الوصف
ولا شكَّ أنَّ الشيطانَ هو أَعدى أعداءِ البشرِ؛ إذْ لاَ عملَ له إلاَّ غوايةُ الإنسانِ وإضلالِه حتّى يهلك، فيوسوسُ إليه ويأتيه من كلِّ طريقٍ، وهمُّه الأولُ أنْ يأتيَه من جهةِ العقيدةِ؛ لأنَّها أساس الدين والإيمانِ، وعليها تتوقفُ نجاةُ الإنسانِ وسعادتُه في الآخرةِ، فيثيرُ في نفسِه التساؤلات العديدة عن حدوثِ الأشياءِ، ومَنِ الذي أحدثَها؛ ليوقعَه في الغلطِ والكفرِ، ولكنَّ اللهَ برحمتِه يؤيد عباده المؤمنينَ ويثبتُهم على الحقِّ.
مقالة
مِمَّا يفسدُ القلبَ الخواطرُ السيئةُ التي قد تصلُ إلى التفكيرِ في ذاتِ اللهِ لا في نِعَمِهِ وآياتِه، والاسترسالُ مع هذه الخواطرِ قد يؤدي إلى الهلاكِ.
ولا شكَّ أنَّ الشيطانَ هو أَعدى أعداءِ البشرِ؛ إذْ لاَ عملَ له إلاَّ غوايةُ الإنسانِ وإضلالِه حتّى يهلك، فيوسوسُ إليه ويأتيه من كلِّ طريقٍ، وهمُّه الأولُ أنْ يأتيَه من جهةِ العقيدةِ؛ لأنَّها أساس الدين والإيمانِ، وعليها تتوقفُ نجاةُ الإنسانِ وسعادتُه في الآخرةِ، فيثيرُ في نفسِه التساؤلات العديدة عن حدوثِ الأشياءِ، ومَنِ الذي أحدثَها؛ ليوقعَه في الغلطِ والكفرِ، ولكنَّ اللهَ برحمتِه يؤيد عباده المؤمنينَ ويثبتُهم على الحقِّ.
يعمدُ الشيطانُ إلى قلوبِ البشرِ فيوردُ التساؤلَ الباطلَ فيها؛ إمَّا بوسوسةٍ محضةٍ، أو بشبهةٍ على لسانِ شياطينَ الإنسِ وملاحدتِهم؛ لذا لزمَ
-
أولًا: تشخيصُ حالةِ السائلِ:
هل سبب سؤاله وسوسةٌ أم ناتجٌ عن ضعفٍ معرفيّ؟
هل هو لونٌ من الأسئلةِ الطبيعيةِ التي ترِدُ على كثيرٍ من الناسِ، ومجردُ نزغةٍ من نزغاتِ الشيطان يستطيعُ طردَها وعدمَ الاسترسالِ معها؟، أم صادفَه أنْ سُئِلَ عمَّنْ خلقَ اللهَ فبُهِتَ حين أدرك أنَّه لا يعرفُ الجوابَ؟
ولكلِّ حالةٍ من الحالاتِ السابقةِ طريقةُ علاجٍ تناسبُها، فأمَّا الوسوسةُ فقد عالجَها النبيُّ-ﷺ- ببراعةٍ كمَا سيرِدُ في الفقرةِ التاليةِ، وأمَّا الضعفُ المعرفيُّ والوصولُ لمستوى الشبهةِ التي تملّكت صاحبها وأوشكتْ أنْ توردَه المهالكَ؛ فيجبُ حينَها تفكيكُ السؤالِ وبيانِ ما فيه من مغالطات منطقية ؛ لإقامةِ الحجةِ وتثبيتِ الإيمانِ.
-
ثانيًا- موقفُ النبيِّ ﷺ من هذا السؤال
علَّمَ النبيُّ ﷺ أُمتَه كيفيةَ إزالةِ الشكوكِ والوساوسِ عن الصدورِ، حيثُ تناولَ هذا الأمرَ في عدةِ أحاديثٍ نبويةٍ، فكشفَ عن منشئِه في النفسِ، ومدى حضورِه في الواقعِ، وطبيعةِ التقنيات لمدافعتِه، وعلاجِ ما قد يخلفُه من آثارٍ.
