الوصف
وبعد هذه الرحلة الرائقة مع البراهين الدالة على وجود الخالق سبحانه، فإنه ينبغي لنا أن نعلم أن مجمل ما تقدم من أدلة لا يدل فقط على وجود الخالق، بل إنها تحمل كذلك دلالة على أن هذا الخالق متصف بالكمال المطلق؛ فما من صفة كمال إلا وهو متصف بها من غير نقص…
مقالة
وبعد هذه الرحلة الرائقة مع البراهين الدالة على وجود الخالق سبحانه، فإنه ينبغي لنا أن نعلم أن مجمل ما تقدم من أدلة لا يدل فقط على وجود الخالق، بل إنها تحمل كذلك دلالة على أن هذا الخالق متصف بالكمال المطلق؛ فما من صفة كمال إلا وهو متصف بها من غير نقص…
فالخالق الذي خلق هذا الكون بعد عدمه، وأبدع الخلق وأحكمه، وبث فيه الحياة ذات الأسرار العجيبة، لا بد أن يكون متصفا بصفات الكمال، وأن يكون متصفا بها على وجه لا نقص فيه؛ فلا بد أن يكون حيا عليما قديرا حكيما، متصفا بالإرادة، لا شريك له في خلقه ولا ملكه ولا تدبيره.
كما أننا إذا تأملنا ما أودعه الخالق ﷻ في النفس البشرية من الغرائز كأصالة التدين، والإرادة الحرة، والقدرات العقلية… فإننا نجد أنفسنا أمام براهين دالة على أن هذا الخالق -بالإضافة إلى ما تقدم- متصف بالرحمة العامة الشاملة، والعدل التام الذي لا يشوبه ظلم؛ وذلك لما أودعه سبحانه بين جنباتنا من أدلة مرشدة، وأحوال مشاهدة متجددة، تهدينا إلى الصراط المستقيم، وتوضح لنا اتجاه الطريق القويم.
أولا: هدايات الكمال الإلهي
إن التأمل في معنى الكمال الإلهي من أعظم ما يجعل العبد محبا للخالق سبحانه، دائم الخضوع لجلاله، معلقا قلبه به مخلصا له.. وكما أن تأمل الكمال الإلهي يؤثر في قلب الإنسان، فإنه يؤثر في سلوكه واستقامته.. وكيف لا يصل العبد إلى هذه الحال الإيمانية السامية، إذا تأمل في أهم معاني الكمال الإلهي؟! ، ومنها :
- أن الله تعالى متصف بصفات الكمال على أكمل وجه، فكل صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، فإن الخالق سبحانه متصف بها على جهة الكمال من غير نقص؛ فالحياة -مثلا- صفة كمال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، والله تعالى متصف بالحياة الكاملة .. حياة أزلية أبدية، لم تسبق بعدم، ولا يلحقها فناء، ولا يلحقها أي وجه من وجوه النقص الأخرى.. {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم}.
- وهذا يقال كذلك في باقي صفات الكمال، كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والعدل والرحمة.. فكل هذه الصفات يتصف الخالق ﷻ بها على أكمل وجه.
- أن اتصاف الخالق سبحانه بهذه الصفات لا بد أن يكون على وجه الاتّساق بينها؛ فلا تعارض ولا تناقض في اتصافه بهذه الصفات جميعا.. فصفات الكمال لا تتعارض في حق الخالق سبحانه، لأنه يتصف بها على وجه الكمال.
- فاتصافه ﷻ بالعدل على أكمل وجه يقتضي إيقاع العقوبة على مستحقها، وهذا يتّسق مع صفة الرحمة؛ فالرحمة لا تعني عدم معاقبة من يستحق العقوبة.
واتصافه تعالى بالقدرة التامة لا يتنافى مع اتصافه بالحكمة الكاملة البالغة؛ فعدم فعل الله تعالى بعض الأمور في بعض الأحيان لا يعني نقصا في القدرة، بل هذا راجع إلى حكمة الله البالغة التي تقتضي عدم فعل بعض الأفعال في بعض الأحوال.
وتأمل هذه الجهة من جهات الكمال من أعظم ما يبين الكمال الإلهي؛ وذلك لأن البشر يسعون دائما إلى التحلي بصفات الكمال، ولكنهم لا ينفكون عن وجود نقص من جهة تغليب صفة من الصفات الحسنة على صفة أخرى، وسبب هذا أن البشر لا يمكن أن يتصفوا بصفات الكمال على وجه لا نقص فيه، بل النقص ملازم لهم.
