الوصف
السؤال : “سقف المعارف عندنا أعلى من سقف المعارف عند الصحابة والتابعين؛ وعليه فهل يجوز لنا إعادة قراءة وفهم النصوص، وتغيير الأحكام الشرعيّة على وفق المعارف المتطورة لدينا بناء على صلاحية القرآن لكل زمان ومكان “
مقالة
-
السؤال :
“سقف المعارف عندنا أعلى من سقف المعارف عند الصحابة والتابعين؛ وعليه فهل يجوز لنا إعادة قراءة وفهم النصوص، وتغيير الأحكام الشرعيّة على وفق المعارف المتطورة لدينا بناء على صلاحية القرآن لكل زمان ومكان “
-
الجواب :
الجواب إجمالا يكون على خمس نقاط :
- توضيح العلاقة الصحيحة بين أنواع المعارف المختلفة وبين فهم النصوص الدينيّة والأحكام الشرعيّة .
- المعطيات الشرعيّة والأسباب الموضوعيّة التى تُقدم فهم الصحابة على غيرهم وتوجب اتباعهم.
- المعنى الصحيح لعبارة ” صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان “.
- العلاقة الصحيحة بين الواقع وعملية فهم النصوص الشرعيّة
- الأصول التى تتعارض معها المطالبة بإعادة فهم النصوص الشرعيّة بما يخالف الإجماع.
أولًا: توضيح العلاقة الصحيحة بين أنواع المعارف المختلفة وبين فهم النصوص الدينيّة والأحكام الشرعيّة .
هناك مغالطة كبيرة فى تصوُّر العلاقة بين جميع أنواع المعارف بهذا الإطلاق العام وبين فهم النصوص واستنباط الأحكام الشرعيّة وتغييرها بناءً على هذه المعارف.
فالصحيح ، أنّ فهم الأحكام الشرعيّة ومعرفتها ليس مبنيًّا أو متوقفًا على كل أنواع المعارف ، فلو حصل تقدُّم فى زماننا في العلوم التجريبيّة أو العلوم الطبيعيّة أو نحو ذلك ، فهذا لن يؤثر البتة فى فهم الأحكام الشرعيّة أو في فهم النصوص الدينيّة ، لأنها لا تتوقف عليها .
فهم النصوص الدينيّة ومعرفة الأحكام الشرعيّة يتوقف على العلم باللغة العربيّة ، وأساليب العرب وطرقهم وقواعدهم في فهم دلالات الألفاظ والمعاني، ومعرفة مواطن النزول وأسبابها ، والعلم بالنصوص الأخرى التي تعين على الفهم, وعند تأمل هذا سنجد أنّ النتيجة تكون عكس كلام السائل ، وسيكون سقف المعارف التي لها تأثيرٌ حقيقيّ على فَهم النصوص أعلى بكثير جدًا عند الصحابة من سقف المعارف عند من بعدهم ، أما غيرها من المعارف مثل العلوم التجريبيّة وغيرها مما قد يكون سقفها أعلى عند العصور المتأخرة عن الصحابة ، فهي لا تؤثر أصلًا على الحكم الشرعي وفهم النصوص .
وهذا الربط بين فهم النصوص الشرعيّة وبين المعارف بشكل عام يُوحي بأن فهم الوحي عملية اعتباطية لا تقوم على أسس، والصحيح أن فهم الوحي له منهجية ومسالك وضوابط مأخوذة من الوحي نفسه يُتوصّل بها إلى مراد الله عز وجل، وقد قال عليه الصلاة والسلام مخاطبًا الصحابة: “إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلتُ على تنزيله”، يخبرنا عن معركة ستقوم بين المحرّفين للنصوص عن معانيها، وبين الصحابة المتمسّكين بفهمها على المراد الذي أنزله الله تعالى، وهي معركة مستمرة على مر العصور.
وهذه المنهجية تعتمد في الجملة على قضيتين رئيسيتين:
- علم بأصول الخطاب العربي.
- ومعرفة بأقوال السلف الصالح، وفي مقدمتهم الصحابة.
ولا يجوز النظر في النصوص الشرعيّة بطريقة اعتباطيّة دون أسس, وإلا لكان ذلك من القول على الله بغير علم , وهذا من أكبر الكبائر ،
ثانيًّا: المعطيات الشرعيّة والأسباب الموضوعية التى تُقدم فهم الصحابة على غيرهم وتوجب اتباعهم.
أ- دلالة الوحي على اعتبار فهم الصحابة في نصوص كثيرة، منها:
توعَّدَ الله من خالف منهجهم بالعذاب الأليم، قال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، وأوَّلُ مَن يدخل في قوله {سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} الصحابة الذين رضي اللهُ عنهم بنصِّ القرآن: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}، ولو لم يكن هدي سابقي الصحابة محلًّا للاتباع لما أثنى الله على من اتبعهم بهذه الصفة.