ففي الحديثِ:
” يَأْتي الشَّيْطَانُ أحَدَكُمْ فيَقولُ: مَن خَلَقَ كَذَا، مَن خَلَقَ كَذَا، حتَّى يَقُولَ: مَن خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ باللَّهِ ولْيَنْتَهِ”، وفي رواية: “يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَن خلق ربُّك؟ فإذا بلغه، فقولوا: اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصَّمَدُ، لم يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد، ثم لْيتفُلْ عن يسارِه ثلاثًا، ويستعذْ بالله من الشَّيطانِ”. أخرجه البخاري (٣٢٧٦)، ومسلم (١٣٤).
فنجدُ في هذا الحديثِ أنَّ النبيَّ ﷺ يبيِّنُ منشأَ السؤالِ بأنَّه وسوسةُ الشيطانِ الذي يوسوسُ بمثلِ هذه التساؤلاتِ عنْ حدوثِ الأشياءِ ومَن أحدَثَها، (فيقول: مَن خَلَقَ كذا؟ مَن خَلَقَ كذا؟)، أي: مَن خَلَقَ السَّماءَ؟ مَن خلَق الأرضَ؟ مَن خلَق الجبالَ؟ مَن خلَق الإِنسانَ؟ فيُجيبُه ابنُ آدمَ دِينًا وفِطرةً وعقلًا بقوله: اللهُ، وهذا جوابٌ بَدهيٌّ صحيحٌ وحقٌّ وإيمان، ولكنَّ الشَّيطانَ لا يقفُ عند هذا الحدِّ من الأسئلةِ والوساوسِ، بل ينتقلُ من سؤالٍ إلى سؤالٍ (حتَّى يقولَ: مَن خلَق ربَّك؟)، وهنا وضعَ النبيُّ الدواء النافعَ والجوابَ السريعَ لمثلِ ذلك، فقال: (فإذا بَلَغَه، فلْيَستعِذْ بالله ولْيَنْتَهِ)، أي: فإذا وصل معه الشيطانُ إلى هذا الحدِّ فليستعذْ باللهِ منه، ولْيَكفَّ عن الاستجابةِ له، ولْيَنْتَهِ عن الاسترسال معه في ذلك، ويعلمُ أنَّه يُريدُ إفسادَ دينِه.
ولا يُعَدُّ هذا هروبًا من المواجهةِ، بل معناه العودةُ إلى المنطقِ، فالعلمُ باستغناءِ اللهِ تعالى عن كلِّ ما يوسوسُه الشيطانُ أمرٌ ضروريٌّ لا يحتاجُ للاحتجاجِ والمناظرةِ، فإنْ وقعَ شيءٌ من ذلك فهو من وسوسةِ الشيطانِ، وهي غيرُ متناهيةٍ؛ فمهما عُورضَ بحجةٍ سيجدُ مسلكًا آخرَ من المغالطةِ والاسترسال؛ لأنَّه كما قالَ ابن ُتيمية -رحمه الله- في درءِ تعارضِ العقلِ والنقل- ٢/١١٢: “النفس تطلب سبب َكلِّ حادثٍ وأوّلَ كلِّ شَيءٍ حتى تنتهي إلى الغايةِ والمنتهى، فإذا وصل َالعبد ُإلى غايةِ الغاياتِ، ونهايةِ النهاياتِ، وجبَ وقوفُه، فإذا طلبَ بعد ذلك شيئًا آخر َوجبَ أنْ ينتهي، فأمرَ النبيُّ ﷺ العبدَ أنْ ينتهي مع استجارتِه باللهِ من وسواسِ التسلسلِ”، وإلاَّ فإنَّه يضيِّعُ الوقتَ إنْ سلِمَ من فتنتِه، وفي الحديثِ إشارةٌ إلى ذمِ كثرةِ السؤالِ عن الغيبياتِ؛ لأنَّها تفضي إلى المحذورِ.
وفي الروايةِ الثانيةِ أرشدَ النبيُّ ﷺ إلى تذكيرِ أنفسنِا بصفاتِ اللهِ الواردةِ في سورةِ الإخلاصِ، جاءَ في تفسيرِ العلامة ِمحمد ٍبن ِصالح ٍالعثيمين –رحمه الله:
أحد: ٌواحدٌ، متوحِّدٌ بجلالِه وعظمتِه، ليسَ له مثيلٌ، ولا شريكٌ.
