تواصل معنا

إضاءات عن الاستدلال على وجود الله تعالى (مقالة)

الوصف

مقالة ختامية لمحور أدلة وجود الله تعالى

مقالة

تعرفنا في رحلتنا إلى مجموعة من الأدلة على وجود الله تعالى وكماله؛ لنصل الآن إلى مقالةٍ ختاميةٍ تعرض بعض الإشارات المهمة المكمّلة لِتصوراتنا حول الإيمان بالله تعالى.

  • تعدد أنواع الأدلة وتعدد أمثلة كل نوع.

لاحظنا تعدّد أنواع الأدلّة، ولمسنا قوة كل دليلٍ في ذاته، وكذلك تعدد أنواع الأدلة، فقد مررنا على دلالة الخلق وما فيه من الإتقان والإحكام، ورأينا كيف أنّ الله تعالى أودع الدلائل عليه في حياتنا ووعينا وتعقّلنا وما فطرنا عليه من المعاني والقيم والإرادات، ووقفنا على دلالات عظيمة متتابعة في الجمال والغرائز، واستشعرنا فطرية التدين الأصيلة في نفوس البشر، وسبحان الذي نوّع الآيات على عظمته لتستبين سبيله جلّ وعلا.

وإن الواقف مع طبيعة هذه الأدلة سيجد أنّها أنواع يتضمّن كلّ منها الكثير من الأمثلة، بل قد تكون الأمثلة غير قابلة للحصر. 

  • فدليل الخلق والإيجاد يبرز لك في كل مخلوق، كما قال الشاعر: وفي كل شيء له آية * تدل على أنّه واحد
  • ودليل الإحكام يبرز في كل ما يقع تحت الحواس لو أعملنا فيه أدنى قدر من التأمل، فتظهر دقة الصنعة وحكمة الصانع. 
  • ودليل الحياة يأخذ بمجامع قلبك لو نظرت لأصغر كائن ذو خلية واحدة، فضلا عن الكائنات الأخرى بما فيها من مليارات الخلايا والأنسجة والأعضاء المتكاملة. 

وهكذا نجد الأمر في كل دليل، وهذا لا شك يعظّم من أثر هذه الأدلة في نفوسنا من الإيمان بالله تعالى ومحبته والانقياد له وإخلاص العبودية له سبحانه.

  • ما الذي يلزم لتحصل اليقين؟

إن أدلة وجود الله فطرية ثابتة في النفس، ولا نعني بذلك فطرية الإقرار بوجود الله والخضوع له كما بيّنا في دليل أصالة التدين فحسب، بل إنّ الأدلة العقلية نفسها مبنية على قواعد فطرية وعقلية أولية مثل قاعدة السببية.

وبناء على ذلك، فإنّ اليقين بوجود الله تعالى لا يتطلّب في العموم معرفة كل الأدلة التي يمكن أن تصاغ للاستدلال على ذلك، بل إنّ الأمر لا يحتاج أكثر مما يحصل لكل إنسان من الإيمان الفطري، والتفكّر في خلق الله وآياته وما دلت عليه من كماله سبحانه، فذلك من أعظم أسباب اليقين، فكيف إذا أضيف إلى ذلك قراءة آياته المنزلة في القرآن وهي التي تحوي أعظم الحجج الفطرية والعقلية، وكيف إذا تكلّل ذلك بالاستقامة على أوامره سبحانه والالتزام بأحكامه وتشريعاته، فزاد بذلك إيمان العبد بالطاعات وزاده الله من هداه كما وعد في كتابه {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}.

فالغرض مما قدّمناه في هذا المحور هو لفت الأنظار إلى الآيات الكثيرة الدالة على الله تعالى وكماله، لا أنّنا ابتكرنا شيئاً لم نسبق إليه، وقد نكون قد عمّقنا في بعض صياغات الحجج وفرّعنا فيها، ولهذا التعميق فوائده، لكنّنا لا نقول بأنّ اليقين لا يحصل إلا بمعرفة هذه الصيغ المعينة في الاستدلال، لكن قد ينتفع بها بعض الناس وتؤثّر فيه.

(وقد أشرنا سابقا إلى هذا في مقال: لماذا الحديث عن أدلة وجود الله عزوجل ؟)

  • التعامل مع الوساوس الطارئة.

هل يهتزّ اليقين بكل وسواسٍ يرد على النفس في مسيرتها؟

ينبغي التنبه إلى أن الوساوس لا تدلّ على الشك، ولا يلزم لحصول اليقين وبقائه ألا يعرض أي منها للمؤمن، بل إن العبد تأتيه الوساوس ويشعر بالضيق منها، وهذا بذاته دليلٌ على إيمانه كما جاء في الحديث الذي هو بلسم للقلب، فعن أبي هريرة قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: “وقد وجدتموه؟” قالوا: نعم، قال: “ذاك صريح الإيمان”. (رواه مسلم). فلا تصنف نفسك بأنك شاكٌّ لمجرد لحظة ضعف راودتك فيها بعض التساؤلات أو هاجمتك فيها بعض الوساوس.‏

علّق النووي على الحديث قائلاً: ‌

” فقوله صلى الله عليه وسلم: ذلك صريح الإيمان، ومحض الإيمان، معناه: استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه، ومن النطق به، فضلاً عن اعتقاده، إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققاً وانتفت عنه الريبة والشكوك.”

وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة – رحمه الله – في الفتاوى:

 “والمؤمِنُ يبتلى بوساوس الشيطان وبوساوس الكفر، التي يضيق بها صدره، كما قالتِ الصحابة: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: ذاك صريح الإيمان، وفي رواية: ما يتعاظم أن يتكلم به، قال: الحمد الله الذي رد كيده إلى الوسوسة، أي: حصول هذا الوسواس مع هذه الكراهة العظيمة له، ودفعه عن القلوب هو من صريح الإيمان، كالمجاهد الذي جاءَهُ العدو، فدافعه حتى غلبه، فهذا عظيم الجهاد.. “.

ولوجود الله وصحة الإسلام أدلة قاطعة ظاهرة، فاعتمد على الأدلة واعتقد ما تدل عليه بيقين، ولا تلتفت للوساوس ولا تعتبر أن سببها هو شك منك بالضرورة، فكل إنسان قد يتعرّض لذلك من الشيطان ليحزنه ويدخله في دوامة ويفسد عليه صفو علاقته بالله، ويمكن أن تصيب أي دارس حتى المتخصصين، لأنها في حقيقتها وسوسة من الشيطان، ولأنّ عدو الله يغتاظ أكثر ما يغتاظ من سعي المؤمن في تحصين إيمانه، فكلما ازداد دليلا، ألقى إليه الوساوس، والمؤمن يستعيذ برب الناس، في دفع شر الوسواس الخناس. 

وتأمل في حضور الشيطان عند تلقي آي الله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم } فله سعيٌ حثيثٌ خبيثٌ في محاولة حجب نور الحقّ عن المؤمن وتشويشه وإلقاء الشكّ فيه حال تلقي المؤمنين للبينات من ربهم. ‏

 قال ابن تيمية رحمه الله:

 ” ولهذا يوجدُ عند طلاب العلم والعباد من الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم؛ لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه، بل هو مقبل على هواه في غفلة عن ذكر ربه، وهذا مطلوب الشيطان، بخلاف المتوجهين إلى ربهم بالعلم والعبادة، فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله تعالى”. اهـ.

 

وعلى المؤمن ألا ينسى تعاهد القلب وسقيه بماء الإيمان بقراءة كتاب الله وتدبره والاهتمام بالصلاة والإحسان فيها، وغير ذلك من العبادات القلبية والقولية والعملية، فلا ينبغي أن ينشغل عن ورده والعناية به والإحسان فيه،‏ ومع الاستمرار والصبر وإخلاص النية سيحترق عدو الله، وسيجد المؤمن انشراحا وراحة عظيمة بإذن الله.

  • حصول اليقين بالله تعالى يكمل بأدلة مكونات العقيدة الأخرى.

  من الأدلة التي قد يغفل بعض الناس عن دلالتها على وجود الله تعالى أدلة النبوة وأدلة صحة الإسلام عموماً، فالنبي يدل على من أرسله، والدين يدل على من أنزله، ولذلك فإنّ دلائل النبوة ومعجزاتها هي مما يثبّت ويزيد اليقين بالله تعالى، وكذلك ما يدل على صحة الإسلام عموماً من محاسن وكمالات هذا الدين العظيم.

  • هل ينتهى الأمر عند الإيمان بوجود الله؟

ينبغي التنبّه إلى أنّ اليقين بوجود الله تعالى وكماله ووحدانيته لا يكفي في النجاة إذا لم يقترن بلوازمه، فالإيمان بالله يلزم منه التسليم لأمره والتصديق بخبره، والأمر والخبر جاء به الرسل الذين يبلّغون ما أنزل الله من الوحي.

إنّ الإقرار بوجود الله فطرة وضرورة عقلية، ولولا مكابرات أهل الأهواء لما احتاجت هذه القضية لكتابة صفحة! فيجب ألا تقتصر الهمم على إثبات هذه القضية وحدها، فهي بداية لا نهاية، ثم يترتب عليها كل شيء في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، ليكون الإيمان بالله بمعناه الشمولي ولوازمه قضية الإنسان الكبرى التي لا يقاربها شيء في عظمتها وخطورتها.

تأمل محور الرسالات في قوله تعالى:{ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}، فهي عبادة الله بكل معانيها والكفر بالطاغوت بكل معانيه، {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين}، إنها عبادة الله بالمحبة والتعظيم المتغذّيان بمعرفته بالفطرة والوحي، وبمشاعر القلب خوفاً ورجاءً ورغبةً ورهبةً وتسليماً، وبكل جارحة وقول يحبه تبارك وتعالى.

 ولأنها عبادة لا أي محبة، ولأنه الله الواحد الأحد، فإن المؤمن يأبى أن يجعل له نداً في عبادته وأسمائه وصفاته، ويرى ذلك أعظم الظلم، فيوالي ويعادي فيه، فإذا فقهت ذلك انضبطت مواقفك وحركاتك وسكناتك حتى يكون محياك ومماتك لله، فتُخلِص وتَخلُص، فلا يسلط عليك شيطان وتحرق بنورك الظلمات.

لذا، فإنّ مشروع الميسّر في تعزيز اليقين، سيواصل عمله بعون الله على تقديم المزيد من المقالات في محاور قادمة، ومع ختام هذا المحور، فإننا نسأل الله العظيم ربّ العرش العظيم أن يتقبّل من كل من كتب وتابع وأشرف ودقّق وحرّر وبحث في سبيل إنتاج هذه المقالات، ونرجوه جلّ وعلا أن ينفع بما كُتِب ويجعله نوراً على طريق كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ للوصول إلى القلب السليم الذي يفلح من لقي الله به.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا

المرفقات

المصدر

أضف تعليقا