وقال عليه الصلاة والسلام بعد أن ذكر لنا افتراق الناس في فهم الإسلام مبيِّنًا الطريقة الصحيحة: “هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي”.
وقال عليه الصلاة والسلام: ” عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين، عضّوا عليها بالنَّواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ محدَثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالةٌ” .
وهذه دعوة صريحة لمراعاة فهمهم للإسلام وتسميته سنة، وهنا قال صلى الله عليه وسلم: “عضوا عليها” ولم يقل: “عضوا عليهما”، وهذا فيه دِّلالة على أنَّ سنَّتَه وسنَّةَ الخلفاء الرَّاشدين منهجٌ واحد وطريق واحد؛ فلا يكون الأخذُ بسنَّته على الوجه المطلوب إلَّا بالتَّمَسُّك بما جاء به من القرآن والسُّنَّة بفهم صحابته رضي الله عنهم.
ثم إن كثيرًا من نصوص القرآن والسنة تشهد بكمال اهتداء الصحابة وبخيرية القرون المفضلة، فالسلف الصالح هم أفضل هذه الأمة وخيرها علمًا وعملاً؛ وكمال الهداية فرع عن كمال العلم، قال عليه الصلاة والسلام: “خيرُ النَّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”.
ب- ومن الأسباب الموضوعيّة الأخرى التي تؤكد ضرورة اعتبار منهج الصحابة في فهم النصوص الشرعيّة إضافة لما جاء في الوحي :
“ما خصَّهم اللهُ تعالى به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللِّسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وحسن القصد وتقوى الرَّبِّ تعالى. فالعربيَّةُ طبيعتُهم وسليقتُهم، والمعاني الصَّحيحة مركوزةٌ في فطرهم وعقولهم، ولا حاجةَ بهم إلى النَّظر في الإسناد وأحوال الرُّواة وعلل الحديث والجرح والتَّعديل، ولا إلى النَّظَر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليِّين؛ بل قد غُنُوا عن ذلك كلِّه”. كما قال ابن القيم رحمه الله.
“وقد أخذوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعناه”، كما قال ابن تيمية رحمه الله.
وقال الشاطبي رحمه الله في الموافقات ” يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين:
أحدهما: معرفتهم باللسان العربي، فإنهم عرب فصحاء ، لم تتغير ألسنتهم ولم تنزل عن رتبتها العليا فصاحتهم؛ فهم أعرف في فهم الكتاب والسنة من غيرهم ، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان؛ صح اعتماده من هذه الجهة .
والثاني: مباشرتهم للوقائع والنوازل وتنزيل الوحي بالكتاب والسنة؛ فهم أقعد في فهم القرائن الحالية وأعرف بأسباب التنزيل; ويدركون ما لا يدركه غيرهم بسبب ذلك ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب”.
ثالثًا: المعنى الصحيح لعبارة ” صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان “.
أما ربط السائل إعادة فهم النصوص والأحكام الشرعيّة ( بصلاحية القرآن لكل زمان ومكان ) ، فهذا غير صحيح ، فصلاحية الشريعة والقرآن لكل زمان ومكان تعني أن أحكامها تصلُح للتطبيق كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وقد جعل الله تعالى في هذه الشريعة خصائص ومميزات تُمكنها من الهيمنة إلى قيام الساعة ، ومن ذلك وجود الاجتهاد والقياس وغيرها من قواعد أصول الفقه ،التى تُمكن من معرفة حكم الشرع فى كل نازلة فقهيّة جديدة لم تَكُن موجودة فى زمن النبي صلي الله عليه وسلم .
رابعًا: العلاقة الصحيحة بين الواقع وعملية فهم النصوص الشرعيّة .
ولا يتصوّر أحد أن معنى كلامنا السابق أن الشريعة الإسلامية بمعزل عن الواقع ، أو أنها جامدة منذ 1400 عام كما يُشنع أصحاب هذا الفكر ، فهذا غير صحيح أبدًا ، فمن عنده أدنى علم بأصول الفقه ، يجد أن الشريعة ليست بمعزل عن مراعاة مستجدات الواقع ونوازله.
ومما يبرز ذلك في علم أصول الفقه ما يلي :
تحقيق المناط ، وهو متعلق بتنزيل الحكم الشرعي على الواقع بعد فهم الواقع ، وهذا من أضرب الاجتهاد قطعا ، وهو يمثّل تجاوبًا مع العلم بالواقع لكن دون تغير للحكم الشرعي أو لفهم النص, وإنّما يكون النظر فيه في الربط بين الحكم الذي دل عليه النص وبين الواقع,
وفي هذا يقول ابن القيم في إعلام الموقعين :
“ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم ، أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا، والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر ” .
