الوصف
إنَّ مِنْ تمامِ عقلِ الإنسانِ اعترافُه بقصورِه، وعجزِه عنِ الوصولِ لعمقِ حقائقِ الأشياءِ مِنْ حولِهِ وتبيانِ ماهيّتِها، ومن هنا كانت حاجتُه الدَّؤوبةُ لمعرفةٍ تفوقُ قدراتِه الإدراكيَّةِ تعينُه على فَهمِ نفسِه وفهمِ الكونِ الّذي يحيا به.
مقالة
إنَّ مِنْ تمامِ عقلِ الإنسانِ اعترافُه بقصورِه، وعجزِه عنِ الوصولِ لعمقِ حقائقِ الأشياءِ مِنْ حولِهِ وتبيانِ ماهيّتِها، ومن هنا كانت حاجتُه الدَّؤوبةُ لمعرفةٍ تفوقُ قدراتِه الإدراكيَّةِ تعينُه على فَهمِ نفسِه وفهمِ الكونِ الّذي يحيا به.
ومِنْ لحظةِ إرسالِ اللهِ عزَّ وجلَّ للرُّسل، محمَّلين بأدلَّةِ صدقِ نبوَّتِهم عليهمُ السَّلامُ؛ والعقلُ البشريُّ المؤمنُ الصَّادقُ الخالي منَ الشُّبهاتِ والشَّوائبِ يُدركُ حجمَ حاجتِه لهذا المدادِ السَّماويَّ، شعاعِ النُّورِ الذي أضاءَ عتمتَه، وأهداه السَّبيل، وقدَّمَ له الإجاباتِ الشَّافيةَ والكافيةَ لكلِّ تلكَ الأسئلةِ المؤرِّقةِ الَّتي كانت تقفُ حاجزًا بينَه وبينَ فهمِه لنفسِه، وبينَه وبينَ فهمِه للحياة.
ومِنْ تلك الحواجزِ الَّتي أوجدَتْها الأزماتُ العاطفيَّةُ والنَّفسيَّةُ البشريَّةُ: (مشكلةُ الشَّرِّ)، فالعقلُ الّذي تقبَّلَ صفاتِ اللهِ كما جاءَ بها رسلُه من تمامِ عدلٍ وحكمةٍ ورحمةٍ؛ بدأت مصاعبُ الحياةِ تعبثُ به، مثيرةً الشَّكَّ والرِّيبةَ لتضعَه أمامَ سؤالٍ مركزيٍّ واحد، كانتِ النُّقطةَ الَّتي انطلقَ أغلبُ الملاحدةِ منها في إنكارِهم لوجودِ الله؛ لماذا يوجدُ شرٌّ إن كانَ هناك خالق؟، لماذا هذا الخالقُ لا يُبالي بكلِّ الكوراثِ الَّتي تحُلُّ على مخلوقاتِه؟!.
إذا رجعْنا إلى أصلِ القولِ في وجودِ الشَّرِّ؛ فإنَّنا نقفُ على احتمالاتٍ عدَّة،
- أوَّلها: أنَّ اللهَ الرَّحيمَ اللَّطيفَ لم يخلقِ الشَّرَّ أساسًا، وهذا يعني أنَّه خالقٌ غيرُ قادرٍ على منعِ ظهورِه، ممَّا يعني عدمَ قدرتِه على إدارةِ خلقِه- تعالى ربِّي عمَّا يصفون-،
- وثانيها: أنَّ اللهَ قد خلقَ الشَّرَّ فعلًا ولكنَّه خلقَه لحكمةٍ تتناسبُ مع تمامِ وكمالِ قدرتِه وعلمِه وإرادتِه، بل وحتَّى تمامِ رحمتِه وصفاتِه،
- أمَّا الاحتمالُ الثَّالثُ؛ وهو ما يجنَحُ إليهِ الملاحدةُ: القولُ بأنَّ وجودَ الشَّرِّ دليلٌ على غيابِ الخالقِ، وما قولُهم هذا إلَّا انعكاسٌ لسوءِ فهمٍ وتقديرٍ لطبيعةِ الحياةِ والغايةِ الَّتي خلقَ اللهُ مِنْ أجلِها الدُّنيا، فالعلَّةُ هنا أوِ الآفَّةُ كما أطلقَ عليها الشَّيخ محمدٌ الغزاليُّ: “ آفتُكم أنَّكم لا تعرفون طبيعةَ هذه الحياةِ الدُّنيا، ووظيفةَ البشرِ فيها؛ إنَّها معبَرٌ مؤقَّتٌ إلى مستَقَرٍّ دائمٍ، ولكي يجوزَ الإنسانُ هذا المعبرَ إلى إحدى خاتمتَيه؛ لا بدَّ أن يُبتلى بما يصقلُ معدِنَه، ويهذِّبُ طباعَه، وهذا الابتلاءُ فنونٌ شتَّى…”، فلمْ تُخلقْ هذه الدُّنيا للمتعةِ فقطْ، حتَّى إذا ظهَرَ بها ما يُكدِّرُ صفوَها؛ خلعوا الإيمانَ باللهِ وغابتْ عن أذهانِهم كلُّ صفاتِه الَّتي كانوا يقرُّونَ بها، والَّتي قامت عليها أصولُ الاعتقادِ مدعَّمةً بالأدِّلةِ الشَّرعيَّةِ والعقليَّةِ والكونيَّةِ، وكيف يمكنُ إهمالُ هذه الأدلَّةِ المتحقِّقةِ لصالحِ شبهةٍ بُنيتْ على افتراضِ وجودِ الخالقِ أصلًا، ذاك لأنَّكَ لن تستطيعَ مناقشةَ صفاتِ الشَّيءِ ما لمْ تكنْ مؤمنًا بشكلٍ أو بآخر بوجودِه!.
