الوصف
تنتشرُ الآنَ بينَ الناسِ حالةٌ من الافتتانِ بالعلومِ الطبيعيةِ وعلمائها؛وذلك لِما ينعمُ فيه البشرُ حديثًا من رفاهيةٍ بسببِ المخترعاتِ العلميةِ التي طوَّرتْ وغيرتْ وجهَ الحياةِ على الأرضِ خلالَ عقودٍ من الزمن، ونجدُ هذه الحالةَ بشكلٍ بارزٍ في كثيرٍ من طلابِ العلومِ الطبيعيةِ والتقنيةِ الحديثةِ والمشتغلينَ بها، حتى باتت قدسيةُ هذه العلومِ من المسلَّمات بين الناس، ونلحظُ بينهم كثيرًا من التشدُّد والتعظيم، بل وقد تصل المغالاةُ إلى محاولاتِ الاقتصارِ على العلم التجريبي كمصدرٍ للحقائقِ وحلِ جميعِ مشكلاتِ الحياة، والاكتفاءِ به كمعيارٍ للحكمِ على كلِّ ما يعرضُ للإنسانِ من ظواهرٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ ودينيةٍ وفلسفيةٍ، حتى صارَ ما لا يقعُ داخلَ إطارِ التجريبِ في مقامِ العدمِ.
مقالة
تنتشرُ الآنَ بينَ الناسِ حالةٌ من الافتتانِ بالعلومِ الطبيعيةِ وعلمائها؛وذلك لِما ينعمُ فيه البشرُ حديثًا من رفاهيةٍ بسببِ المخترعاتِ العلميةِ التي طوَّرتْ وغيرتْ وجهَ الحياةِ على الأرضِ خلالَ عقودٍ من الزمن، ونجدُ هذه الحالةَ بشكلٍ بارزٍ في كثيرٍ من طلابِ العلومِ الطبيعيةِ والتقنيةِ الحديثةِ والمشتغلينَ بها، حتى باتت قدسيةُ هذه العلومِ من المسلَّمات بين الناس، ونلحظُ بينهم كثيرًا من التشدُّد والتعظيم، بل وقد تصل المغالاةُ إلى محاولاتِ الاقتصارِ على العلم التجريبي كمصدرٍ للحقائقِ وحلِ جميعِ مشكلاتِ الحياة، والاكتفاءِ به كمعيارٍ للحكمِ على كلِّ ما يعرضُ للإنسانِ من ظواهرٍ نفسيةٍ واجتماعيةٍ وأخلاقيةٍ ودينيةٍ وفلسفيةٍ، حتى صارَ ما لا يقعُ داخلَ إطارِ التجريبِ في مقامِ العدمِ.
ولا شكَّ أنَّ النظرياتِ العلميةَ التجريبيةَ لها أثرٌ كبيرٌ على اتجاهاتِ الفكرِ البشري في شتى المجالاتِ منذُ بدايةِ عصرِ ازدهارِ العلمِ التجريبي والثورةِ الصناعية، فمثلًا حين اشتهرتِ النظريةُ النسبيةُ وجدنا الأفكارَ البشريةَ تحذو حذوَها وتسعى أنْ تجعلَ كلَّ شيءٍ نسبيًا، حتى فهْمُ النصوصِ الدينيةِ مثلًا يصير نسبيًّا، وحين اشتهرت نظرياتُ الكمِّ ومبدأِ عدمِ التأكدِ، انتشرت الأطروحاتُ الفكريةُ في كلِّ المجالاتِ تزعمُ عدمَ وجودِ حقائقٍ يقينيةٍ مطلقةٍ، ولم يسْلَم أيُّ مجالٍ فكريٍّ إنسانيٍّ من محاولاتِ التطويعِ للخضوعِ لقواعدِ المناهجِ العلميةِ التجريبيةِ، وإعادةِ صياغةِ كلِّ المجالاتِ الفكريةِ لتوافقَ نظرياتِها.
