الوصف
ولا بدَّ لنَا منَ التفريقِ بينَ معنَى الذَّمِّ ومعنَى الشتْمِ في لغةِ العربِ، فالشتْمُ في لغةِ العربِ يأتِي بمعنى قبيحِ الكلامِ الذي لا قذْفَ فيهِ والوصفِ بالإزراءِ والنقصِ، وهوَ مغايرٌ لمعنى الذَّمِّ الذِي معناهُ اللَّومُ بعدَ الإساءةِ.
مقالة
إنَّ اللهَ عزَّ شأنُهُ وجلَّ مقامُهُ مُتَّصِفٌ بصفاتِ الكمالِ المطلقةِ والأسماءِ الحسنى وكلامُهُ سبحانَهُ وتعالى أصدقُ الكلامِ وأبلغُهُ وأحسنُهُ وأجملُهُ، وإنَّ منَ الظنونِ الفاسدةِ أنْ يُظَنَّ بكلامِ العزَّيزِ الحميدِ مقامٌ هوَ في مرتبةِ الدُّونِ عندَ الخلقِ؛ فكيفَ بالخالقِ؟ وكيفَ يُظَنُّ هذا الظنُّ وهوَ سبحانهُ عزَّ شأنُهُ وجلَّ قدْرُهُ قدْ نهَى عبادَهُ المؤمنينَ عنهُ وحثَّهُمْ على فضائلِ الأخلاقِ وأنبلِها في كتابِه وعلَى لسانِ نبيِّهِ ﷺ ؟ أليسَ نقرأُ في كتابِهِ الكريمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[سورة الأحزاب٧٠-٧١]. ألمْ ينهَنَا نبيُّنَا ﷺ عنْ هذَا المقامِ المُسْتَبْشَعِ فقالَ: (ليسَ المؤمنُ بالطعَّانِ ولا اللعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذِيءِ)ألمْ ينهَ عائشةَ رضي اللهُ عنها عنْ سبِّهَا لليهودُ الذين سبُّوا رسولَ اللهِ ﷺ ؛ قالتْ رضي اللهُ عنهَا: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ: وَعَلَيْكُمْ قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَالذَّامُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ : يَا عَائِشَةُ لَا تَكُونِي فَاحِشَةً فَقَالَتْ: مَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ: أَوَلَيْسَ قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمِ الَّذِي قَالُوا، قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ. وفي رواية: فَفَطِنَتْ بِهِمْ عَائِشَةُ فَسَبَّتْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفُحْشَ وَالتَّفَحُّشَ.
ولا بدَّ لنَا منَ التفريقِ بينَ معنَى الذَّمِّ ومعنَى الشتْمِ في لغةِ العربِ، فالشتْمُ في لغةِ العربِ يأتِي بمعنى قبيحِ الكلامِ الذي لا قذْفَ فيهِ والوصفِ بالإزراءِ والنقصِ، وهوَ مغايرٌ لمعنى الذَّمِّ الذِي معناهُ اللَّومُ بعدَ الإساءةِ.
كمَا ينبغِي لنَا استحضارُ بعضِ القواعدِ المهمةِ التي يجبُ استصحابُهَا في فهمِ القرآنِ الكريمِ، فالأصلُ تنزيهُ اللهِ عزَّ وجلَّ وتنزيهُ كلامِهِ عنِ السبِّ والشَتْمِ ولو كانَ المخاطَبُ كافرًا جاحدًا لهُ سبحانَهُ. ثمَّ إنَّ أمثالَ القرآنِ الكريمِ كلُّهَا حقٌ وكلامُ اللهِ لا يأتي إلا بالحقِّ فقد قالَ سبحانَهُ:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: ٣٣].
فإذا استَصْحَبْنَا هذا الأصلَ استوجَبَ علينَا معرفةُ مرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ منَ الآياتِ التي قدْ يفهمُ منهَا البعضُ أنَّهَا شتْمٌ للكفارِ.