إنَّ قصورَ العقلِ البشريِّ عن معرفةِ حكمةِ اللهِ مِنْ خلْقِ الشَّرِّ، أو حتَّى محاولاتِه لتفسيرِها لا تعني بالضَّرورةِ غيابَها، فـ(عدمُ العلمِ ليس علمًا بالعدمِ).
كيف ننظرُ إذًا لمشكلةِ الشَّرِّ؟
إنَّ نظرةَ المؤمنِ لوجودِ الشَّرِّ تُمثِّلُ جزءًا مِنْ منظومةِ إيمانِه المتكاملةِ، والَّتي تبدأُ بالإيمانِ باللهِ وتنتهي بالإيمانِ باليومِ الآخِرِ وبالقدرِ خيرِه وشرِّه، ويعلمُ المؤمنُ علْمَ اليقينِ بأنَّ الحياةَ الدُّنيا دارُ نقصٍ لا كمالٍ، وما تقلُّبُه فيها بينَ الخيرِ والشَّرِّ إلا ابتلاءٌ له وفتنةٌ واختبارٌ، لقوله تعالى: ﴿…وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعونَ﴾ [الأنبياء: ٣٥]، وأنَّ الدَّارَ الآخرةَ لَهِيَ المستقَرُّ، وفيها ينالُ كلُّ إنسانٍ جزاءَ أعمالِه؛ فإنْ كانَ خيرًا فخيرٌ، وإنْ كان شرًّا فشرٌّ، ويَقتصُّ اللهُ بها من الظَّالمينَ، وينصرُ بها المظلومين.
وممَّا يراه المؤمنُ في الشَّرِّ؛ أيضًا أنَّه لا يأتي مجرَّدًا خاليًا من صورِ الخيرِ أو أشباهِه، فلمْ يخلقِ اللهُ شرًّا محضًا، فكلُّ تلك الأمراضِ الَّتي فتكتْ بالبشريَّةِ كانتِ الحافزَ الأوَّلَ للبحثِ عن علاجاتٍ لها، والحقُّ أنَّ كلَّ الرَّاحةِ التي نعيشُ بها اليومَ جاءتْ نتيجةَ تعبٍ ونصَب، وكم من بلاءٍ أصابَ الإنسانَ فأعادَه إلى خالقِه!، فأصلُه شرٌّ ونتاجُه خيرٌ، بل إنَّ الكوارثَ الطَّبيعيَّةَ التي تحدثُ دونَ تدخلَّاتٍ بشريَّةٍ يراها اليومَ العِلمُ الوسيلةَ المثاليَّةَ الَّتي تخدمُ حياةَ الإنسانِ وتنفعُه، وإن كانتْ مصحوبةً ببعضِ الخسائرِ، فهذهِ البراكينُ على سبيلِ المثالِ التي تثورُ من باطنِ الأرضِ لتحرقَ ما حولَها، تأتي محمَّلةً بالمعادنِ والعناصرِ اللَّازمةِ لإعادةِ إحياءِ الأرضِ الجدباءِ الَّتي أفسدها سوءُ فعلِ البشرِ.
إنَّ مجرَّدَ وجودِ الشَّرِّ لا يمكنُ اعتبارُه سببًا كافيًا أو حجَّةً تنفي بها وجودَ الخالقِ الذي سبقَ ثبوتُه بأدلَّةٍ قطعيَّةٍ عقليَّةٍ متعدِّدة، في حينِ تستندُ شبهاتُ مشكلةِ الشَّرِّ على حججٍ واهيةٍ وأهواءَ ترجعُ لاضطراباتٍ في التَّعاملُ معَ المشاكلِ والابتلاءاتِ الحياتيَّةِ، وإن كانتِ المُعضلةُ بدأتْ من سؤالٍ؛ فمِنْ حقِّنا أيضًا أن نطرحَ أسئلتَنا: هل غابَ الشَّرُّ في عالَمِ الملاحدةِ بعد أنِ اقتنعوا بأنْ لا خالق؟، هلِ انتهتِ الحروبُ والمجاعاتُ وانقطعَ موتُ الأطفال واستحالتِ الحياةُ إلى خطِّ سعادةٍ أبديٍّ لا ينقطع؟، ماذا يفعلُ هذا المظلومُ الَّذي لا يجدُ مَنْ ينصرُه؟، من يحاسبُ الظالمَ ومتى ينتصرُ المظلومُ؟.
هذا ما يجعلُ مشكلةَ الشَّرِّ في الحقيقةِ معضلةً ومشكلةً للملحدِ نفسِه الذي لن يجدَ لها جوابًا على ضوءِ ما يعتقدُه، وعلى ضوءِ فهمِه المنقوصِ لحقيقةِ الخلقِ والغايةِ منه، بينما يرى المؤمنُ في وجودِ الشَّرِّ تأكيدًا آخرَ على وجودِ الخالق.