صمد: ٌالكاملُ في صفاتِه، الذي تصمدُ إليه الخلائقُ في حوائجِها، وهذا يعني أن ّجميع َالمخلوقاتِ مفتقرة ٌإليه.
لم يلد: ْأي يكون له ولدٌ، فالولد ُمشتقٌّ من والدِه وجزءٌ منه، والله – جل جلاله- لا مثيلَ له، إذ الولدُ أنّما يكونُ للحاجةِ، والله ُمستغنٍ عن كل ّأحد.ٍ
ولم ْيولدْ: لكونِه أوَّل ٌغير ُمسبوقٍ بشيءٍ، فكيف يكونُ مولوداً؟
ولم يكن له كفواً أحد: أي مساوٍ له في جميعِ صفاتِه.
وكشفَ النبيُّ ﷺ عن تمددِ هذا السؤالِ وانتشارِه في أمتِه بقولِه: “لَنْ يَبْرَحَ النَّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حتَّى يقولوا: هذا اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شيءٍ، فمَن خَلَقَ اللَّهَ”.
أخرجه البخاري (٧٢٩٦) واللفظ له، ومسلم (١٣٦)، وفي روايةٍ أخرى في صحيحِ مسلمٍ عنْ أبي هريرة: ” لا يَزالُ النَّاسُ يَتَساءَلُونَ حتَّى يُقالَ: هذا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فمَن خَلَقَ اللَّهَ؟ فمَن وجَدَ مِن ذلكَ شيئًا، فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ. وفي رواية: يَأْتي الشَّيْطانُ أحَدَكُمْ فيَقولُ: مَن خَلَقَ السَّماءَ؟ مَن خَلَقَ الأرْضَ؟ فيَقولُ: اللَّهُ…، ثُمَّ ذَكَرَ بمِثْلِهِ وزادَ: ورُسُلِهِ”.
فبيّنَ النبيُّ أنَّ الناسَ لا يتوقفونَ عنِ السؤالِ عن أشياءَ، حتى يبلغَ السؤالُ إلى القولِ: هذا خلقُ الله الخَلْقَ معلومٌ مشهورٌ، فمن خلقَ اللهَ، وأوجدَه؟، فأرشدَ النبيُّ ﷺ من صادفَ ذلك السؤالَ، أو وجدَ في خاطرِه شيئًا من جنسِه، “فَلْيَقُلْ: آمنتُ باللهِ ورُسُلِهِ”، أي: آمنتُ بالَّذي قاله اللهُ تعالى ورُسلُه عليهم السَّلامُ مِنْ وَصْفِهِ تعالى بالتَّوحيدِ والقِدَمِ. وقولُهُ سبحانه وإجماعُ الرُّسُلِ هو الصِّدقُ والحقُّ؛ فماذا بَعْدَ الحقِّ إلا الضَّلال؟!
وفي روايةٍ أخرى أوضحَ النبيُّ أنَّ هذا السؤالَ من مداخلِ الشيطانِ في الإضلالِ، حيث روى عنه أنسُ بن مالكٍ: “لا يزالُ النَّاسُ يسألون يقولون : ما كذا ما كذا حتَّى يقولوا : اللهُ خالقُ النَّاسِ فمن خلق اللهَ فعند ذلك يَضِلُّون”. المحدث : الألباني، المصدر : السلسلة الصحيحة، الصفحة أو الرقم ٩٦٦:، خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم.
ولقد شكا بعضُ الصحابةِ إلى النبيِّ ﷺ وقوعَ مثلِ هذه الخواطرِ والوساوسِ لهم، وعبَّروا عن مدى استنكارِهم لحدوثِها في نفوسِهم، ففي روايةٍ عن أمِّ المؤمنين عائشة –رضي الله عنها: “أنَّ الناسَ سألوا رسولَ اللهِ عن الوسوسةِ التي يجدُها أحدُهم ، لَأنْ يسقطوا من عندِ الثُّريَّا أحبُّ إليه من أنْ يتكلمَ به، قال : ذاك مَحضُ الإيمانِ”.المحدث : الشوكاني، المصدر : رفع البأس عن حديث النفس،الصفحة أو الرقم: ٣٧، خلاصة حكم المحدث : صحيح.
وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عباسٍ –رضي الله عنهما، قال: “جاء رجلٌ إلى النبيِّ ﷺ فقال يا رسولَ اللهِ إنَّ أحدَنا يجدُ في نفسِه، يعرضُ بالشيء، لأن يكونُ حممةٌ أحبَّ إليه من أن يتكلَّم به، فقال : اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الحمدُ للهِ الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ”، أخرجه أبو داود (٥١١٢)واللفظ له، وأحمد (٢٠٩٧)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (١٠٥٠٣)، فَقام النبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ بحمدِ اللهِ أنَّ الأَمرَ انتهى بأنَّه كانَ حديثَ نفسٍ ولم يزدْ على ذلك.
وعن أبي هريرة في صحيح مسلم: ” جاءَ ناسٌ مِن أصْحابِ النبيِّ ﷺفَسَأَلُوهُ: إنَّا نَجِدُ في أنْفُسِنا ما يَتَعاظَمُ أحَدُنا أنْ يَتَكَلَّمَ به، قالَ: وقدْ وجَدْتُمُوهُ؟ قالوا: نَعَمْ، قالَ: ذاكَ صَرِيحُ الإيمانِ.” وشرحُ هذا الحديثِ أنَّهم سألوا النبيَّ ﷺ أنَّا نجدُ من الوساوسِ ما لا نرضى أنْ نخرجَه من صدورِنا على ألسنتِنا مِمِّا يحويه من معانٍ شيطانيَّة، ويثقلُ علينا التحدثُ بذلك الشيءِ من غايةِ قبحِه وإنكارِنا له، فيسألُهم النبيُّ ﷺ: وقدْ وجدْتموهُ؟ أي: هل وجدتم ما يلقيه الشيطانُ في نفوسِكم، ثم دفعَكم إيمانُكم عن التحدثِ به؟، قالوا: نعم. قال: “ذاكَ صَريحُ الإيمانِ”.
والمقصودُ أنَّ إنكارَهم لتلك الأفكارِ السيئةِ التي يتسببُ فيها الشيطانُ دليلٌ على صدقِ إيمانِهم؛ فصريحُ الإيمانِ لا يُقصدُ به الوسوسةُ نفسُها؛ وذلك لأنَّها في الأصلِ من عملِ الشيطانِ، ولكنّ المقصود: أنَّ الإيمانَ الخالصَ والخوفَ من اللهِ في قلوبِهم هو الذي يمنعُهم من قبولِ ما يلقيه الشيطانُ في نفوسِهم والتَصديقِ به، حتى صارَ ما يلقيه إليهم مجردَ وسوسةٍ، لا تطمئنُ إليه نفوسُهم ولا يتأكدُ منها في قلوبِهم شيءٌ، وما فعلوه هو الإيمانُ الحقيقيُّ في عدمِ التفكرِ في ذاتِ الله وتركِ اللهثِ وراءَ الشيطانِ؛ فالمؤمنُ الحقُ يلقي هذه الشبهاتِ خلفَ ظهرِه وينشغلُ عنها.
ومن مجموعِ الأحاديثِ السابقةِ يمكنُ أنْ نتعرفَ على طبيعةِ المعالجةِ النبويةِ لهذا الإشكالِ، حيثُ حذَّر المؤمنَ من تربُّصِ الشيطانِ له وإلقاءِ الشبهاتِ في طريقِه حتى يخرجَه من الإيمانِ، وبيّن كيف يتخلَّصُ المؤمنُ من تلكَ الشبهاتِ بأنْ:
- يستعيذَ باللهِ؛ ليطردَ عنه وساوسَ الشَيطانِ؛ فلا تدبيرَ في دفعِه أقوى من الالتجاءِ إلى اللهِ تعالى بالاستعاذة به، كما قالَ تعالى في سورةِ الأعرافِ: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}
- ينتهي ولا يتكلمَ بذلك، ويدفعَ تلك الخواطرَ غيرَ المستقرةِ بالإعراضِ عنها والردِّ لها من غيرِ استدلال ولا نظرٍ في إبطالِها، وهذا من أعظمِ أسبابِ السلامةِ.