ونبدأُ بالتعريفِ بالمنهجِ العلميِّ التجريبيِّ، فنجدُ بعدَ المرورِ بالعديدِ من التعريفاتِ المختلفةِ أنَّها جميعًا تدور في إطارٍ تصفه بأنَّه العمليةُ التي يمارسُها الإنسانُ في العلومِ الطبيعيةِ للوصولِ إلى نظرياتٍ تفسِّرُ العلاقاتِ بينَ أجزاءِ الكونِ المتنوعةِ، وتتضمنُ هذه العمليةُ خطواتٍ تبدأُ بالرصدِ والملاحظةِ وجمعِ المعلوماتِ ثمَّ الاستقراءِ وصياغةِ الفرضياتِ وطرحِ الأسئلةِ ووضعِ تخميناتٍ قابلةٍ للتجريبِ، ثمَّ تأتي مرحلةُ التجريبِ ثمَّ مرحلةُ تحليلِ النتائجِ ومقارنتِها معَ الفرضياتِ والتوقعاتِ قبلَ التجريبِ ومقارنتِها بنتائجِ التجاربِ المشابهةِ.
وننوِّهُ هنا إلى الخلطِ الحادثِ بينَ تعريفِ العلمِ التجريبيّ وبينَ المعرفةِ الإنسانيةِ، فلا بدَّ من التأكيدِ على أنَّ المعرفةَ الإنسانيةَ أشملُ وأعمُّ، وأنَّ العلمَ التجريبيَّ هو أحدُ المدخلاتِ والمصادرِ المعرفيةِ التي تشملُ أيضًا مصادرَ أخرى مثلَ الحسِّ والمشاهدةِ وما يتبعُها من تجربةٍ ثمَّ العقلُ والحدسُ والخبرُ، وهذه المصادرُ تتكاملُ فيما بينها ويعتمدُ عليها كلُّ إنسانٍ في بناءِ معرفتِه وإنْ لم يدركْ ذلك، فكلُّ مصدرٍ وله مدخلاتُه وطرقُه وله النطاقُ الخاصُ به.
وقد روَّجَ الكثيرُ من روادِ هذه “النزعة العلموية” للعديدِ من الأدلةِ التي تقطعُ – بزعمهم – بكفايةِ العلمِ التجريبيّ و الاقتصارِ عليه في كلِّ نواحي الحياةِ، منها أنَّه قد فسَّرَ الكثيرَ من ظواهرِ الكونِ وأسرارِه العظيمةِ، فلمْ تعدْ معَه الحاجةُ إلى مصدرٍ آخرٍ، وبمثلِ ذلكَ يقولُ أوجست كونت : “كلُّ المتعلمينَ من أبناءِ المدينةِ الحديثةِ يعتقدونَ بأنَّ الحوادثَ العالميةَ والظواهرَ الطبيعيةَ لا بدَّ لها من أنْ تعودَ لسببٍ طبيعيّ.”ونردُّ على ذلك بأنَّها دعوى غيرُ صحيحةٍ ولا دليلَ عليها، ولا يمكنُ الاستدلالُ عليها لا بالعلمِ الطبيعيّ نفسهِ – ففي ذلك خطأٌ منهجيٌّ بالاستدلالِ على صحةِ الشيءِ بنفسِه – ولا بغيرِ العلمِ الطبيعيّ؛ لأنَّهم إنْ فعلوا، ناقضوا أصلَهم المزعومَ بالاقتصارِ على التجريبِ.
ويزعمُ أيضًا المغالونَ أنَّ العلمَ التجريبيَّ وحدَه يملكُ المعاييرَ الموحدةَ، وأنَّه وحدَه الذي لا ينحازُ ولا يحيدُ، وهو ادعاءٌ ظاهرُ البطلانِ ولا يحتاجُ لكثيرِ أدلةٍ لنقدِه، فأولًا: لا نكادُ نجدُ معيارًا لتحديدِ مجالاتِ العلمِ التجريبيّ سوى أهواءَ العلماءِ، فنجدُهم يقرُّون أحيانًا بمكوناتٍ لا تخضعُ للتجريب، وحينَ يستخدمُ آخرونَ نفسَ الوسائلِ والقوانينِ لإثباتِ فرضيةٍ فلسفيةٍ أو دينيةٍ – كإثباتِ وجودِ الخالقِ مثلًا – نجدُ الاعتراضاتِ بأنَّ هذه المجالاتِ لا تدخلُ في إطارِ العلمِ التجريبيّ، وحتى في داخلِ الإطارِ التجريبيّ نفسِه تظهرُ بوضوحٍ سيطرةُ الأهواءِ والتحيزِ المسبقِ والانتماءِ العرقيّ والفكريّ، وعنْ ذلكَ قالَ دومينيك فينك: “في كثيرٍ من الأحيانِ لا يتمُ تقييمُ الإثباتاتِ العلميةِ بعيدًا عن المقاييسِ الشخصيةِ والانحيازِ.”