ففِي قولِهِ تعالى:{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (*) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (*)}[البقرة: ٦٥-٦٦]، هنَا يخبرُ اللهُ سبحانَهُ بخبرِ مسخٍ قد وقَعَ في القرونِ الماضيةِ عبرةً وموعظةً، فلا يَسُوغُ فَهْمُ هذا الخبرِ على أنَّه شتمٌ لهؤلاءِ، لأنَّهَا جاءتْ في سياقٍ تاريخيٍّ، كمَا أنَّ سياقَ الآياتِ جاءتْ في سياقِ تذكيرٍ وَوَعْظٍ لبنِي إسرائيلَ لا شَتمًا لهمْ، فلا يَصِحُّ اجتزاءُ الآيةِ منْ سياقِهَا وفهمُهَا على غيرِ وجهِهَا، فهذهِ قاعدةٌ مهمةٌ خاصةٌ في فهمِ كلامِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
قالَ ابنُ عاشورٍ:وتكوينُهُم قردةً يحتملُ أنْ يكونَ بتصيِيرِ أجسامِهِمْ أجسامَ قردةٍ معَ بقاءِ الإدراكِ الإنسانِيِّ؛ وهذا قولُ جمهورِ العلماءِ والمفسرينَ، ويحتملُ أنْ يكونَ بتصيِيرِ عُقولهمْ كعقولِ القردةِ مع بقاءِ الهيكلِ الإنسانِيِّ؛ وهذا قولُ مجاهدٍ، والعبرةُ حاصلةٌ على كِلَا الاعتبارَيْنِ والأوَّلُ أَظْهَرُ في العبرةِ لأنَّ فيهِ اعتبارَهُم بأنفسِهِم واعتبارَ الناسِ بهمْ؛ بخلافِ الثانِي، والثانِي أقربُ للتاريخِ إذْ لمْ يُنْقَلْ مَسْخٌ في كُتُبِ تاريخِ العبرانِيينَ، والقدرةُ صالحةٌ للأمرينِ والكلُّ مُعجزةٌ.
والعبرةُ في أنَّهم مُسِخُوا قُرودًا، أنهمْ لمَّا لمْ يتلقَوُا الشريعةَ بمعانيها وبالانقيادِ والتسليمِ وأخذُوا بصورةِ الألفاظِ صارُوا يشبهونَ القردةَ -في الهيكلِ الإنسانِيِّ- التي لا تقفُ إلا عندَ المحسُوسَاتِ ولا تفقهُ المعانِي والغاياتِ فعُوقِبُوا بذلكَ.
ولقدْ نقلَ ابنُ عاشورٍ اتفاقَ العلماءِ القائلينَ بوقوعِ المسخِ أنَّ الممسوخَ لا يعيشُ أكثرَ من ثلاثةِ أيامٍ وأنَّهُ لا يتناسَلُ. رَوى ذلكَ ابنُ مسعودٍ عن النبيِّ ﷺ في «صحيحِ مسلمٍ» أنهُ قالَ: «لمْ يُهلكِ اللهُ قوماً أو يُعذبْ قوماً فيجعلَ لهمْ نَسْلَا».
ومنَ القواعدِ المهمةِ كذلكَ معرفةُ الأسلوبِ البلاغِيِّ القرآنِيِّ الذي يهدِفُ لإيصالِ دلالةٍ معينةٍ من تشبيهٍ واستعارةٍ ومجازٍ ووصفِ حالٍ؛ ليتناسبَ معَ مضمونِ الآياتِ بِبُعْدِهَا الدينِيِّ والنفسِيِّ.
ففِي قولِهِ تعالَى:{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان: ٤٤] عندمَا نستصحبُ ما سبقَ نرَى أنَّ حالةَ غَفلتِهِم قدْ شُبِّهَتْ بحالِ غفلةِ الأنعامِ، فهي تشبيهُ حالٍ بحالٍ.
قالَ الزمخشرِيُّ في تفسيرِ هذهِ الآيةِ: لأنهمْ لا يلقُونَ إلى استماعِ الحقِّ أُذُنَاً ولا إلى تدبُّرِهِ عقلاً، ومشبَّهينَ بالأنعامِ التي هي مَثَلٌ في الغفلةِ والضلالِ، ثم أَرجحُ ضلالةً منهَا. فإنْ قلتَ: كيف جُعِلوا أَضَلَّ من الأنعامِ؟ قلتُ: لأنَّ الأنعامَ تنقَادُ لأربَابِهَا التي تَعْلِفُهَا وتَتَعَهَدُهَا، وتعرفُ منْ يُحسنِ إليهَا مِمَنْ يسيءُ إليهَا، وتطلبُ ما ينفعُهَا وتَجْتَنِبُ ما يضرُّها وتهتدِي لمراعِيها ومشارِبِها. وهؤلاءِ لا ينقادُون لربِهم، ولا يعرفونَ إحسانَهُ إليهِم منْ إساءةِ الشيطانِ الذي هوَ عدوُّهُم، ولا يطلبونَ الثوابَ الذي هوَ أعظمُ المنافعِ، ولا يتَّقونَ العقابَ الذي هوَ أشدُّ المضارِّ والمهَالِكِ، ولا يهتدونَ للحقِّ الذي هو المَشْرَعُ الهنِيُّ والعَذْبُ الرَّوِيُّ
وأمَّا في قولِهِ تعالَى:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال: ٢٢] فَهُنَا جاءَ التعبيرُ القرآنيُّ واصفًا سوءَ حالِهِم، وأخبرَ بأنَّهُم شرُّ خلقِ اللهِ لأنهم تولُّوا عن دينِهِ، واستكبرُوا منِ اتباعِ رسولِهِ ﷺ رغمْ الحُجَجِ البيِّنَةِ والأدلَّةِ الدامغةِ.