ومن أعظم المعاني المتعلقة بالكمال الإلهي: أن يدرك الإنسان أن الخالق سبحانه غني عما سواه؛ فلا يحتاج في كماله إلى المخلوقات، بل كل المخلوقات محتاجة إليه، مفتقرة إلى عونه، لا تقوم إلا بحوله وقوته.
وذلك أن من أهم ما يترتب على اتصافه سبحانه بصفات الكمال على أكمل وجه: أن كماله ذاتي، لم يكتسبه من غيره؛ فكما أن وجود الخالق سبحانه لا افتقار فيه إلى غيره، فكماله كذلك لا افتقار فيه إلى غيره، وكما أن المخلوقات مفتقرة في وجودها إلى الخالق سبحانه، فإنه مفتقرة في كمالها المناسب لها إلى الخالق ﷻ.
وفي إجمال هذه المعاني يقول عن ابن عباس رضي الله عنهما: “الصمد هو السيد الذي قد كمل في سؤدده، والشريف الذي كمل في شرفه، والعظيم الذي كمل في عظمته، والحليم الذي كمل في حلمه، والغني الذي كمل في غناه والجبار الذي كمل في جبروته، والعالم الذي كمل في علمه، والحكيم الذي كمل في حكمته وهو الله سبحانه، وهذه صفة لا تنبغي إلا له ليس له كفوء، ولا يساويه أحد”.
[أخرجه عبدالرزاق في التفسير: (٢/ ٤٠٧). والطبري في تفسيره: (٣٠/ ٣٤٦)].
إن هذه المعاني العظيمة التي تبين لنا معنى الكمال الإلهي تتوافق مع الفطرة السليمة؛ وهي من المعاني الضرورية التي لا يستطيع أحد التهرب منها.. فكيف يمكن أن يكون الخالق الذي أوجد هذا الكون المتقن غير متصف بصفات الكمال على الوجه الأكمل… إذا لاختل نظام الكون، ولما استقر للإنسان عيش على هذه الأرض… {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولها ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا}.
إذن فنحن أمام حقيقة مرتبطة بحقيقة وجود الخالق، بل لا يمكن أن نفصل بينها وبين حقيقة وجوده..
(٢) ثانيا: أدلة الكمال الإلهي
ولمزيد من ترسيخ هذا المعنى فلنتأمل معا بعض الأدلة المهمة الدالة على أن الخالق لا بد أن يتصف بصفات الكمال:
- الدليل الأول: وهو دليل إجمالي عام، قائم على الفهم الصحيح لوجود الخالق سبحانه.
فقد تقدم معنا في دليل الخلق والإيجاد أن وجوده سبحانه لا يفتقر إلى سبب، لأننا نرى حولنا مخلوقات وجدت بعد أن لم تكن موجودة، أي أنها افتقرت في وجودها إلى غيرها؛ فإذا استمرت سلسلة الافتقار هذه إلى ما لا نهاية، بحيث لا يوجد إلا مخلوق مفتقر في وجوده إلى مخلوق مفتقر آخر، فهذا يلزم منه عدم وجود المخلوقات؛ لأنّ ذلك التسلسل يعني عدم وجود سبب أوّل لها ولكن هذه المخلوقات موجودة، فدل على أن هناك خالقا غير محتاج في وجوده إلى أحد قد بدأ خلق هذه المخلوقات.
ومن اللوازم التي تترتب على هذا الأصل الراسخ:
أن الكمال الإلهي لا بد أن يكون من ذات الخالق سبحانه، لا يفتقر فيه إلى غيره؛ وإلاّ كان محتاجاً مفتقراً تعالى عن ذلك, ثم إنّنا نرى أن الخلق ناقصون، يحتاجون إلى من يكملهم من صفات كمال المخلوقين التي تليق بهم، فكما أنهم مفتقرون في وجودهم إلى خالق غير مفتقر، فإنهم مفتقرون فيما يتصفون به من صفات كمال مناسبة لهم إلى خالق متصف بالكمال المطلق، غير محتاج في كماله إلى أحد، وإلا لما رأينا اتصاف الخلق بشيء من صفات الكمال المناسبة لهم.
