الوصف
مناقشة لشبهة شائعة وجواب عنها ليس في مُكْنَةِ أحدٍ أنْ يَدْفَعَ أنَّ عصرَنا هو عصرُصناعة الشُّبَهات، فلم تَعُدِ الشُّبُهات تساق مساق العَفوِ، ولا ترد موردَ الصُّدفة، ولا تتَّسِم بسمة النُّدْرة، بل إنها غدت تصنع صناعة تُسْتنفرُ لها الطَّاقاتُ، وتُنْفقُ فيها الأموال، وتحشد لها العقول، لتقع الشُّبَهُ على نَحْوٍ يُغْوِي الألبابَ ويلبِّس على الأفئدة، ويخدعُ بزُخْرُفِه فريقا من الناس ممن لم يعتصم بمحكمات الوحي، ولم يتحقق من دلائل العقل
مقالة
لمَ تحتجبُ المرأةُ في الصلاة؟
مناقشة لشبهة شائعة وجواب عنها
ليس في مُكْنَةِ أحدٍ أنْ يَدْفَعَ أنَّ عصرَنا هو عصرُصناعة الشُّبَهات، فلم تَعُدِ الشُّبُهات تساق مساق العَفوِ، ولا ترد موردَ الصُّدفة، ولا تتَّسِم بسمة النُّدْرة، بل إنها غدت تصنع صناعة تُسْتنفرُ لها الطَّاقاتُ، وتُنْفقُ فيها الأموال، وتحشد لها العقول، لتقع الشُّبَهُ على نَحْوٍ يُغْوِي الألبابَ ويلبِّس على الأفئدة، ويخدعُ بزُخْرُفِه فريقا من الناس ممن لم يعتصم بمحكمات الوحي، ولم يتحقق من دلائل العقل.
ومما راعَن يتردُّدُه بأخَرَةٍ في وسائل التواصُلِ الشَّبَكِيِّ، ودَوَرَانُه على بعض الألسن، استشكالٌ مفادُه:
((لماذا يأمر الله النساء في الصلاة بستر جميع البدن-غير الوجه والكفين- وهنَّ في تلك الحال لا يراهُنَّ غيره سبحانه؟))
وهو إشكالٌ يظهر في كلام بعض الفتيات على صيغ متفاوتة، وتثيره أمور متعددة:
– فمنهن من تخرجه مخرج (عدم معقولية الشريعة في أحكامها) وهذا الصنف يغلب على من تأثَّر بمسلك المدرسة العقلانية المعاصرة.
– ومنهن من تبديه في مظهر (انعدام المساواة بين الجنسين في الشريعة) وهو مَنْزِعٌ يغلب على من تأثر بالحركة النسوية المعاصرة، بثوبها التقليدي، أو ثوبها الإسلامي التلفيقي.
– ومنهن من تثيره استشكالا محضا، تقرره بصدق، وترغب في معرفة جوابه في الشريعة، فهي تستشكل أمرًا في الشريعة، وتريدُ جوابَهُ من ذاتِ الشَّريعةِ، وهذا الصنف يكون استشكالُه محمودًا؛ لأنه يردُّ الأمر إلى الله ورسوله، ولا يُقَدِّمُ بين يدي الله ورسوله شُبْهَةً من الشُّبَهِ المزخرفة المُمَوَّهة.
* * * * * * * * * * * *
وقبل أن نُجِيلَ الفِكْرَ في تلمُّسِ شيء من حِكَمِ ذلك الأمر الرَّبَّانيِّ، يحسُن بنا أنْ نقدِّمَ بمقدمات كاشفة يستبين بها عِوَجُ تلك الشُّبهة وخلَلُها:
1- المقدمة الأولى: أنَّ اللهَ لا يأمُرُ إلا بما هو حَسَنٌ، ولا ينهى إلا عمَّا هو قبيحٌ،وأنَّ جميعَ أوامره ونواهيه سبحانه صادِرَةٌعن الحكمة البالغة، وارِدَةٌ على مقتضى المصلحة، وليس منها شيءٌ واردٌ على سبيل العبث.
