الوصف
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وما يليها تطورًا كبيرًا للحراك النسوي العربي، وهو وإن لم يرقَ إلى مستوى الفكر الغربي من حيث الحضور الفلسفي فيه(1) إلا أنه أخذ في التنامي من خلال الكتابات النسوية في مجالات مختلفة، كان موضوع التراث الديني -القرآن الكريم والسنة النبوية- من أبرزها. وبات تفسير القرآن الكريم محط اهتمام الفكر النسوي العربي لا بهدف الوصول لمراد الله سبحانه في كتابه العظيم وإنما بهدف الهجوم على ما لا يتوافق مع أصول الفكر النسوي في محاولة مبتورة لدفاع مزعوم عن المرأة ومكانتها في المجتمع وحقوقها المهضومة على مر التاريخ.
مقالة
بسم الله الرحمن الرحيم
[ تستهدف هذه الورقة إلقاء الضوء على أبرز الأصول التي تقوم عليها الرؤية النسوية لتفسير القرآن الكريم، ، والذي تتبناه كثير من النسويات لنقض تفاسير القرآن التي تصمها بالذكورية والتحيّز ضد المرأة، ثم نقد هذه الأصول وبيان جانب من مآلاتها، بتركيز وإيجاز ].
المبحث الأول: الرؤية النسوية وتفسير القرآن:
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وما يليها تطورًا كبيرًا للحراك النسوي العربي، وهو وإن لم يرقَ إلى مستوى الفكر الغربي من حيث الحضور الفلسفي فيه(1) إلا أنه أخذ في التنامي من خلال الكتابات النسوية في مجالات مختلفة، كان موضوع التراث الديني -القرآن الكريم والسنة النبوية- من أبرزها. وبات تفسير القرآن الكريم محط اهتمام الفكر النسوي العربي لا بهدف الوصول لمراد الله سبحانه في كتابه العظيم وإنما بهدف الهجوم على ما لا يتوافق مع أصول الفكر النسوي في محاولة مبتورة لدفاع مزعوم عن المرأة ومكانتها في المجتمع وحقوقها المهضومة على مر التاريخ.
1- الرؤية النسوية للقرآن الكريم:
يمكننا القول بأن الرؤية النسوية للقرآن الكريم تنطوي على اتجاهين رئيسيين:
– الاتجاه الأول: هو الاتجاه النسوي العلماني، وترى بعض متطرفات هذا الاتجاه أن القرآن الكريم ما هو إلا كتاب يرتّل بنغمة واحدة خالية من المعاني، وتستعيض عنه بأنظمة وضعية غربية(2)(3)، بينما تجرده نسويات أخريات من وظيفته التشريعية وتحصره في جانبه الروحاني فحسب(4)، ومن أبرز رائداته: نوال السعداوي، ورجاء بن سلامة.
تقول نوال السعداوي في أحد لقاءاتها: “تجديد الخطاب الديني يعني تغيير النصوص” وتسألها المحاورة عما إذا كان ذلك يشمل القرآن الكريم فتجيب بالإثبات. وتعتبر القرآن مجرد كتاب وليس نصًّا إلهيا، كما تعتبر الأمر بالعبادات في القرآن كالصلاة والصوم والحج ليس مهمًا(5).
– الاتجاه الثاني: هو الاتجاه الإسلامي -الذي يسمّيه البعض توفيقيًّا أو إصلاحيًّا-، ويتخذ هذا الاتجاه من القرآن الكريم مرجعا لتنظيراته حول المفاهيم النسوية عن طريق إعادة قراءة النص القرآني وفهمه وفق منهج حداثي(6)، ومن أبرز رائداته: آمنة ودود، وأميمة أبو بكر، وزيبا مير حسيني.
تقول آمنة ودود في مقدمة كتابها القرآن والمرأة: “هناك استمرارية ودوام في النص القرآني ذاته متمثلة في النقاط التي تتلاقى فيها القراءات المتنوعة غير أنه يتعين على كل بيئة اجتماعية فهم أصول ذلك النص الثابتة والأساسية وتنفيذها بعدئذ حسب فهمها الخاص بها وذلك من أجل تحقيق مقصد القرآن ليعمل كعامل محفز يؤثر على السلوك في المجتمع” وتضيف: “يؤدي التمسك بمنظور ثقافي واحد في تناول القرآن -حتى وإن كان المنظور الثقافي الخاص بمجتمع النبي الأصلي- إلى تقييد استخدامه ويتناقض مع هدف القرآن الذي يعلنه القرآن ذاته”(7).
