمكن أن تأتي من مصدر لا حياة فيه, ويدرك بالتفكّر وجوهاً عديدة لدلالة الحياة على الخالق سبحانه, كما قال تعالى:{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}، ويمكن أن نلخّص بعض ذلك كما يلي:
أنّ الحياة تتضمّن نظاماً بنائياً تكاملياً لغاية الحفاظ على النفس والنوع, وهذا العمل البنائي التكاملي المقاوم للتفكّك لا يوجد عند غياب الحياة, ويكشف عن تميّز الحياة واستحالة مجيئها من مجرد المادة المحسوسة فقط.
أنّ المكونات المادية غير الحيّة تفتقد المعلومات التي تنظّم العمل البنائي الداخلي للكائنات الحية, وتفتقد نظام معالجتها, فلا يمكن أن تكون مصدراً لها, ولا يمكن أن يكون مصدر المعلومات إلاّ من يعلم معناها ويريد إيصال مضامينها من خلال تسلسلات رموزها، ومن المستحيل وجود المعلومة بدون ترتيب واعٍ لتسلسل ما يرمز لها, والرموز الكيميائية كذلك لا يمكن أن تفيد المعلومة إلاّ إذا اختير لها بقصد وعلم تسلسلات معينة من بين احتمالات التسلسل الكثيرة الممكنة وفق القوانين الطبيعية.
لا يمكن أن تنشأ الحياة إلاّ كنظام متكامل مع بعضه من البداية, وهذا ظاهر من افتقار كل مكون إلى غيره بطريقة تجعل من المستحيل وجود البعض وبقائه دون البعض الذي يتكامل معه, مع وجود الشيفرة وعمليات الترجمة التي تحقق التواصل وتنسّق العمل البنائي المتواصل.
في عمل مكونات الخلية غائيّةً وتكامل وتنسيق دقيق, وتجاوب مع الأحداث وتواصل وتفاعل مع المحيط الداخلي والبيئة, وذلك لا يمتّ بصلة لغير الأحياء, ويقال مثل ذلك في الوعي والإرادة الحرّة وغيرها من سمات غير مادية يأتي الكلام فيها في مقالات قادمة إن شاء الله.
وهذا كلّه يحتّم أنّ وجود الحياة وسط البيئة المادية غير الحيّة كان بفاعل خارج عنها يتصف بكمال العلم والحكمة والقدرة والإرادة, فهي تفتقر للخالق الحيّ الذي أنشأها وأعطاها حياتها وهداها لقوامها وميّزها بقدرته وعلمه وحكمته, وأمدّها بهذه القدرات والمعلومات والنظم الدقيقة المتكاملة, فهي لا شكّ من صنع العليم الحكيم العظيم القدير سبحانه, وهذا كلّه يدفع العاقل للسعي لتحقيق الغاية التي خلق بهذه القدرات من أجلها, كما قال تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا (18) ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (19)} [الإسراء : 18-19].