2- المقدمة الثانية: أنَّفي الشَّرِيعة تفاوتًا من جهة ظهور الحِكَم في أحكامها؛فالحِكَم في العبادات أخفى منها في المعاملات، وقد يكون الأصلُ فيها الدِّقَّةَ والخفاءَ، وذلك لغلبة جانب الابتلاء والامتحان في التعبُّدات.
3- المقدمة الثالثة: أنَّ خفاءَ الحكمة من بعض الأوامر والنواهي لا يلزم منه عدم وجودها، بل قد يخفيها الله؛ لِيبتليَ إيمانَ المكلَّفينَ وانقيادَهُم له وتسليمَهم لشَرْعه؛ فإنَّ الامتثالَ حالَ خفاءِ العِلَّةِ من أقوى براهينِ التَّسْليمِ واليَقِين.
4- المقدمة الرابعة: أنَّ أمرَ الله للنساء بتغطية جميع البدن حال الصلاة يغلِبُ فيه جانبُ التعبُّد، الذي يخفى فيه جانب التَّعليلِ المفصَّل، وإنما يمكن الوقوف فيه على كُلِيَّات وإشاراتوعلامات، وإن كانذلك الأمر في حقيقته لا بد أن يكون حسنا، ذا حكمة مقصودة، ومصلحة مورودة.
5- المقدمة الخامسة: أنَّ هذه الشُّبهةَ مبناها على أنَّه ليس للستر غرضٌ صحيحٌ غيرَ الاحتجاب عن الرجال؛ لدرء الفتنة، فإذا كان ليس ثمَّ رجالٌ، وكانت المرأة تصلي بين يدي ربها في الخلوة، فلِمَ تستتر؟!وهذا تصوُّرٌ قاصرٌ لحقيقة السِّتر وغرضِه، فالسِّترُ ليس غرضُه منحصرًا في دَرْءِ الفتنة، بل من الاحتجاب ما يكون مبعثُه تعظيمَ النَّاظر وإجلالَه ومهابتَهُ، وسيأتي مزيد تبيين لذلك.
6- المقدمة السادسة: أنَّ مِمَّا أذكى أُوَارَ هذه الشُّبهةِ أمرينِ اثنينِ:
– الأوَّلُ: طبيعةُ المزاجَ العصريِّ العامِّ في (فريضةِ الحجاب) برأسها، و(فضيلة السِّتر) برُمَّتها، فلم يَعُد السِّتُر يُتداوَلُ على أنَّه جمالٌ وكمالٌ وفضيلةٌ، ولا أنَّ التعرِّي قبحٌ ونقصٌ ورذيلة، بل قُلِبَت الصُّوَر، وتبدَّلت القِيَم، وقُبِّح الحَسَنُ، وحُسِّنَ القبيحُ، فلمَّا تشوَّهت التصوُّراتُ لهذه المعاني والقِيَم، دخل الإشكالُ عليها، وسرى الاعتراض إليها، وشاعَ عدمُ تقبُّلها والتعجُّب منها، وليسَ شيءٌ أسرعَ في النَّاس منْ التقلُّب والتحوُّل.
– الثَّاني: صعودُ قيمة (المساواة بين الجنسين) على يد تيَّارات الحركات النِّسوية على وجه الخصوص، حتَّى بدا عند هذا التيَّار أنَّ جميعَ ما يتعلَّق بالمرأة-من حيث هي امرأة-هو محلٌّ للبحث والدراسة والنَّظر والنَّقْد، ولو كانَ أمرًا دينيًّا محضًا، فإنه يُنظر له على أساس المساواة، ويُجرَّد من كل معيار آخر، وبهذا أعلت هذه الحركات من قيمة هي اخترعتها وجعلتها حاكمةً على كلِّ قيمةٍ سواها، ولو كانت تلك القيمة الأخرى مستندة إلى مصدر معرفي موثَّق من وحي أو فطرة أو عقل صحيح.
