الوصف
وأنت تفحص الأدلة حول قضية ما, تستعمل قدرتك على التعقّل, وتسعى للتفريق بين ما هو حقيقي وغير حقيقي, وبين ما هو صواب وخطأ, وتستعمل لذلك أدوات متعددة للاستدلال, وتستعمل مفردات مثل (واقع) و (حقيقة) و (إثبات).. ← والعجيب أن يفعل الواحد منّا ذلك وهو يبحث في أدلّة وجود الله, وفعله ذلك في الحقيقة من أعظم الأدلة على وجوده وكماله سبحانه! • كيف ذلك؟ • لنرى من خلال بقية المقال .
مقالة
وأنت تفحص الأدلة حول قضية ما, تستعمل قدرتك على التعقّل, وتسعى للتفريق بين ما هو حقيقي وغير حقيقي, وبين ما هو صواب وخطأ, وتستعمل لذلك أدوات متعددة للاستدلال, وتستعمل مفردات مثل (واقع) و (حقيقة) و (إثبات)..
← والعجيب أن يفعل الواحد منّا ذلك وهو يبحث في أدلّة وجود الله, وفعله ذلك في الحقيقة من أعظم الأدلة على وجوده وكماله سبحانه!
• كيف ذلك؟
• لنرى من خلال بقية المقال ..
من أين أتت لنا قدرة التفكير بعقلانية؟
لا يمكن أن يكون ذلك من مجرد المادة غير العاقلة ! هذا مستحيل, وادّعاء ذلك هو بمثابة القول أن شيئاً أتى من مجرد لا شيء, أو أنّ أعمى سيقود حافلة مليئة بطلاب المدارس فيوصلهم دون مساعدة إلى بيوتهم بيتاً بيتاً بالترتيب, ولذا فلا بد أن هذا القدرات العقلانية ابتدأت من خالق عليم حكيم قدير على إنشائها, فمن يفقد الشيء ولا يمتلك القدرة على خلقه لا يمكن أن يكون مصدراً له.
إنّ مفهوم العقل لا يتفق مع النظرة التي تختزل الوجود في الطبيعة المادية, ولا يمكن أن تكون قدرتنا على التعقّل قد أتت من عمليات مادية عشوائية عمياء لا إرادة فيها ولا تبصّر ولا إدراك لغايات ولا غيرها, فلا يمكن أن تنشأ تلك القدرات بدون علم وحكمة وقدرة.
بل إنّ القدرات العقلانية لا تدلّنا فقط على كمال حكمة الله وعلمه وقدرته,وإنما تدلنا كذلك على رحمته, والتي لولاها لما كان ثمّة ضمان لكون قدراتنا العقلية يمكن أن توصلنا إلى الحقائق, فليس ثمّة صلة بين المادة المجرّدة وبين المعاني والغايات, فمن يتنكّر لوجود الله أو كماله -والعياذ بالله- سيهوي إلى هذا العالم الوهمي الذي تغيب فيه شمس المعاني والغايات والحقائق, ويستوي فيه حقّ وباطل, وصواب وخطأ, وجميل وقبيح, وواقع وزيف, فتنهار كل العلوم والمعارف!
◊ ومع أنّ ما سبق كاف في بيان هذا الأمر الذي لا يحتاج لتدليل, إلاّ أنّ من المفيد أنّ نعمّقه بالتأمّل في بعض خصائص العقل التي تبرز مفارقته للعالم المادي المجرّد, لتكون الصورة أمامنا أكثر اكتمالا، وتزداد بصيرة الإنسان بعمق قضية وجود الله تعالى, فمن ذلك هذه الخصائص :
أولاً: الرغبة في الاستكشاف والسعي للعلم, وتجاوز قدرات العقل لما يحتاجه الإنسان ليعيش, كالقدرات التي تمكننا من فهم سنن الكون وقوانين الرياضيات والفيزياء.
• وهذا يدلّ على أنّنا خلقنا لندرك الآيات ونتطلّع للغايات, حتى نصل للعلم النافع الذي يقود لسعادتنا الأبدية في الآخرة.
ثانياً: خاصيّة التبصّر العقلي التي تظهر في الاستدلال والاستنباط والاستقراء.
• كلّ جزء أصغر من الكلّ, ربع البرتقالة جزء منها, فإذا ربع البرتقالة أصغر من البرتقالة الكاملة.
• هذا الاستدلال يبدو واضحاً وبديهياً, ويتّفق مع ما نراه حسياً, ولكن فكّر في التالي: هل إذا غيّرنا البرتقالة إلى أي شيء محسوس سواء كان مما رأيناه كالتفاح أو لم نره سابقاً كأي شيء مصنوع سيخترع في المستقبل, هل ستختلف النتيجة؟ الجواب لا قطعاً, لأنّ العقل يقضي بتلك النتيجة ولو لم يجرّبها, وذلك وفق خاصية التلازم التي يمتلك القدرة على إدراكها دون أن يتوقّف ذلك على تجربة حسيّة لكل ما يندرج ضمن الاستدلال.
ثالثاً: وجود مبادئ عقلية فطرية وضرورية للتفكير العقلاني.
⇓⇓مثل:
• مبدأ السببية, الذي يقود تفكيرنا نحو الأسباب للحوادث.