ومن ذلك أيضا : العمل بالمصلحة المُرسلة والعادة واعتبارهما ، ولا يخفي على أحد ارتباط الواقع بهما .
ومن يجهل هذه التفاصيل الأصولية أو يتعمد إخفاءها يُصور أن المسلمين في مأزق مع فقه الواقع ، وفي فقر في التعامل معه ما داموا منحبسين في أصول الفقه وفهم السلف للشريعة ، ولا حل إلا بإعادة القراءة والفهم للنصوص الشرعيّة استجابة لمستجدات الواقع، والصحيح أن الحبس هو في عقول هؤلاء الجهلة أو الملبسين وليس في أصول الفقه والشريعة لاستيعابها الواقع واعتبارها له كما ذكرنا.
ومن التدليس في تصوير علاقة فهم النصوص بالواقع, تصوير أن الواقع ركن ومحور في كل عملية اجتهاد ، رغم أن تأثير الواقع ليس بهذا الحجم الذي يُصوره هؤلاء ، ثم التدليس بالتسوية بين القطعيات والأحكام الثابتة المجمع عليها وبين الأمور الاجتهادية في تأثير الواقع على الاجتهاد فيها ، ثم افتراض أن أقوال المتقدمين في كل الشريعة مرتبطة بواقعهم ليسوغ لهم التحريف حيث تعارضت القيم الغربية مع الأحكام القطعية.
ومحاولة الربط بين فهم النصوص الشرعيَة وبين الواقع بهذه الطريقة المتكلفة الخاطئة هي مجرد تخدير حتى يستسيغوا تسليط قيم الواقع وضغوطه على النص، ولهذا نجد تركيز من يسلكون هذا المسلك الذي يسمونه زورا التجديد في مناطق تصادم القيم الغربية مع الأحكام الشرعية، فهنا يطلون برؤوسهم ليجددوا كما زعموا، ثم يزعمون أن منهجهم ليس مرتبطا بالتغريب والحداثة بل بتصحيح الاجتهاد مراعاةً لدور الواقع فيه.
وكذلك من الزيغ والتدليس في تصوير تأثير الواقع على فهم النصوص الشرعيّة ، القول بتاريخيّة النصوص الشرعيّة ، وتصوير الأحكام الشرعية على أنها استنباطات للصحابة الفقهاء عمومًا ، وأنها هي التي شكلت أغلب الشريعة، فبالتالي هي مرتبطة بفهمهم، وفهمهم مرتبط بتاريخيتهم، ويجعلون عامل الزمن والتاريخ مؤثرًا في فهم النصوص ومن ثم المطالبة بتغيير الأحكام الشرعيّة وإعادة فهم النصوص في كل عصر .
خامسًا: الأصول التى تتعارض معها المطالبة بإعادة فهم النصوص الشرعيّة بما يخالف الإجماع.
وهناك جملة من الأصول في الشريعة تتعارض كلية مع المطالبة بإعادة قراءة النصوص وفهمها فهما يحالف الإجماع, وذلك يؤكد بطلان هذه الأفكار وانحراف من يُنادى بها ، ونذكر منها على سبيل المثال :
الأصل الأول : أن معظم آيات القرآن محكمة .
فقد أخبرنا الله أن معظم الوحي هو من المحكم الواضح البيّن بنفسه، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.
والمُحكم هو البيّن الواضح الذي لا يلتبس معناه ولا يشتبه على أحد ، ومقتضى كونها محكمات إمكانية فهمها والقطع بمعناها, وعلى ذلك فإن تصوير النصوص بأنها نسبية يختلف فهمها من عصر لآخر يلزم منه أنّ معظم نصوص الوحي ليس بمحكم أصلًا، وهذا مخالف لما ذكره رب العالمين في كتابه في كثير من الآيات القرآنية من كون القرآن واضحًا مُبينًا, كقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ}.
يقول ابن القيم في الصواعق المرسلة :
” وكذلك عامة ألفاظ القرآن نعلم قطعا مراد الله ورسوله منها كما نعلم قطعا أن الرسول بلغها عن الله فغالب معاني القرآن معلوم أنها مراد الله خبرا كانت أو طلبا, بل العلم بمراد الله من كلامه أوضح وأظهر من العلم بمراد كل متكلم من كلامه, لكمال علم المتكلم وكمال بيانه وكمال هداه وإرشاده وكمال تيسيره للقرآن حفظا وفهما عملا وتلاوة, فكما بلغ الرسول ألفاظ القرآن للأمة بلغهم معانيه, بل كانت عنايته بتبليغ معانيه أعظم من مجرد تبليغ ألفاظه, ولهذا وصل العلم بمعانيه إلى من لم يصل إليه حفظ ألفاظه, والنقل لتلك المعاني أشد تواترا وأقوى اضطرارا, فإن حفظ المعنى أيسر من حفظ اللفظ.. والذين نقلوا الدين عنه علموا مراده قطعا لمّا تلا عليهم من تلك الألفاظ”.