قال ابنُ عاشورٍ –رحمهُ اللهُ-: إنَّمَا وصفَهُم بــ (شرِّ الدوابِّ) لأنَّ دعوةَ الإسلامِ أَظْهَرُ من دعوةِ الأديانِ السابقةِ، ومعجزةَ الرسولِ ﷺ أَسطَعُ، ولأنَّ الدلالةَ على أَحَقِّيَّةِ الإسلامِ دلالةٌ عقليةٌ بيِّنَةٌ، فمنْ يجحدُهُ فهوَ أشبَهُ بمَا لا عقلَ لهُ، وقدِ اندرَجَ الفريقانِ من الكفارِ في جنسِ شرِّ الدوابِّ .[5] وقالَ ابنُ عطيةَ في تفسيرِهِ: المقصودُ تفضيلُ الدوابِّ الذميمَةِ كالخنزيرِ والكلبِ العقورِ على الكافرينَ الذين حُتِمَ عليهم بأنهُم لا يؤمنونَ، وهذا الذي يَقْتَضِيهِ اللفظُ، وأمَّا الكافرُ الذي يؤمنُ فيمَا يستأنِفُهُ من عُمُرِهِ فليسَ بشرِّ الدوابِّ، وقولُه (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) يحتملُ أنْ يريدَ أنَ الموصوفَ بــ (شَرِّ الدَّوَابِّ) همُ الذينَ لا يؤمنونَ، المعاهدونَ من الكفارِ، فكانُوا شرَّ الدوابِّ على هذا بثلاثةِ أوصافٍ: الكفرُ والموافاةُ عليهِ والمعاهدةُ مع النقضِ.
أيضًا منَ القواعدِ المهمةِ في فهمِ مُرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ، أنَّ ضَرْبَ الأمثالِ في القرآنِ يأتي للتَّذكِيرِ والوَعظِ والحَثِّ والزَّجرِ وتقريبِ المعنى للعقلِ بتصويرِهِ لشيءٍ محسوسٍ، كما جاءَ في قولِهِ تعالَى:{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ}[المدثر: ٥٠]
نرَى قولَ ابنِ عاشورٍ: شُبِّهَتْ حالَةُ إعراضهِم المتخيَّلَةُ بحالةِ فرارِ حُمُرٍ نافرةٍ مما يُنَفِّرُهَا. والحُمُرُ: جمعُ حمارٍ، وهو الحمارُ الوحشيُّ، وهوَ شديدُ النِّفَارِ إذا أحسَّ بصوتِ القانِصِ، وهذا منْ تشبيهِ المعقولِ بالمحسوسِ.وقد كثُرَ وصفُ النَفْرَة وسرعةِ السيرِ والهربِ بالوحشِ من حُمُرٍ أو بقرٍ وحشٍ إذا أَحْسَسْنَ بما يرهبْنَهُ كما قالَ لبيدُ في تشبيهِ راحلتِهِ في سرعةِ سيرِها بوحشيةٍ لَحِقَهَا الصيادُ:
فَتَوجَّسَــتْ رِكْزَ الأنِيسِ فَراعَهـا
عَـنْ ظَهْـرِ غَيْـبٍ والأنِيسُ سَـقامُها
وقدْ كَثُرَ ذلكَ في شعرِ العربِ في الجاهليةِ والإسلامِ .
وأمَّا قولُهُ سبحانَهُ:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الجمعة: ٥] نجدُ الخطابَ القرآنيَّ قدْ شبَّهَ المعقولَ بالمحسوسِ، فَهُمْ يحملونَ العلمَ لا يفقهُونَهُ كَمَثَلِ الحمارِ الذي حمَّلَهُ صاحبُهُ كُتبَهُ على ظهرهِ فهوَ يحملُهَا ولا يفقَهُ ما فيهَا.