- يقولَ: آمنتُ باللهِ ورسلِه.
- يقولَ: قل هواللهُ أحدٌ، اللهُ الصمدُ، لم يلدْ ولم يولدْ، ولم يكنْ له كفوًا أحد.
- يتفلَ عن يساره.
وبالنظرِ في أحوالِ الناسِ في طروءِ الشبهةِ عليهم نجدُ أكثرَهم يدفعونَ السؤالَ بالانتهاءِ والتشاغلِ عنه، أمَّا من استرسلَ معه وتولدتْ عنده شبهةٌ، فيحتَجْ إلى حجةٍ وبرهنةٍ تزيلُها عنه، وتعيدُ لفطرتِه اتزانَها، كما قال المازَري -رحمه الله- : “الخواطر ُعلى قسمينِ: فالتي لا تستقرُ،ولا يجلبُها شبهةٌ، هي التي تندفعُ بالإعراضِ عنها، وعلى هذا ينزلُ الحديثُ، وعلى مثلِها ينطلق اسم وسوسةٍ، وأمَّا الخواطرُ المستقرةُ الناشئة ُعن الشبهةِ فهي التي لا تندفعُ إلا بالنظرِوالاستدلالِ”. ابن حجر، فتح الباري، ط. السلفية ، الطبعة الأولى، ٦/٣٤١.
-
ثالثًا- تفكيك السؤالِ وبيانِ ما تضمن من أخطاءٍ عقلية
بقليلٍ من التفكرِ سنكتشفُ أنَّ هذا التساؤلَ باطلٌ بالبداهةِ؛ لأنَّ كونَ اللهِ تعالى غيرِ مخلوقٍ أمر ضروريٌّ، فالسؤالُ عنه تعنتٌ ويتضمنُ تناقضًا داخليًا يجعله سؤالًا بلا معنى؛ وبالتالي فلن يكونَ له جوابٌ صحيحٌ، كحال بعضِ الأسئلةِ الطريفةِ التي يعجزُ الطرفُ الآخرُ عن تقديمِ جوابٍ عليها، ليسَ لعجزِه عن الجوابِ لكن لخللٍ في بنيةِ السؤالِ، مثلِ: ما طولُ الضلعِ الرابعِ في المثلثِ! فلا مجالَ هنا لتقديمِ جوابٍ؛ لأنَّ المثلثَ ليسَ له إلاَّ ثلاثةُ أضلعٍ، ومثلِ: هل تستطيعُ أنْ ترسمَ دائرةًلها زوايا؟، فهذا سؤالٌ باطلٌ لا يقبلُ الجوابَ؛ فحقيقةُ سؤالِ مَن خلقَ اللهَ، هو السؤالُ عمَّن خلق الذي لا خالقَ له؟ أو ما سببُ الذي لا سببَ له؟ أو ما الذي سبقَ من لا شيءَ قبلَه؟ كلُّها أسئلةٌ لا جوابَ لها لخللٍ بها تسببَ في عجزٍ عن تقديمِ الجوابِ.
المخلوقُ هو من يتمُّ خلقُه وصُنعُه، لكنَّ اللهَ الخالقَ ليسَ مخلوقًا حتى يصنعُه أحدٌ، وإذا كان له خالقٌ إذن هو مخلوقٌ، فهل يعقلُ أنْ يكونَ الإلهُ خالقًا ومخلوقًا في ذات الوقت؟، كي يتمَّ قبولِ السؤال والبحثُ عن جوابِه يجبُ ألاَّ يتنازلَ عن قانونِ عدمِ التناقضِ، وهو مبدأٌ عقليٌّ ضروريٌّ؛ لهذا فسؤالُ (مَنْ خلقَ اللهَ) سؤالٌ باطلٌ معرفيًا لجمعِه بين نقيضينِ؛ لأنَّ السؤالَ يسلِّمُ بكونه مخلوقًا ، وهو ما يستلزمُ أنْ يكونَ له بدايةٌ، مع كونِه سبحانَه لا بدايةَ له.