ومنْ منطلقٍ آخرَ يصرِّحُ برتراند راسل: “إنَّ الذي يعجزُ العلمُ الطبيعيُّ عن اكتشافِه لا يستطيعُ البشرُ معرفتَه.”ويقول جي مورلاند: ” العلمُ وحدُه يحققُ الحقَ، وكلُّ شيءٍ آخرَ مجردُ عقيدةٍ ورأيٍ.”وبهذا المنطلقِ تُقَوَّضُ الفلسفةُ والأديانُ بدعوى أنَّها لا تخضعُ للتجريبِ، وهى أيضًا دعوى خاطئةٌ؛ لاستحالةِ توحيدِ منهجٍ محددٍ لاستيعابِ كلِّ الظواهرِ الكونيةِ والإنسانيةِ وغيرِها، فضلًا عن أنَّ المنهجَ التجريبيَّ ذاتَه يستخدمُ مدخلاتٍ معرفيةٍ متنوعةٍ وعملياتٍ عقليةٍ مختلفةٍ، وإنْ كانَ للحسِّ المُشَاهَدِ دورٌ محوريٌّ فيها.
لذلك نردّ على هذه الدعوى بأنَّ العلمَ التجريبيّ ما هو إلا إحدى الوسائلِ المعرفيةِ، وأنَّ له دورَه الهامَّ في نطاقِه الخاصِّ به والذي لا يتعدَّاه لغيرِه، ولكنَّه قاصرٌ في أنْ يحتكرَ وحدَه المعرفةَ الإنسانيةَ كلَها، فليسَ كلُّ ما في حياتِنا يُدرَكُ بالحواسِ المباشرةِ أو يخضعُ للتجربةِ، بل إنَّ المنهجَ التجريبيَّ في ذاتِه قائمٌ على باقي المصادرِ المعرفيةِ الأخرى، فيبدأُ كثيرًا من الأحيانِ بافتراضاتٍ عقليةٍ محضةٍ وأفكارٍ حدسيةٍ ثم يأتي الاستدلالُ عليها، ويعتمدُ في كثيرٍ من أحيانِه على المسلماتِ العقليةِ التي لا تحتاجُ لبرهانٍ وعلى المبادئِ العقليةِ الضروريةِ مثلِ الاستدلالِ على الشيءِ غيرِ المحسوسِ بأثرِه (دلالة الأثر على المؤثر)، بل إنّ العلماءَ التجريبيينَ أنفسَهم يتناقلونَ ما توصلوا إليه عن طريقِ الخبرِ وإلا لزمَ على كلِّ أحدٍ أنْ يجربَ بنفسِه كلَّ شيءٍ وأنْ يبرهنَ على كلِّ افتراضٍ وحقيقةٍ، وحتى على البدهياتِ، فيفضي ذلك إلى التسلسلِ والدورِ القبلي ويستحيلُ معه بناءُ أيّ معرفةٍ صلبةٍ.
وأيضًا لا يكادُ يخلو مجالٌ علميٌّ تجريبيٌّ من أوجهِ قصورٍ، فلا نجدُ مثلًا في مجالاتِ الفيزياءِ الحديثةِ نظريةً ثابتةً ثبوتًا مطلقًا، ولا تخلو الافتراضاتُ والأطروحاتُ من أوجهِ عجزٍ أو نقصٍ، وكلما أجابتِ الفيزياءُ عن سؤالٍ ظهرتْ أمامَه عشراتُ الأسئلةِ، ونجدُ المنصفينَ من روادِ المنهجِ العلميّ التجريبيّ يشهدوا بذلك، فيقولُ إسحاق نيوتن: ” أنا لا أعرفُ كيفَ أبدو للعالمِ، ولكنْ أمامَ نفسي أبدو كطفلٍ يلهو على شاطئِ البحرِ، ألهي نفسي بين الحينِ والآخرِ في البحثِ عن حصاةٍ ملساءٍ أو صدفةٍ جميلةٍ أكثرَ من المعتادِ، بينما يمتدُ أمامي محيطُ الحقيقةِ مجهولًا.” ويقولُ أينشتاين: “كلمَّا اقتربتِ القوانينُ من الواقعِ أصبحتْ غيرَ ثابتةٍ، وكلما اقتربتْ من الثباتِ أصبحتْ غيرَ واقعيةٍ.”وقالَ برتراند راسل: “العلماءُ يعترفونَ في تواضعٍ بوجودِ مناطقٍ يجدُ العلمُ نفسَه عاجزًا عنِ الوصولِ إليها.