وهكذا تُتداول رؤية الاتجاه النسوي العربي للقرآن الكريم بين من يحاول نزع قداسته ويجوِّز تغيير نصوصه، وبين من يراه نصًّا مقدسا ولكن يجب إعادة فهمه وتطبيقه في كل ظرف اجتماعي بحسبه دون تقييد بفهم واحد.
2- الرؤية النسوية للتفسير القرآني:
وأما عن موقف الرؤية النسوية من تفسير القرآن الكريم، فترى النسوية التأويلية -التي تبحث في تأويل القرآن- أن القرآن الكريم موجَّه للجنسين دون تمييز بينهما، وتستنتج من ذلك أنه لا يحق لأحد الجنسين أن يستأثر بقراءته أو تفسيره دون الآخر، وتستنكر حالة القمع ووطأة الرأس تحت التفسيرات الذكورية للقرآن وادعاء شرعيتها باسم الدين، وترى أنه من اللازم أن توجد عالمات تفسير نسويات يخالفن الآراء الذكورية الموجودة في تفاسير القرآن تجاه قضايا المرأة(8)، لتتخلص النساء من الاضطهاد الذي سبّبته تلك التفاسير عبر القرون.
كما ترى أنه لا يوجد تفسير نهائي يُتوقف عليه، بل إن كل نص ينبغي أن يُفهم بما يناسب عصره، بما في ذلك النصوص المتعلقة بقضايا المرأة، وتسمّي آمنة ودود في كتابها القرآن والمرأة –المشار إليه سابقا-(9) مثل هذا النوع من التفسير “بالتفسير الكلّي”، بينما تصفه فريدة النقّاش في كتابها حدائق النساء بأنه “قراءة متقدمة للنص الديني”(10).
وهكذا تجمع الرؤية النسوية للتفسير القرآني بين مُناهضةٍ للتفسير الذكوري المنحاز ضدّ المرأة، والذي يمثله علماء التفسير في كتبهم عبر القرون، وبين المُناصرة لتفسير نسوي يجب أن تتبناه مفسّرات نسويات سعيًا لنتائج مُرضية فيما يتعلق بقضايا المرأة المُضمَّنة في القرآن، كالطلاق وتعدّد الزوجات والحجاب وغيرها. بيد أن هذه الرؤية النسوية للقرآن وتفسيره تنطوي على عدة أصول تتضح من خلالها الأخطاء التي وقعت فيها ربَّات هذا الاتجاه عند تبنيها تلك الرؤية، وفيما يلي عرض موجز لأبرز هذه الأصول ونقدها.
المبحث الثاني: الأصول التي تقوم عليها الرؤية النسوية لتفسير القرآن ونقدها:
يدرك المتأمل في الرؤية النسوية لتفسير القرآن الكريم أنها لا تعترف بالمنهج الذي سلكه المفسرون الأوائل في تفسير القرآن، بل ربما لا تحاول دراسته دراسة تقوم على الإنصاف والنظر في أصوله، وإنما تضع التفسيرات التي لا تقوم على الرؤية النسوية في خانة واحدة وهي خانة الذكورية البغيضة التي يجب الفرار من نارها إلى جنة النسوية، كما تتجاهل الرؤية النسوية مراتب الأحكام الشرعية ولا تفرق بين أقوال المفسرين التي تعتمد على ثبوت شرعي أصلي وبين أقوالهم التي تنطلق من أمثال ورؤى اجتماعية يمكن تناولها بحسب مناسبتها للظرف الذي قيلت فيه. وهكذا تفارق الرؤية النسوية لتفسير القرآن مناهج المفسرين السابقين، منطلقة في ذلك من عدة أصول، من أهمها الأصول الثلاثة الآتية:
1- نظرية التأويل (الهرمنيوطيقا):
يُعرَّف مصطلح الهرمنيوطيقا (Herméneutique) بأنه يعني: “تفسير نصوص فلسفية أو دينية وبنحو خاص الكتاب (شرح مقدس)، ويقال خصوصا على ما هو رمزي”(11).
