الوصف
“ذكوريَّة الفقه الإسلامي”، فورَ أن تطرقَ أذني تلك العبارةُ يرتسم في مخيِّلتي غرفةُ خلفيةٍ مظلمة يكتنفها الدخان والأَترِبة، يجتمع فيها ثلَّة من الرجالِ يضعون خلطاتٍ سريَّةٍ من وراء السّتار، لإعداد طبخةٍ فقهيَّة تُمكِّن الرجالَ من التضييق على المرأةِ والتسلطِ عليها وقهرِها، يدبجون في طبختِهمُ الأحكامَ، ويتدارسون المراجعَ -فقط لإحكام قبضةِ الرجلِ على المرأة-، ويبثّون أفكارهمُ الذكورية.
مقالة
بسم الله الرَّحمٰن الرَّحيم خالقِ الذكَر والأنثى وهو بهما عليم
“ذكوريَّة الفقه الإسلامي”، فورَ أن تطرقَ أذني تلك العبارةُ يرتسم في مخيِّلتي غرفةُ خلفيةٍ مظلمة يكتنفها الدخان والأَترِبة، يجتمع فيها ثلَّة من الرجالِ يضعون خلطاتٍ سريَّةٍ من وراء السّتار، لإعداد طبخةٍ فقهيَّة تُمكِّن الرجالَ من التضييق على المرأةِ والتسلطِ عليها وقهرِها، يدبجون في طبختِهمُ الأحكامَ، ويتدارسون المراجعَ -فقط لإحكام قبضةِ الرجلِ على المرأة-، ويبثّون أفكارهمُ الذكورية.
ترتدي الحركاتُ النِّسْوِيةُ في العالم دائمًا نظارةً تطالعُ الأديان جميعَها على أنّها سوطٌ في أيدي الرجال، يفرِضون به سيطرتَهم على المرأة. ولا فارقَ في هذا بين نِسْوِية إسلاميَّة أو غربية، فقد دأَبتِ النِّسوِياتُ (الإسلامياتُ) على كيلِ الاتّهامات للفقه الإسلامي والعاملين فيه؛ باستخدام الفقه لصالح (الذُّكور).
لماذا تسرّبت إلى أذهانِهم هذه الفكرةُ المتهافتة؟، وما هي مظاهرُ هذه الفكرة؟.
-
أسباب دعوى ذكوريِّةِ الفقه:
أوّلًا: فكرةُ الصراعِ الكَوني:
يمكننا أن نُرجِع سبب اعتبارهم الفقه الإسلامي وسيلةً للسيطرةِ على المرأة إلى سيطرةِ فكرةِ الصراعِ، التي تُعَدّ “فكرة أصيلةً” في الفكر الغربي، حيث يرى الفيلسوف الإنجليزي (هوبر): “أنَّ الإنسان يعيش حالةً من الصراعِ الدائمِ في الحياة، واعتقَد أنَّ أصل الحياة عبارةٌ عن جولاتٍ من العنفِ والتّحارب والتصادم، وأن الكلَّ يتصارعُ ضدَّ الكل“
تسرَّبت فكرةُ الصراع إلى جميع جوانبِ الحياةِ لاحقًا، وازداد توغُّلُها بعد ظهورِ الداروينيةِ التي صرَّحتْ بوجودِ صراعٍ في الحياة بينَ القويِّ والضعيف؛ ثم معَ انتشارِ الرَّأسمالية وتحكُّمِها في المجتمع.
وأصبح المجتمعُ معسكرين يتصارعان: معسكر الرِّجال ومعسكر النساء، معسكران يرى أحدُهما بقاءَه في فناء الآخر، ويحصل على حقوقِه حربًا لا سلمًا من الآخر.
وهذا ما أنتجَ فِكرةَ الذُّكورية التي تتضمنُ تصوُّر أنّ الذَّكرَ هو المسيطرُ والمتسلطُ على المرأة، وأنّ “الرجال طبقةٌ معادية”(معاديةٌ للنساء)، والحقُّ أن طبيعةَ العلاقة بين الرَّجل والمرأةِ هي علاقةُ تكاملٍ وتعاضدٍ، يكمل أحدهما نقصَ صاحبه ويشدُّ أزره، تؤطرُ منظومةُ الدِّينِ والقِيَم والأخلاق علاقتَهما، خلقهما الله من نفسٍ واحدة، وجعل كلًّا منهما سكنًا لصاحبه ومأوى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾.
ثانيًا: دعوى المساواة:
في سياقِ محاولاتِ ضبطِ العلاقة ورفعِ الإجحاف عنِ المرأة؛ ظنّ أبواقُ النسوية أن الحلَّ يكمُن في تحقيقِ المساواة الشاملةِ بين النساءِ والرجال، وعدّوا وجوبَ التساوي بين الرجلِ والمرأةِ في الحقوقِ والواجباتِ سبيلًا لرفعِ الظُّلم عن المرأة.