وجديرٌ بالذكرِ أيضًا أنَّ التعاملَ معَ المنهجِ العلميّ التجريبيّ بنظرةِ التقديسِ ومبدأِ “لا مِساسَ” يقوِّضُ الفكرةَ المركزيةَ في المنهجِ ذاتِه، والتي تقومُ على النقدِ البناءِ المستمرِ والبحثِ الدائمِ عنْ مواطنِ الخطأِ والخللِ، ولا يغيبُ عن أحدٍ كيفَ تأتي النظرياتُ الجديدةُ تصححُ القديمَ وتبينُ خطأَه وتهدمُ المعتقداتِ التي ظلتْ راسخةً كالمسلَّماتِ لقرونٍ من الزمنِ، فنحنُ في هذا المقامِ لسنَا بصددِ التقليلِ من أثرِ العلمِ التجريبيّ أو التحقيرِ من شأنِه، فنحنُ نعتمدُ عليه في جُلِّ أمورِ الحياةِ ونسلكُ منهجَه في علمِنا وعملِنا ونستخدمُ مخترعاتِه ومكتشفاتِه في كلِّ حينٍ وننتفعُ بها، ولكننا ندعو إلى التعقلِ وعدمِ المغالاةِ والبعدِ عن الأوهامِ في تقديسِ العلمِ التجريبيّ وتأليهِه، وإدراكِ أنَّه أداةٌ لها منافعُها ومساوئها، ولها مجالاتٌ خاصةٌ بها تجوزُ فيها ولا تجوزً في غيرِها، وأنَّه يتكاملُ مع باقي مصادرِ المعرفةِ ومع ما تيقَّنَ منه البشرُ من أنظمةٍ أخلاقيةٍ ودينيةٍ، ومن دونِ ذلكَ التكاملِ يصيرُ العلمُ التجريبيّ وسيلةً في أيدي البعضِ ينشرُ بها الماديةَ والطبقيةَ، ويسبِّبُ الدمارَ والتلوثَ ويهدِّدُ التوازنَ البيئيَّ، وهذا مِمَّا يشهدُ به أربابُ المنهجِ ذاتِه، ونذكرُ قولَ أينشتاين: “العلمُ بلا دينٍ هو العرجُ، والدينُ بلا علمٍ هو العمى.”
وفي الختامِ نؤكدُ على تقديرِ العلمِ التجريبيّ والطبيعيّ بشكلٍ خاصٍ في الشريعةِ الإسلاميةِ، فقد حثَّ الإسلامُ على طلبِ العلمِ وعلى إعمارِ الأرضِ كما لم يحثْ دينٌ آخرٌ، والإنسانُ لا قيمةَ له من دونِ منهجٍ يسيرُ عليه ومن دونِ عملٍ نافعٍ مبنيٍّ على علمٍ وقصدٍ، وقد برعَ علماءُ الإسلامِ وسلفُنا الصالحُ في وضعِ مناهجٍ بارعةٍ؛ لنقلِ كافةِ علومِ الدينِ الحنيفِ، فظهرتْ للدنيا عبقريةُ علومِ اللغةِ العربيةِ والنحوِ وما خدمتْ به القرآنَ الكريمَ نقلًا وتلاوةً، ولمعتْ علومُ الحديثِ؛ لتمحيصِ السنَّةِ الصحيحةِ وحمايتِها من الكذبِ والوضعِ والخطأِ، وبرزتْ نباهةُ علماءِ الفقهِ في استخراجِ الأحكامِ ومهارةِ الاستدلالِ، ولا يخفى على أحدٍ ما قدَّمَتْه الحضارةُ الإسلاميةُ للعالمِ كلِّه في عصورِ النهضةِ الإسلاميةِ من علومٍ في كافةِ المجالاتِ البشريةِ والطبيعيةِ كانتْ نواةً للنهضةِ الحديثةِ في أوروبا بشهادةِ المُنْصفينَ من روادِ العلومِ الطبيعيةِ.
فيكفيكَ دليلًا أنْ تقرأَ عن الخوارزميّ والرازيّ وغيرِهم الكثيرِ، وأُحيلُ إلى كتابِ “شمسُ العربِ تسطعُ على الغربِ” للكاتبةِ الألمانيةِ سيغريد هونكه، لِمن أرادَ أنْ يستزيدَ في هذا الصددِ.