قالَ الشيخُ محمدُ الأمينُ الشنقيطيُّ: هذا مثلٌ ضربَه اللهُ لليهودِ، وهوَ أنَّهُ شَبَّهَهُمْ بحمارٍ، وشبَّهَ التوراةَ التي كُلِّفوا العملَ بمَا فيهَا بأسفارٍ أيْ: كتبٍ جامعةٍ للعلومِ النافعةِ، وشبَّهَ تكلِيفَهُم بالتوراةِ بحملِ ذلكَ الحمارِ لتلكَ الأسفارِ، فكمَا أنَّ الحمارَ لا ينتفعُ بتلكَ العلومِ النافعةِ التي في تلكَ الكتبِ المحمولَةِ على ظهرِهِ، فكذلِكَ اليهودُ لم ينتفعُوا بما في التوراةِ من العلومِ النافعَةِ؛ لأنهم كُلِّفوا باتباعِ محمدٍ ﷺ وإظهارِ صفاتِهِ للناسِ فخَانُوا وحرَّفُوا وبدَّلُوا فلم ينفعهُم ما في كتابِهِم من العلومِ
وفيها قالَ ابنُ عاشورٍ: وهذا التمثيلُ مقصودٌ منهُ تشنيعُ حالِهِم وهوَ مِن تشبِيهِ المعقُولِ بالمَحْسُوسِ المتعارَفِ، ولذلكَ ذُيِّلَ بذَمِّ حالِهِمْ (بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ). و(بِئْسَ) فعلُ ذمٍّ، أيْ ساءَ حالُ الذين كذَّبُوا بكتابِ اللهِ فهمْ قدْ ضمُّوا إلى جهلهِم بمعانِي التوراةِ تكذيباً بآياتِ اللهِ وهي القرآنُ[.
وفي قولِهِ تعالَى:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الأعراف: ١٦٧] شُبِّهَ هذ العالِمُ الجاحدُ بآياتِ ربِّهِ بالكلبِ اللاهِثِ الذي يظلُّ يلهثُ سواءً طَرَدَهُ أحدٌ أم لمْ يطردُهُ، فكانَ هذا العالمُ مِثلَه في الضلالةِ التي ظلَّ عليها من قبلِ أن يَعْلَمَ آياتِ ربِّه وبعدَ أنْ عَلِمَهَا.
قالَ السُّدِّيُّ وغيرُه في تفسيرِهَا: إنَّ هذَا الرجلَّ عوقِبَ في الدنيا بأنَّهُ يلهثُ كمَا يلهثُ الكلبُ فَشُبِّهَ بهِ صورةً وهيئةً، وقالَ الجمهورُ إنَّمَا شُبِّهَ بهِ في أنهُ كانَ ضالاً قبلَ أنْ يؤتَى الآياتِ ثمَّ أوتِيها فكانَ أيضاً ضالاً لمْ تنفَعْهُ، فهوَ كالكلبِ في أنَّهُ لا يفارقُ اللَّهْثَ في حالِ حَمْلِ المشقَّةِ عليه وتركِهِ دونَ حَمْلٍ عليهِ. قالَ ابنُ عاشورٍ في شرحِ هذا المثلِ: وقدْ تفرَّعَ على هذهِ الحالةِ تمثيلُهُ بالكلبِ اللاهِثِ؛ لأنَّ اتصافَهُ بالحالةِ التي صيَّرَتْهُ شبيهاً بحالِ الكلبِ اللاهثِ تفرَّعَ على إخلادِهِ إلى الأرضِ واتباعِ هواهُ، واستعمالُ القرآنِ لفظَ المَثَلِ بعدَ كافِ التشبيهِ مألوفٌ بأنَّهُ يرادُ بِهِ تشبيهُ الحالةِ بالحالةِ، وتقدَّمَ قولُه تعالَى {مثلهُم كمثَلِ الذِي استوقَدَ ناراً}في سورةِ البقرةِ [١٧]، فلذلكَ تعيَّنَ أنَّ التشبيهَ هنَا لا يَخْرُجُ عن المتعارَفِ في التشبيهِ المركَّبِ
فيَتَّضِحُ لنا بعدَ فهمِ مرادِ اللهِ عزَّ وجلَّ في هذهِ الآياتِ أن اللهَ عزَّ وجلَّ قدْ ضربَ في الكفارِ المعرضينَ عن الحقِّ المبينِ، وفي الذينَ يتعلمونَ العلمَ ولا يعملونَ بِه، وفيمنْ آتاهُ اللهُ العلمَ فاتبعَ هواهُ ولمْ يعملْ بمَا عَلِمَ مثلًا أرادَ بهِ ذمَّهُمْ وذَمَّ فعلهِم، ونهانَا بهذا الأسلوبِ عن نهجهِم، وهذهِ الآياتُ وغيرُهَا لمَّا عرفنَا مُرادَ اللهِ فيها؛ تبيَّنَّا تهافُتَ الظنِّ الفاسدِ بكلامِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى، وعرفنَا الغايةَ منهَا وغيرَهَا من الآياتِ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِهِ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما أنَّهَا دالَّةٌ على أنهُ تعالَى لا يستَحْيِيْ منْ بَيَانِ العلومِ العظيمةِ بضربِ الأمثالِ بالأشياءِ الحقيرةِ، وقدْ قالَ سبحانَهُ:{إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسْتَحْىِۦٓ أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.