وبناءً على ذلك؛ اعتَبروا الأحكامَ الفقهية التي تخصُّ المرأة دون الرجل وسيلةً لتمييز الرجل وإعطائه أفضليةً على المرأة، وواقعُ الحياة يخبرنا أنّ الرجل والمرأة غير متماثلَين في الخِلقة الجسديّة، ولا التكوينِ العضوي والعقلي والنفسي، وبالتالي؛ فإنّ محاولةَ تحقيق المساواة إجحافٌ وظلم وقَسْر للمرأة أن تكتسيَ بثوب لا يليق بها، وتلتزمَ بطباعٍ وسلوك لا يتواءم وخلقتَها. أمّا الشريعة الإسلامية فقدِ استوعبت هذه الفوارق؛ فلم تبْنِ العلاقة بين الرجل والمرأة على المساواة، بل على العدل، ليأخذ كل طرفٍ حقه ويؤدي واجبه بما يتناسبُ وطبيعةَ خلقته وفطرتِه وتكوينه واستعدادِه النفسي.
وهنا يمكن تصنيفُ الأحكام الفقهية إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: ما اختُصّ به الرجال.
القسم الثاني: ما اختُصت به المرأة.
القسم الثالث: ما ليس فيه اختصاص.
ثالثًا: جهل بمفهوم الفقه ومصدرِه ودور الفقيه فيه:
الفقه هو: “معرفةُ الأحكامِ الشرعيّة الفرعية“، كما يُعرفِّف الأصوليون والفقهاء الفقه بأنه: العلم بالأحكام الشرعيةِ العملية المكتسَب من أدلتِها التفصيلية“، لكن يتناسى أبواقُ النسوية ماهيّةَ الفقه، ويُهملون مصدرَه المُستقى من النبع الصافي: “القرآن الكريم والسنة النبوية”، ويتَّهمون الفقيه بالذكورية بسبب “ما يتّصفون به من جهالاتٍ متراكمة، جهالة بمفهوم الفقهِ ونشأته، وعلاقة الفقيه به وجهالة بواقع الفقهِ وأحكامه، وجهالة بحكمه وأسراره”، هذا ما جعلهم يروّجون لمظاهرَ وصور خاطئةٍ يدْعون من خلالها إلى دعوى ذكورية الفقه.
-
مظاهر وصور دعوى ذكورية الفقه:
لماذا هؤلاء الفقهاء رجال؟
يدّعي أصحاب هذه الدعوى أنَّ الرجالَ يسيطرون على الفقه، وأن “الفقه يتأثّر بأحاسيس الفقيه ومشاعرِه، وينبعث من عواطفه، أو يعبّر عن آرائه وطموحاتِه، ويعكس شخصيةَ صاحبه؛ كما هو الشّأن في الأدبِ والرسم وغيرِ ذلك من الإبداعات الفنيّة، وبالتالي؛ فالفقيه في نظرِهم هو واضعُ الفقه ومشرّعه، وبذلك فهم يحمّلونه مسؤوليةَ كل ما لا يرضيهم من فقه، ولا يستجيبُ لرغباتِهم وأهوائهم من أحكام، فتراهم يتّهمونه بالتّشدد والتَّزمت حينًا، وبالتحيز والتعصب حينًا آخر”، وبالذكورية وتحريفِ الفقه لصالحِه كونه رجلًا، والحقيقةُ تُظهر عكس ذلك؛ فالفقيه “ملزَم بضوابطَ معينة لا يتجاوزها، ومعايير محدَّدة لا يمكنُه مخالفتها، ومرجعية ثابتة لا تتأثرُ بذكورة ولا أنوثة ولا خنوثة، لأن الفقه شرعُ الله وقانونُه المعبِّر عن حكمه تعالى وإرادته، والفقيه مجرد باحثٍ عن ذلك الحكم الغائب المجهولِ، ومكتشفٍ له، إذا عثر عليه من خلال الأدلَّة الشرعية المنصوبةِ عليه أعلنه، والتزمَه في عمله وإفتائه وقضائه وتعليمه”.