إذن فطبيعة الوجود الإلهي تقتضي أنه كامل الصفات؛ لأنه لا يحتاج لأحدٍ ولم يفتقر لأحد في وجوده ولا صفاته ولا فعله.. وهذا هو معنى اسم الله تعالى (القيوم)، فإنه لا يحتاج في وجوده ولا في كماله إلى المخلوقات، والمخلوقات مفتقرة في وجودها وكمالها إليه سبحانه.
- الدليل الثاني: وهو دليل تفصيلي، نتأمل من خلاله بعض المظاهر التي نراها حولنا، والتي تدل يقينا على أن الخالق لا بد أن يتصف بصفات الكمال على وجه لا نقص فيه، ومن تلك الصفات:
- كمال الاستغناء والقيومية؛ فخلق المخلوقات بعد عدمها لا يمكن أن يكون مع احتياج الخالق إلى غيره، فإنه لو احتاج إلى غيره وكان ذلك الغير محتاجا للزم من ذلك عدم وجود شيء كما سبق بيانه.
- كمال الحياة؛ لأن خلق المخلوقات لا يكون مع الموت، بل لا يكون مع حياة ناقصة.
- كمال القدرة؛ لأن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود لا يمكن مع القدرة الناقصة، فضلا عن العجز.
- كمال العلم والحكمة؛ فخلق المخلوقات على الوجه الذي نراه لا يمكن أن يكون مع علم ناقص، أو حكمة غير تامة.
- الإرادة النافذة والمشيئة التامة؛ وهذا شرط في الأفعال عموما، كما أن وجود المخلوقات على كيفية معينة وهيئة معينة وشكل معين، بحيث يتميز بعضها عن بعض، يدل على الإرادة والمشيئة.
- الرحمة؛ وذلك لما نرى من إنعام الخالق على خلقه بأنواع النعم، كالإنعام بالأرزاق، وتيسير العيش على هذه الأرض.
- الدليل الثالث: وهو دليل قائم على أصل عقلي يسلم به البشر كلهم، وهو أنه يستحيل عقلا أن يجتمع أمران متناقضان في محل واحد، كما يستحيل أن يخلو منهما في وقت واحد، بل لا بد من اتصافه بأحد الأمرين.
وتطبيق هذه القاعدة هنا يكون في صفات الكمال التي لها ضد؛ فإن الله تعالى إذا لم يكن متصفا بصفة الكمال، فإنه يلزم أن يكون متصفا بضدها من صفات النقص؛ وهذا أمر لا يتفق مع الفطرة السليمة، ويتناقض مع ما نراه من إتقان الخلق.
فالله سبحانه إذا لم يكن متصفا بالحياة، فإنه يلزم أن يكون متصفا بالموت؛ لأن الموت والحياة نقيضان، لا يمكن أن يجتمعا في محل واحد، كما لا يمكن أن يخلو محل واحد منها في وقت واحد، بل لا بد من وجود أحدهما.. وبما أن اتصاف الله تعالى بالموت مستحيل، لأنه خلق الخلق، تعين أن يكون سبحانه متصفا بصفة الحياة. ومثل هذا يقال في صفات العلم، والسمع، والبصر، والقدرة، ونحوها من الصفات.
- الدليل الرابع: استحالة أن يكون المخلوق أكمل من الخالق أو مساوياً له، بل وجود الخالق أكمل من المخلوق في كل الأحوال؛ وهذه نتيجة لازمة لكون وجود المخلوق تابعا لوجود الخالق، محتاجا إليه، وبالتالي فلا يمكن أن يكون مساوياً لخالقه لأنه مفتقر إليه، والمفتقر إلى الشيء لا يساويه، فضلاً على أن يكون أكمل منه.
وتأمل في ذلك قوله تعالى: {ولله المثل الأعلى}؛ فإن المثل الأعلى هو الوصف الأكمل والأفضل والأجل، فيلزم من ذلك أن يكون الله تعالى أكمل من كل المخلوقات.
ومن المعاني المتعلقة بهذا الدليل: أن الله تعالى هو الذي أعطى صفة الكمال للمخلوق، وبالتالي فالخالق أولى بالاتصاف بها.. كما أن كل كمال في المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به، وكل ما تنزه عنه المخلوق من صفات نقص لا كمل فيها بوجهٍ فالخالق أولى بالتنزه عنها.
وتأمل في ذلك ما رواه البخاري ومسلم أن النبي ﷺ رأى جارية تبحث عن ولدها في السبي فلما رأته ألقمته ثديها فقال النبي ﷺ للصحابة: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟». قالوا: لا. فقال رسول الله ﷺ: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها».