الأصل الثاني : وجوب تحكيم الشريعة وهيمنتها والتسليم لها .
فوجوب تحكيم الشريعة أصل من أصول الدين ، ودلت عليها كثير من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وقوله تعالى :{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} ، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}.
وإدّعاء أن نصوص الشريعة ليست دالة على أحكام شرعيّة ثابتة في نفسها بل تقبل إعادة التفسير، يجعلها نصوصا لا تحمل أحكاما يقينية واضحة يُمكن التحاكم لها والتسليم لها وتطبيقها ، بل يجعلها نصوصا نسبية متغيرة محتملة لمعانٍ كثيرة ، فلا تُقام حينها حجة على العباد ولن يستطيعوا تطبيقها.
وهذا يؤول إلى تعطيل الشريعة من جهة أنها أصبحت معنًى فضفاضًا يمكن أن يفصّله أي أحد كما يشاء، فلا يعود للشريعة معالم وحدود ولا أحكام ظاهرة وتفصيلية، وإنما تبقى مبادئ عامة، وهذه المبادئ العامة هي أصلاً مشتركات إنسانية تجد أكثر الناس مقتنعين بها؛ لأنها ترجع إلى معانٍ فطرية في النفس ومعانٍ عقلية يستطيع الإنسان إدراكها لكونها إجمالية وكلية وعامة.
ومن نظر في تفاصيل الشريعة وطريقتها وتصرفاتها في الأحكام يجد أنها تنحى منحى تعليق الأحكام على الأوصاف الظاهرة المنضبطة التي يمكن أن تُدْرك بيسر بحيث تطّرد، فيمكن إدارة الحكم مع هذا الوصف، فلا يتفاوت كثيرًا في الواقع بشكل يجعل من العسير ضبط الحكم واستقرار التشريع.
فلذلك مثلًا نجد أن الشريعة في مسألة السفر تعلق الرخصة بنفس السفر، ولا تعلقه بالمشقة، مع أن الحكمة هي دفع المشقة، ولكن لأن انضباط قضية المشقة صعب. كذلك هي تُلْزِم في القضاء بالبناء على البيِّنات، والشهود، وعدالة الشهود، ولا تترك المجال للقاضي أن يبني الأمر على انطباعاته الداخلية مثلًا، لأن هذه الأمور لا تنضبط.
ونجد الشريعة اهتمت بشروط الأحكام وأسبابها وموانعها، وهذه كلها محددات بحيث يكون الحكم منضبطًا وواضحًا ويمكن العمل به دون حصول إشكالات في التطبيق.
ولذلك عندما يحاول الإنسان أن يرجع إلى معانٍ باطنة غير منضبطة أو يأخذ انطباعات نفسية فيقرر أن قصد فلان كذا وكذا، يقال له “هلّا شققتَ عن قلبه”؟! وهذا شيء عام وواضح في الشريعة، فلا يشك الإنسان بأنه قاعدة في التشريع.
فأي طرح -سواء كان تاريخية النصوص أو إبراز مبادئ معينة في الشريعة مثل العدل أو قضية الوسطية ونحو ذلك- لا يرجعه أصحابه إلى معاني الشرع الأصلية المنضبطة, هو في الحقيقة وسيلة لتضييع معالم الشرع.
الأصل الثالث : عدم إجماع الأمة على ضلالة .
النصوص الشرعية دلت على عدم إجماع الأمة على ضلالة، فقد وصفت الأمة بالخيرية لأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر, فلا يمكن إجماعها على منكر, وأمرت بالرد لله وإلى الرسول عند التنازع في شيء, فلا يمكن اتفاقها على شيء يخالف ما أنزل الله, وتوعد الله من يخالف سبيل المؤمنين, وجاءت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بما يوافق هذا المعنى, والمطالبة بإعادة فهم النصوص من لوازمه تخطئة القرون السابقة في فهمها للنصوص الشرعيّة سابقا, وأنها استمرت قروناً لا تهتدي بالكتاب المحكم المبين الذي جعله الله نوراه يهدي به الناس, وهذا باطل بلا شك.
مقالات متعلقة بالسؤال عن فهم النص الشرعي:
مراجع للاستزادة ومعرفة منهجية الحداثيين المبتدعة ، والرد على أبرز أفكارهم :
– كتاب “ينبوع الغواية الفكرية” – (مبحث مشكلة القراءة) – عبد الله العجيري
– محاضرة “منهج الاستدلال عند أهل السنة والجماعة” – عبدالله العجيري
– كتاب “بيان فضل علم السلف على علم الخلف” – ابن رجب الحنبلي
والله أعلم ، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.