- وقد يسألُ لماذا اللهُ لا بدايةَ له؟ ، نعلمُ أنَّ كلَّ حادثٍ لا بدَّ له من سببٍ، وقد يكونُ هذا السببُ هو الآخرُ حادثٌ فلا بدَّ له من سببٍ هو الآخرُ وهكذا، ولكنَّ اللهَ تعالى ليسَ أمرًا حادثًا ليصح جريان مثلِ هذا السؤالِ عليه، بل هو الأولُ فليسَ قبلَه شيءٌ، ولا شكَّ في أنَّ سلسلةَ الأسباب يجب أنْ تنتهي إلى سببٍ أولٍ يكونُ من طبيعتِه أنَّه غيرُ حادثٍ، إذ لو كانَ حادثًا للزِمَ أنْ يكونَ له هو الآخرُ سببٌ فيفضي ذلك إلى التسلسلِ، والتسلسلُ في العللِ ممتنعِ.
ولكي ندركَ وجهَ الاستحالةِ في التسلسلِ في العللِ هنا نذكرُ بعضَ الأمثلةِ، ومنْ أشهرِها مثال الجندي والأسيرِ، يقولُ المثلُ: لو كانَ هناك جنديًا وبيده سلاحٌ وأمامَه أسيرٌ وأرادَ أن ْيطلقَ النارَ عليه، لكنَّه ممنوعٌ منه حتى يأتي الإذنُ من الضابطِ الذي وراءَه، فلو افترضنا أنَّ هذا الضابطَ لن يعطيَ الإذنَ حتى يعطيَه الإذنَ الذي وراءه، والذي بدوره ينتظرُ إذنَ مَن خلفَه في سلسلةٍ لا تنتهي، فإنَّ الرصاصةَ لنْ تنطلقَ، إذِ الأمرُ لنْ يأتيَ، فلو الرصاصةُ انطلقتْ، فمعناها إذنْ أنَّ الأمرَقد جاءَ من عسكريٍّ انتهتْ إليه السلسلةُ وهو غيرُ محتاجٍ إلى إذنِ أحدٍ لإعطاءِ الأمرِ.
مثالٌ آخرٌ: لو تخيلْنَا لدينا ثريَّا معلقةٌ بسلسلةٍ فإنَّ الذي يشدُّ السلسلةَ إلى أعلى هي الحلقةُالأولى في السلسلةِ، والذي يشدُّ هذه الحلقةَ هي الحلقةُ التي فوقها…إلخ، ولكنْ هل يُعقلُ أن تكون السلسلةُ مستمرةً إلى ما لا نهايةَ، فتكونُ الثريَّا معلقةً في الهواءِ؟، فهذا مستحيلٌ لأنَّها ستحتاجُ إلى من يشدُّها، ولا بدَّ أنْ تكونَ هناك حلقةٌ أخيرةٌ معلقةٌ بسقفٍ، حتى لو عجزْنَا عن مشاهدةِ هذا السقفِ، لكنَّنا مقتنعونَ بأنَّ الحلقةَ الأخيرةَ مشدودةٌ إلى شيءٍ لا يستدعي ما يشده ضرورةً.
مثالٌ ثالثٌ: لعبةُ الدومينوز الشهيرةُ، فلو وُضعَ كلُّ حجرٍ منها خلفَ الآخرِ، ورغبنا في سقوط آخر حجرٍ منها فإنَّه لنْ يسقطَ حتى يسقطَ عليه الحجرُ الذي وراءه، والذي وراءه لن يسقطَ حتى يسقطَ عليه الذي وراءه، فلو قدّرنا أنَّ وراء كلِّ حجرٍ منها حجرًا إلى ما لا نهاية، وأنَّ واحدًا منها لنْ يسقطَ حتى يسقطَ عليه الذي وراءه، فمن المستحيلِ أنْ يسقطَ واحدٌ من تلك الأحجارِ لافتقارِ كلّ واحدٍ منها إلى تحريكِ الذي وراءه، فلو شاهدناها بدأتْ في التساقطِ؛ فسنجزمُ أنَّ ثمة حجرٍ أولٍ تم تحريكُه ليسقطَ على الذي أمامَه، وليستمرَ الأثرُ على من دونِه حتى يصلَ الأمرُ إلى الحجرِالأخيرِ.