(٣) ثالثا : الكمال الإلهي وأصول الإيمان الأخرى
وقبل أن نغادر الحديث عن هذه المعاني العظيمة، والتي تجعل قلب الإنسان معلقا بخالقه، لا بد أن نشير إلى ارتباط موضوع الكمال الإلهي بأصول إيمانية أخرى، ولنتناول الحديث هنا عن ارتباط الكمال الإلهي بالإيمان النبوة، وباليوم الآخر.
- أما ارتباط الكمال الإلهي بالإيمان بالنبوّة،
فأن من النعم العظيمة التي ترتبط بكمال الخالق سبحانه: إرسال الرسل إلى البشر، ولنتأمل في بعض صفات الكمال حتى يتبين لنا ارتباط إرسال الرسل بكمال الخالق سبحانه:
- كمال القدرة؛ فإن الإنسان إذا آمن باتصاف الخالق بالقدرة التامة، فإنه يعلم أن إرسال الرسل داخل في قدرته ﷻ؛ فالخالق الذي خلق هذا الكون الفسيح المتقن، والذي خلق الإنسان ويسر له رزقه، قادر على الاتصال مع البشر، ليتم رحمته عليهم، ويرشدهم إلى ما فيه صلاح دنياهم وأخراهم.
- كمال الرحمة والحكمة والعدل؛ فإن من تأمل هذه الصفات، ثم نظر إلى واقع البشر وأحوالهم، تبين له أن إرسال الرسل أمر مهم ولا بد منه، وأنه متسق مع كمال رحمة الله وحكمته وعدله؛ وذلك أن الإنسان لا بد أن يكون خاضا لله تعالى، وهو في هذا الخضوع بحاجة إلي معرفة ما يحبه الله تعالى منه، وما لا يحبه، ليحقق ذلك الخضوع وتتحقق به مصالحه مهتديا بما يشرعه له الخالق.. كما أن الإنسان يتشوف إلى التعرف على كمال الله سبحانه، ولما كان الإنسان وحده غير قادر على تحصيل ذلك، اقتضت حكمة الله تعالى وعدله ورحمته أن يرسل الرسل ليدلوا البشر على ما فيه صلاح أحوالهم ونجاتهم.
- وأما ارتباط الكمال الإلهي بالإيمان باليوم الآخر،
فلا تقتصر دلالة الكمال الإلهي على إمكان النبوة وأهميتها، بل تدل كذلك على إمكان حدوث اليوم الآخر.
- فإن كمال قدرة الله تعالى يدخل فيها قدرته على إيجاد يوم آخر.
- كما أن من تأمل عدل الله تعالى وحكمته، ثم نظر في أحوال الناس في الدنيا تبين له حتمية وجود الجزاء العادل يوم القيامة؛ وذلك لأن طبيعة الدنيا أنها دار امتحان واختبار، وبالتالي فهي دار بلاء وكدر وتظالم بين الخلق… فمن كمال عدل الله تعالى وحكمته أن توجد دار أخرى يتجلى فيها العدل التام، والنعمة الكاملة.
ولنتأمل في نهاية الكلام هذه الآيات من سورة الحشر، والتي سبقها آيات تتحدث عن أحوال بعض من لم يستجيبوا لرسل الله سبحانه، فبين الله تعالى استحالة استواء مصير المصدقين مع مصير المكذبين يوم القيامة، وهذا دال على كمال عدله سبحانه، ثم بين عظيم أمر القرآن، وأهمية العمل به، معقبا ذلك بذكر عدد من أسمائه الدالة على صفاته الكاملة ﷻ.
﴿لا يَستَوي أَصحابُ النّارِ وَأَصحابُ الجَنَّةِ أَصحابُ الجَنَّةِ هُمُ الفائِزونَ ٢٠ لَو أَنزَلنا هذَا القُرآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِن خَشيَةِ اللَّهِ وَتِلكَ الأَمثالُ نَضرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ ٢١ هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحمنُ الرَّحيمُ ٢٢ هُوَ اللَّهُ الَّذي لا إِلهَ إِلّا هُوَ المَلِكُ القُدّوسُ السَّلامُ المُؤمِنُ المُهَيمِنُ العَزيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبحانَ اللَّهِ عَمّا يُشرِكونَ ٢٣ هُوَ اللَّهُ الخالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسماءُ الحُسنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالأَرضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكيمُ٢٤﴾ [الحشر: ٢٠-٢٤].