أين الفقيهات؟
يدّعي أصحابُ هذه الدعوى أن المرأةَ المسلمة مضطهَدة، ولا يُسمح لها أن تكون فقيهة، وأن تجتهدَ مثل الرجل، ويدعمون هذه الفكرة بندرة الفقيهات المعروفات، واندثار “سيَر الصالحات من النساء من الأعمال التاريخية، حتى إنه ليُخيَّل للمجتمع أن الفقه قام على جهود الرجالِ دون النساء”، وهذا ينطلق من الجهلِ بالتاريخ، بل إقصائِه؛ لإسقاط تصور الذكورية وظلمِ الرجل للمرأة، والحقيقة أن التاريخَ مليء بنماذجَ لعالمات وفقيهات وصالحات؛ منذ عصر الرسول ﷺ إلى عصرنا هذا، فقيهات لم يمنعْهُنَّ لا الدين ولا الرجل من الاجتهاد في الفقه.
الفقه مشكلتنا:
بعد تجاوزِ إشكال الفقهاءِ والفقيهات؛ قد يقفز أصحابُ الدعوى إلى الطَّعن في الفقهِ من خلال ادِّعاء ظلمِ الأحكام الشرعية للمرأة، ولعل أشهر حُكم يعترضون عليه هو حُكم الميراث، وما أكثر تشدُّقَ أفواه النسويات بالفَهم الخاطئ للآية الكريمة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَين}، ولا تنتبه إحداهنَّ أن النصيب المقرَّر في الآيةِ هو نصيب الأنثى، وجعل نصيب الرجل تبعًا له؛ فلم يقل الله تعالى للأنثى نصفُ نصيب الذكر، بل جَعلت الآية المعيار والمقياس هو نصيب الأنثى، والذكر الذي جُعل نصيبه على الضِّعف من المرأة؛ هو زوجٌ، أو أب، أو أخ له أنثى ينفق عليها وعِيال، بينما المرأة لها ذكر ينفق عليها.
وعلى ذلك؛ فالأنثى في واقعِ الأمر هي صاحبةُ النصيب الأكبر من الميراث.
ونلاحظ أن نصيب الأنثى على النصف من نصيب الذكر في حالاتٍ محدودة، وليست هذه القاعدة مطَّردة في جميع حالات الميراث.
وأنصِبة المواريث في الإسلام تختلف وفقًا لمعايير ثلاثة:
١- درجةُ القرابة بين الوارِث والمورث.
٢- موقع الجيل الوارث: فالأجيال الجديدة غالبًا ما تكون صاحبةَ نصيب أكبر من الأجيال الأكبر.
٣-العبء المالي: وهذا هو المعيار الذي أثمر تفاوتًا بين الذكر والأنثى، وليس بين المعايير ذكورة ولا أنوثة.
بل إن هناك أكثر من ثلاثين حالة تأخذ فيها المرأة مثل الرجل أو أكثرَ منه، أو ترث هي ولا يرث الرجل، مقابل أربع حالاتٍ ترث فيها المرأة على النصف من الرجل.
افتحوا مجال الاجتهاد:
يحاول أصحابُ دعوى ذكورية الفقه ضربَ الأدوات التي يستعملها المجتهد والفقيه للاجتهاد في الفقه عن طريق “الدعوة لِأنْ يكون الاجتهاد مباحًا متاحًا، بغير ضوابط أصولية معروفة عند العلماء ومذاهب المسلمين”، ولكن أصول الفقه باعتباره علمًا يضع “القواعد التي يُتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية” يضبط الأدوات التي يستعملها كلٌّ من الفقيه الأصولي والفقيهة الأصولية، ويوضِّح أن استعمال هذه القواعد للاجتهاد يكون بتجرد، ولا علاقة لها لا بذكورة ولا بأنوثة، كما يُحدِّد شروطًا معينة يجب توفرها في كلِّ مجتهد؛ سواء كان رجلًا أم امرأة.
تبدو مسألة (ذكورية الفقه الإسلامي) اعتراضًا متهافَتًا، حقيقتُها رفضٌ للتكاليف والأحكام، بتستر خلف نداءات المساواة ورفع الظلم، وتعميمٍ لمفاهيمَ جائرة من الفكر النسوي على قضايا عادلةٍ لا تتناسب معها، وخلطِ الباطل بشيء من الحق لتزييفه.
وقد اتخذوا الفقه جسرًا للوصول لمآرب أخرى يهدمون بها أسُس الدين، ويمرِّرون الأفكار التغريبية،
وقد تؤدي دعاويهم المتهافتة إذا اتُّبعت إلى تشويه هوية الفقه والنيل من قداسته، ووضع الحقد نحوَه في قلب المسلمات؛ بتصوير النسوية له على أنه أداةُ قهر الإسلامِ للمرأة، وتسليط الرجل عليها، وإشاعة الطعن في عدالة العلماء ونزاهتِهم وفي حجية القرآن والسنة، وتغييب الفقه من الحياةِ العامة للمسلمين بُغيةَ إحلال القوانين الوضعية محله.