بهذه الأمثلةِ يتضحُ مبدأُ استحالةِ التسلسلِ في العللِ والفاعلينِ، وبها نفهمُ أنَّ اللهَ تعالى لا بدايةَ له، وهو السببُ الموجِبُ لهذا الكونِ، فلو استرسلنا مع سؤالِ من خلقَ اللهَ؟، فيمكنُ أنْ نسأل فمن الذي خلقَ الذي خلقَ اللهَ؟، ثمَّ نسألُ فمنِ الذي خلقَ الذي خلقَ الذي خلقَ اللهَ في سلسلةٍ لا تنتهي.
فإذا علمنا أنَّنا والكونَ موجودون الآن، ونحن حوادثٌ مفتقرون في وجودِنا إلى سببٍ أحدثنا، فسنعلمُ يقينًا أنَّ سلسلةَ العللِ والأسبابِ يجبُ أنْ تنتهيَ إلى سببٍ أولٍ من طبيعتِه أنَّه لا بدايةَ له، وهو اللهُ، فالوجودُ صفةٌ ملازمةٌ لذاتِه يعني لا يحتاجُ لشيءٍ يوجِدُه.
يقولُ ابنُ تيمية: ” ومعلومٌ أنَّ المُحدَثَ الواحدَ لا يحدثُ إلا بمحدِثٍ، فإذا كثرتْ الحوادث وتسلسلت كان احتياجُها إلى المحدِثِ أولى، وكلُّها محدَثاتٌ فكلُّها محتاجةٌ إلى محدِثٍ، وذلك لا يزولُ إلا بمحدِثٍ لا يحتاجُ إلى غيرِه بل هو قديمٌ أزليٌّ بنفسِه سبحانه وتعالى”. مجموع الفتاوى ١٦/٤٤٤.
- ثمَّ من إشكالياتِ هذا السؤالِ أنَّه ينطلقُ من فرضيةِ مماثَلةِ الخالقِ للمخلوقِ، فإذا كانَ المخلوق مخلوقًا فمن خلقَ اللهَ؟، هل يمكنُ أنْ نتصورَ اللهَ إنسانًا مثلنا؟، هل في مقدورِ أحدٍ منَّا أنْ يخلق إنسانًا مثلَه أو شجرةً أو نهرًا…؟، إذن لا يمكنُ أنْ يكونَ اللهُ إنسانًا مثلنا، وإلَّا لَمَرِضَ مثلنا ونامَ مثلنا، كما أنَّه ليسَ له أبٌ أو أمٌ ولا يتزوجُ وينجبُ أطفالًا، وأيُّ إنسانٍ مهما بلغتْ قوتُه قد يصيبُه ضعفٌ ومرضٌ ومصيرُه بالنهايةِ الموتُ كأيِّ مخلوقٍ.
فمِنَ الخطإِ محاولةُ العقلِ البشريِّ أنسنةَ الأشياءِ الغيبيةِ بإضفاءِ صفاتٍ بشريةٍ عليها، أو محاولةُ تصورِها في إطارِ العالمِ الماديِّ المحسوسِ، صحيحٌ أنَّه توجدُ صفاتٌ يتصفُ بها الخالق والمخلوق، لكنَّ الفرقَ يكمنُ في كيفيتِها، فالحقُّ أنَّ اللهَ سبحانَه وتعالى ليسَ كمثلِه شيءٌ، وإذا علمنا أنَّ الكونَ بكلِّ ما فيه حادثٌ، فالسببُ الموجبُ لوجودِه يجبُ أنْ يكونَ أمرًا خارجًا عن إطارِه غيرَ محكومٍ بإطارِ المادةِ، فلاَ وجهَ للمقايسةِ بينَ الخالقِ والمخلوقِ.
وحتى ندركَ عدمَ جريانِ أحكامِ المخلوقِ على الخالقِ، تخيلْ أنَّ لعبةً من لعبِ العرائسِ التي يتم تحريكها من خلالِ شدِّها بالخيوطِ نطقتْ وشاهدتْ من يحركُها، لَكانَ سؤالُها فمَنْ يشدُّ خيوطَه هو الآخر؟ وهذا خطأٌ، إذْ لا تلازمَ بين هذا وهذا، وفرقُ ما بين الربِ وسائرِ خلقِه أعظمُ وأجلُّ.