وقد تعرّض هذا المصطلح لتطورات عدّة في مدلوله حسب تطور الفكر الديني والفلسفي في السياق الحضاري الغربي، حتى انتقل إلى المسيحية حيث غلبت عليه النزعة الرمزية، وتم وضع قواعد لضبط التأويل عرفت بالقواعد الأوغسطينية الأربع، ثم ظهرت بسبب سلطوية الكنيسة -ضمن أسباب أخرى- تأويلات متمردة عليها، وتدرج التحرر من النظام الكنسي حتى كاد يُفقد النصوص محتواها بله قداستها، وتسبب ذلك في ظهور بعض النزعات الإلحادية(12).
وقد اتخذت النسوية الغربية من الهرمنيوطيقا أصلا لها للتخلص من التفسيرات الدينية ذات الطابع الأبوي بحسب الرؤية النسوية، وتبعتها في ذلك النسوية العربية عند التعامل مع النص القرآني، فنجد أميمة أبو بكر تقول: “فيما يخص… آليات إعادة تقييم الموروث الديني، نلاحظ التشابه في دراسة الموضوعات التأويلية المستمدة من نصوص إنجيلية وقرآنية”(13).
ويظهر أثر الهرمنيوطيقا عند التعامل مع النصوص الشرعية في كتابات نسويات عربيات مبرزات مثل: آمنة ودود، وفاطمة المرنيسي.
نقد الأصل الأول:
يتضح مما سبق أن النسوية العربية تناولت النص القرآني على أساس المماثلة بينه وبين النصوص الدينية المسيحية، وهذا لا يدع مجالا للشك في بطلان هذا المنهج، فهو يبرز فساد النظرة النسوية العربية للتعامل مع القرآن، لأنها ستكون مبنيًّة على الإقبال على النص القرآني بأفكار سابقة التشكل من منهج ثقافة أخرى مخالفة، ولدواع -ربما كان لها ما يبررها في الغرب- لكنها لا تنطبق على القرآن الكريم.
كما يتضح من هذا الأصل مدى إغفال النسويات العربيات للعلوم الشرعية -ومن أهمها علم التفسير وأصوله- التي كانت منطلَق فهم القرآن والنصوص الشرعية بصورة أعم، ومعرفة كيفية استنباط الأحكام منها، فتجمع النسويات العربيات في ذلك بين التقليد الأعمى للحالة الغربية واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
2- محاولة الجمع بين الإسلام والحداثة:
تتجلى محاولة الجمع بين الإسلام والحداثة بطرح ما يعرف بـ (حداثة الطريق الثالث) كما تسميها بعض النسويات، والتي ترى أن الإسلام والحداثة يتقابلان ولكن لا يتضادّان، والتي تعرّفها أسماء المرابط بأنها: “حداثة تربط التصورات الأخلاقية العالمية بالمثل الإنسانية العليا في الإسلام”(14)، ويشتمل هذا التعريف على مفهومين حرصت عليهما النسوية العربية في محاولتها للربط بين الإسلام والحداثة، وهما: تفكيك الإسلام إلى “كلّيات” يُعتمد عليها، و”جزئيات” لا يُلتفت إليها مضمنا في قولها (المثل الإنسانية العليا للإسلام)، وكذلك تاريخية النصوص الشرعية من خلال قولها (التصورات الأخلاقية العالمية)، فإن تلك التصورات تختلف مع الزمن، وانطلاقا من هذا الأصل فإن تفسير القرآن لا يقف عند حدّ أو معنى، بل ينبغي إعادة تفسيره بما يتوافق مع الزمن، وهذا ما تقرره إقبال بركة بقولها: “موقف القرآن من المرأة كان موقفا في عصر معين، ووُضِعت تلك القوانين لعصر معين، ومن الممكن جدا أن مثل هذه الأشياء قد لا يسمح العصر الذي نعيش فيه بتطبيقها”(15).