• ومبدأ عدم التناقض, والذي يصحّح تفكيرنا فيستبعد منه ما يحمل التناقض، مثل: أن يجتمع ما يستحيل اجتماعه كالموت والحياة، والحركة والسكون.
• ومبدأ كون الكل أكبر من الجزء.
• وغير ذلك من مبادئ لا تنتمي لعالم المادة المجردة, وليس لها وجود حسّي, بل هي مبادئ معنوية, تتمتّع بالإطلاق بحيث لا تختلف من شخص لآخر أو ظرف لآخر, فهي ضرورية مطلقة, ولذلك يبني عليها الإنسان تفكيره العقلاني ويستخدمها في الوصول للحقائق وتمييزها.
رابعاً: قدرة تعقّل الغيب الخبري, والاستعانة لذلك بالمقايسة والتجريد.
• فإذا أخبرت عن وجود بناية تتكون من مئة طابق, وأنت لم تر في حياتك بناية تبلغ أكثر من عشرة طوابق, فإنّك ستتمكّن من تجريد معنى الطوابق وتستخدم معنى الأعداد المجرّد لتدرك معنى البناية المكونة من مئة طابق, بل قد تولّد بهذه القدرة خيالات جديدة ولو لم تكن موجودة فعلياً.
خامساً: استقلال القدرات العقلية عن التبعية الكاملة للحس؛ فالعقل وإن كان يستفيد من التجارب الحسية في أمور كثيرة، إلاّ أنّه يستقل بمعرفة بعض الأمور بدون تجارب حسيّة، فلا يكون تابعا للحس فيها..
• فإذا كانت هذه المفاهيم أو القدرات غير مكتسبة من الحس أو التجربة فمن أين أتى بها الإنسان..؟! نعم لقد رُكبت فيه من لدن الخالق القدير.
⇓⇓ ولنضرب لذلك مثلا في تفريق العقل بين الأمور التي يَستغرِب وجودها، ولكنه لا يجعل وجودها مستحيلا، وبين الأمور التي يحكم العقل باستحالتها مباشرة.
• فلو كنا موجودين قبل مئات السنين من الآن وقال قائل: أنا أتكلم مع شخص آخر بشكل مباشر وهو في بلد آخر، لاستغرب الناس ذلك واستبعدوه، ولكنهم لا يجعلونه من المستحيلات العقلية .. وها نحن اليوم نعيش ما كان يستبعدونه.
• وكذلك لو قيل لك: تخيل فيلاً ولكن له أجنحة، فإنك تستبعد ذلك وتستغربه.. ولكنك لا تجعله مستحيلا عقلا ، بل يمكنك تخيله.
• ولكن لو قيل لك: تخيل فيلا وهو كالأسد في كل صفاته.. في لونه وطوله وعرضه ووزنه وجلده، لمنع عقلك ذلك لأن هذه الصورة فيها جمع بين نقيضين، وكذلك لو قيل لك تخيل كرسيا يتحرك وهو ساكن في الوقت ذاته، لمنع عقلك ذلك أيضا، ولو لم تسبق لك تجربة حسية حول هذا الموضوع.
خالق عظيـــم
• إذا تصورت طبيعة كل هذه القدرات التي تتجاوز حدود الطبيعة المادية المحسوسة, ستتيقن أن المادة لا يمكن أن تنتجها، ممّا يدلّنا على أنّ مصدرها خالق عظيم حكيم رحيم, وأنه هو وحده القادر على هذا الخلق, فحتّى الإنسان الذي أُعطي هذه القدرات العقلية لا يستطيع أن يعطيها لغيره, لعدم اتصافه بكمال القدرة والعلم والحكمة, ولأنّه لا يملك أن يتجاوز في مصنوعاته المادة فيهب الحياة والعقل والقدرات الخارجة عن الطبيعة الماديّة, ولكي نزيد هذا الأمر وضوحاً, لنتأمّل في الحواسيب..
• فالإنسان يصنع الحواسيب ويدخل فيها المعلومات والقواعد، ولكنها مع تعقيدها البالغ لا تملك القدرة على التبصر- مثلا -, وغاية ما فيها من قدرات هي قدرات مستعارة من برمجة الإنسان, وهي تتعامل معها دون إدراك وتبصّر وفهم, بل تتعامل معها كرموز يمكن أن تبدّل برموز أخرى, فلو برمجنا الحاسوب على أن يتعامل مع رمز الموجب على أنّه سالب لقبل ذلك, فالحواسيب مصمّمة بناء على قواعد تراكيبية لا على دلالات تتعقّلها! فهي تتعامل مع الرموز كتراكيب تتغير لا كمعانٍ تتعقّل, والأمر كما لو رتّبت أحجاراً لتسقط بترتيب معيّن فتشكّل رمزاً له معنى, فهذا لا يعني أنّ تلك الأحجار عقلت المعنى وتبصّرت فيه.
وبعدُ، فتأمَّل -أخي الكريم- هذه الخصائص التي تتجاوز حدود الطبيعة المادية المحسوسة.. إنها تدلّنا على عظمة خلق الله تعالى وحكمته ورحمته.
وصدق تعالى: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}