ولمزيدٍ من التوضيحِ فإنّ صفاتِ الخالقِ تختلفُ تمامًا عن صفاتِ المخلوقِ، إذا قامَ شخصٌ بطرقِ الباب، فالطارقُ- أي الفاعلُ- صفاتُه تختلفُ تمامًا عن المطروقِ، ومهما حاولنا التقريبَ بين الإنسانِ- أي الطارق- وبين المطروقِ- أي الباب- لنْ نستطيعَ؛ لأنَّ صفاتِ البابِ لا تمتُّ للإنسان بصلة أبدًا، وببساطةٍ أكثرَ: إذا سألتَ من خبزَ الخبزَ، ستجدُ الإجابةَ: الخبازُ، فهل يُعقلُ أنْ تسألَ فمن خبزَ الخبازَ!، ولو تخيلنا أنَّ جهازَ الحاسبِ الآليِّ عنده عقلٌ يفكرُ به، هل مِن المعقولِ أنْ يعتقدَ أنَّ الذى صنعَه- أي الإنسان- مكونٌ من نفسِ مكوناتِه؟، هذا التخيلُ غيرُ منطقيٍّ؛ لأنَّ الذى صنعَها مكونٌ من مكوناتٍ مختلفةٍ تمامًا؛ فالإنسانُ في هذه الحالةِ ليسَ كمثلِه شيءٌ بالنسبةِ لعالم إدراكِ هذه المكوناتِ الإلكترونيةِ؛ كذلك اللهُ خالقُ هذا الكونِ، من غيرِ المنطقيِّ أنْ نفكرَ فيه أنَّه يشبه أحدًا من مخلوقاتٍه.
- هذا السؤالُ يوردُه كثيرٌ من الملاحدةِ، حيث يُعدُ من أشهرِ الاعتراضاتِ الإلحاديةِ على المؤمنينَ، بالرغمِ أنَّه عند التمحيصِ نجدُها مجردَ أداةٍ جداليةٍ للمناكفةِ لا أكثرَ؛ إذ لا ينطلقونَ من قبولٍ حقيقي بأنَّ اللهَ هو خالقُ الكونِ.
لا ننكرُ كونَ هذا السؤالِ واحدًا من أهمِّ الشبهاتِ التي أثارتْ نزعةَ الإلحادِ في كثيرٍ من النفوسِ، حيث ُشكَّل لديهم مأزقًا حتى دفعَ بعضَهم لتبني الرؤيةَ الإلحاديةَ، لكنَّ سؤالَهم يتضمنُ سوءَ فهمٍ لطبيعة الحجةِ الإيمانيةِ العقليةِ التي يوردُها المتدينون لإثباتِ وجودِ اللهِ تعالى، إذِ السؤالُ يستبطنُ التصورَ التالي لطبيعةِ دليلِ الخلقِ والإيجادِ على وجودِ اللهِ:
كلُّ موجودٍ فلا بدَّ له من سببٍ، الكونُ موجودٌ فلا بدَّ له من سببٍ، والسببُ لوجودِه هو اللهُ؛ فيأتي الاستشكالُ بعدَ ذلك بأنَّ اللهَ موجودٌ فمن أوجدَه؟
ووجهُ المغالطةِ أنَّ هذا العرضَ لدليلِ الخلقِ والإيجادِ مغايرٌ في طبيعتِه للدليلِ في صورتِه الحقيقيةِ التي يسوقُها المستدِلُّ به على وجودِ اللهِ، حيثُ لمْ يدّعِ أنَّ كلَّ موجودٍ فلا بدّ له من سببٍ، بل الدعوى هي أنَّ كلَّ حادثٍ لا بدَّ له من سببٍ؛ لأنَّ الموجودَ قد يكونُ وجودُه وجودًا واجبًا لا يتصور العقلُ إلا وجودَه، وهو بطبيعتِه غيرُ مفتقرٍ إلى سببٍ يتوجبُ وجودَه، وقد يكونُ وجودُه ممكنًا يفتقرُ في وجودِه إلى وجودٍ واجبٍ، وقد يكونُ وجودُه ممتنعًا لا يتصورُ العقلُ إمكانَ وجودِه.
وختامًا نسألُ اللهَ الثباتَ على الإيمانِ، وأن يعيذَنا من كيدِ كلِّ شيطانٍ.