نقد الأصل الثاني:
ورغم أن النسوية أتت حركةً أبعد ما تكون عن التصور الديني الصحيح، بل كانت عند ظهورها في الغرب خروجا عن الدين(16)، إلا أن النسويات العربيات يسعين في تغافل عجيب للجمع بينها وبين الإسلام عن طريق تأويل نصوصه وفق مناهج حداثية، ومعلوم أن هذا لا يتم إلا بتجريد النص الشرعي -والقرآني على وجه الخصوص- من روحه ومعناه، تارة بزعم التمسك بالمقاصد العامة للقرآن على حساب الأحكام الجزئية، وهو تمسّك مشوّه لأن “الأمر في المصالح مطرد مطلقا في كليّات الشريعة وجزئياتها” كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله(17)، وتارة بزعم تاريخانية النص القرآني واختزاله في زمان ومكان محدَّدين، أي نزع عموم شرعيته منه، وهي جريمة عظيمة لأن الإسلام هو الدين الخاتم وشريعته هي الشريعة الخالدة وفيه ما يصلح لكل عصر ومصر، “فليس تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها” (18)، فالتفسير الحداثي للقرآن إذَن يجعل المقدّس عرضة للعبث بأيدي كل من راح وجاء، انطلاقا من اعتباره منطويا على رموز يتم تأويلها برؤى مختلفة زمانا ومكانا، وما ذلك في حقيقته إلا اتباع للهوى المنهيّ عنه في الشريعة مهما تلبّس بشتى المسميات.
3- محاكمة النص القرآني إلى الجندر:
يعد مفهوم الجندر (gender) مفهوما واسعا ومحوريا في الدراسات النسوية، والترجمة العربية لهذه الكلمة تعني النوع أو الجنوسة، ويشير هذا المصطلح إلى أن الاختلافات بين الجنسين ترجع إلى التركيب الاجتماعي الثقافي لا إلى الطبيعة البيولوجية لأيٍّ منهما، وأن مفاهيم الذكورة والأنوثة هي ببساطة صناعة اجتماعية ثقافية.
وتسعى النسويات من خلال تفسيرهن للقرآن إلى محاولة (جندرة القرآن) بتأويل نصوصه على أساس عدم التفريق بين الجنسين بأي وسيلة، كما فعلت بعض الباحثات النسويات مع آية الخلق “الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها” بتفسير نسوي مقابل للتفسير المشهور، وهو أن النفس الأولى هي نفس الأنثى(19).
نقد الأصل الثالث:
تنطلق النسوية في تفسيرها للقرآن من رؤية أوليَّة تريد تضمينها في القرآن كيفما اتفق، فهي لا تبحث عن المعاني الحقّة للنص القرآني بهدف اتباع مراد الله من عباده ذكورا وإناثا، وإنما تبحث عن وسيلة لشرعنة فكرة تعتنقها بعينها، ولا يخفى أن هذا الأسلوب في البحث من قواصم الموضوعية، فلئن كانت النسويات العربيات يتهمن تفاسير القرآن بالتوصل لنتائج ذكورية بحسب مرادهم من المرأة، فإن المنهج النسوي الذي يتبنينه أعظم جرما من اتهامهن -على فرض صحّته- لأنه منهج يتعمد الأدلجة.
كما يعكس المنهج النسوي في هذا الإطار اعتقادا ضمنيًّا لمفاهيم معكوسة، فبدلا من كون النص القرآني نصًّا مقدّسا يتحاكم كل شيء إليه، نرى أن النسويات العربيات -ويا للمفارقة- يحاكمن النص القرآني إلى مفهوم الجندر، وعلى أساس الالتقاء معه يكون حكمهنّ على التفسير صحة وفسادا، فأي إنصاف تتحدث عنه الرؤية النسوية في تفسير القرآن؟ وأيَّة موضوعية تريد أن تتبناها؟
يتضح مما سبق أن الرؤية النسوية لتفسير القرآن الكريم تقوم على بعض الأصول الفاسدة التي تُفقد النص القرآني قداسته بل مفهومه ودلالته، وتُقبل عليه بأيديولوجية مسبقة تهدف إلى شرعنة المفاهيم النسوية، فليس منهج البحث النسوي في القرآن منهجا للبحث عن مراد الشارع الحكيم -سبحانه وتعالى- وإنما للبحث عن رغبات ذاتية منبتها ضغوط العصر الراهن وتحدياته. وتتجاوز الرؤى النسوية مجرد تبني هذا المنهج إلى محاكمة المناهج التفسيرية الأخرى إليه، فمن يتبنّى رؤاها فهو السليم، ومن يرفضها فهو السقيم!، وليت الأصول التفسيرية النسوية كانت من إبداع تلكم النسويات، بل إن كثيرا منها منحولة من الثقافة الغربية دون تمييز، في نموذج منقطع النظير من التسوّل المعرفي مع الجهل بكيفية توظيف المعارف المتسوَّلة.