* * * * * * * * * * * *
وفي سبيل استجلاء بعض الحكم الثَّاويةِ في ذلك الأمرِ الرَّباني، على سبيل الاجتهاد والظنّ، من غير ادِّعاءِ قطعٍ ولا إحاطةٍ، إذ لا نصَّ في المسألةِ ولا توقيف، وإنما هو استجلاءٌ ومحاولةُ تعريفٍ؛ فيمكن أن يَلُوحَ للنَّاظِرِ في ذلك جملةٌ من الحكم والمعاني، على نحو ما يأتي:
1- المعنى الأوَّل: أنَّ الصَّلاةَ فِعلٌ تحوطُه الطُّمأنينة والسَّكينة، وموقفٌ بين يدي مَلِكٍ له الجلالُ والكمالُ، والسِّترُ معنى حسنٌ في نفسه، وشريفٌ في ذاته، فتُدرك العقولُ حُسنَه، وتتبيُّن الفِطَرُ جمالَهُ، ولمَّا كانَت الصلاةُ أشرفَ المقامات، وكان السِّترُ غايةَ المروءات، كانت الصلاةُ خليقةً به، مناسبةً له، بل كانت أولى به من كل مقام، فالسِّترُ-إذَنْ- أمارةُ كمال هيئةٍ في مقامٍ شريفٍ، بين يدي ملكٍ جليل مُستحقٍّ للتجلَّة والتعظيم سبحانه!
ومن هنا تجدُ السِّترَ مطلوبًا من كلِّ أحدٍ في صلاته، من رجل وامرأة، وإنَّما خُصَّت المرأة بمزيد تستُّرٍ، وأمَّا أصلُ السِّتر في الصلاة فهو مطلوبٌ طلبًا عامًّا؛ لجلالة هذا المقام.
وإنَّ من جلالة هذا المَقامِ- وهو الوقوف بين يدي الله- أنَّه شُرِعتْ له أمورٌ قبليَّة وأمورٌ مُلابسةٌ، كلُّها يُنبئُ عن مزيد تعظيم هذا المقام، وحفاوة الشريعة به، فهذا الوضوءُ الذي جُعِلَ مقدمة بين يدي الصلاة، يغسل عن الجسد أدرانه، لم يُكتف عنه بمجرَّد النَّظافة، بل جُعلت له هذه الكيفية العجيبة، التي فيها من أسرار التطهير ما فيها، وذلك الوقوف على قدم الذِّلة والخضوع في الصلاة بتلك الكيفية المشروعة، المشعرة بغاية الانكسار والانقياد، بل إنَّه شُرِع للمصلِّي أن ينظر إلى محل سُجوده، فلا يطمحُ ببصره، وذاك الركوع والسجود، في هيئات مشعرةٍ بالاستكانة لله عزَّ وجلَّ، وتعظيمِ مقامه، وإجلالِ الوقوف بين يديه، فكان السِّترُ من تلك الهيئات المشعرة بمزيد التعظيم والإجلال، لذي الإكرام والجلال.
ولهذا المعنى- والله أعلم – :كانَ نساءُ الجنَّة ملازماتٍ للسِّتر، الذي هو جمالٌ في نفسه، ومُزيِّنٌ لأهله، كما حكى عنهنَّ سبحانه بقوله: {حُوْرٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ}[الرحمن: 72]،وقوله عزَّ وجلَّ: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ}[الرحمن: 56]، فلمَّا كانت الجنَّةُ أشرفَ المنازلِ، وكان أهلُها خيرَ السُّكَّان، كانَت لهم أكملُ الأحوال، ومنها هذا السِّترُ الجميلُ.
بل إنَّ هذا المعنى مبثوثٌ في واقع النَّاس يقرُّون به سلوكًا وعملًا، فتجدُ المرأةَ إذا زارَت مزارًا مُعظَّمًا لديها، كقبرِ حبيبٍ أو قريبٍ، احتشمتْ في لبسها، وحرصت تمام الحرصِ على التستُّر وإسباغ الثياب، وكذلك في الأحوال التي لها في النفس مهابةٌ، كأحوال الوَفَيات، وحضور مجامع العزاء، فإنَّك لا تجد واحدةً تتجاسر على لباسٍ يُبدي المفاتن، ويكشف عن السوءات؛ إقرارًا فطريًّا عمليًّا بأنَّ المشاهد المعظَّمة، والأحوال المَهيبة، تقتضي من اللباس ما يُناسبها ويجري على وفقها.
2- المعنى الثَّاني: أنَّ ذلك جارٍ على عادة الشَّريعة في إقامة العبدِ مقام تحصيل الفضائل، واعتيادها، والمِرانِ عليها، ووقوع الأنس إليها والألفة بها، فأَمْرُ النِّسْوَة بالاحتجاب في الصلاة يلوحُ فيه معنى التَّربية والاعتياد والأدَب، فلمَّا كُنَّ مأموراتٍ خارج الصلاة بحضرة الأجانب أن يحتجبنَ، وكان ذلك مما قد يشقُّ على بعض الأنفس، جُعِل لهنُّ موقفٌ يحصلُ لهنَّ به الألفةُ لهذه الفضيلة، والأنس بها، حتَّى تغرس في النَّفس، ويقع الانقياد لها رغَبًا وحُبًّا.
فإن قال قائلَ: لو كان المرادُ تحقيق فضيلة الستر في ذلك المقام الشريف، فقد كان يكفي أصلُ الستر في الصلاة كستر الرجال مثلا، فلِمَ خُصَّتْ النساء بمزيد تستُّر؟!
فالجواب: أنَّ النساء خارج الصلاة مأمورات بمزيد تستُّرٍ على ستر الرجال، فناسب أن يكنَّ مأمورات داخل الصلاة بستر زائد على ستر الرجال أيضًا؛ لأنَّ حال الصلاةِ مِرَانٌ لما بعدها، ومعونةٌ عليها، وتهيئةٌ لها.
ولهذا المعنى نظائرُ في الشريعة: منها أمرُ الصِّبْيَان بالصلاة وهم أبناء سبع، وليسوا بمكلفين إجماعًا، وذلك في قوله-عليه الصلاة والسلام-: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ»[أخرجه أبو داود (494) والترمذي (407) والدَّارمي (1471) وأحمد (15339) بإسناد حسن من حديث سَبْرة بن معبد]وإنَّما كانَ ذلك تربيةً لهم؛ ليرتاضوا على هذه الصلاة، التي هي عمود دينهم، وبها قوام أمرهم، فتألفها نفوسهم، وتقبل عليها أفئدتهم، وتنقاد لها جوارحهم بوافر الرَّغَب، وشديد الشَّوق.
وهذا شأنُ كلِّ أمرٍ مُعظَّمٍ في الشِّريعة: أن تقدِّم له بمقدمات الارتياض، وتحيطه بأسباب الاعتياد، وتمدَّه بمداد المعونة.
وهذا يشرف بك على علو مقام الحجاب في الشريعة، حتى خُصَّت به أشرفُ المقامات، وأجلُّ العبادات.
وبعدُ؛ فهذه محاولةُ كشفٍ واستجلاء، لشيء من الحِكَم، والمعاني الثَّاوِية في ذلك الأمر الربَّاني، ولعلَّ ناظرًا يتفكَّرُ في بديع هذا الأمر، ويتلمَّس من أسراره فوق ما تلمَّسنا، فينال من جَناه فوق ما نِلنَا. وإنَّ للشريعة لغَورًا لا يُدرَكه إلا من فتحَ اللهُ على قلبه، وهو الفتَّاحُ العليم!