الوصف
إنَّ الإسلام إذ يصف نفسه بالدين الحقِّ، وبأنَّ رسوله المبعوث هو خاتم النبيين و الرسل، يضع بين يدي العالمين برهانًا و حجة على ذلك؛ القرآنَ الذي يؤمن المسلمون بأنه كلام الله و معجزته الخالدة، في حين يَتَعَنَّى آخرون الجهدَ بهدف التشكيك بربوبيَّته وإثبات بشريَّته.
مقالة
إنَّ الإسلام إذ يصف نفسه بالدين الحقِّ، وبأنَّ رسوله المبعوث هو خاتم النبيين و الرسل، يضع بين يدي العالمين برهانًا و حجة على ذلك؛ القرآنَ الذي يؤمن المسلمون بأنه كلام الله و معجزته الخالدة، في حين يَتَعَنَّى آخرون الجهدَ بهدف التشكيك بربوبيَّته وإثبات بشريَّته.
ولعلَّ من اللافت للنظر ابتداءً أن المطَّلعَ على الخطِّ الزمني منذ ظهور القرآن إلى زماننا هذا، يرى أنَّ أعداد المسلمين على امتداد ما يزيد عن أربعة عشر قرنًا في ازدياد مستمرٍّ ملحوظٍ جدًا، حتى أنَّ كثيرًا من مراكز الأبحاث المعنية بدراسة نمو الأديان لتتوقع للإسلام نموًا أكبر في قادم السنوات، فنرى على سبيل المثال لا الحصر بحثًا نشره مركز بيو الأمريكي للأبحاث بعنوان ( لماذا المسلمون هم المجموعة الدينية الأسرع نموًا في العالم)[١] يخلص إلى أن عدد المسلمين سينمو بنسبة ٧٠% ليتعدى ثلاثة مليار مسلم في عام ٢٠٦٠م .
وفي الجانب الآخر نجد أن التشكيك في القرآن – الذي هو عماد الدعوة للإسلام – لا يكاد يبرح مكانه منذ قرون. ما الذي يدفع المسلمين للتمسُّك بالقرآن إن كان كلامَ بَشَرٍ، أعَقِمَت النساءُ أن تلد من يكتُب خيرًا منه؟ أم أنَّ القرآنُ عَصِيٌّ على مرادِ المشككين، ولا تناله سهام الطاعنين لأنه كلام ربِّهم؟ فلنتَّجه نحو القرآن لنستقيَ منه الإجاباتِ، ولنستمع لما يُقِرُّ به عن نفسه؛ مصدره و محتواه، فليس بعد الإقرار حديث فهو سيِّد الأدلَّة، وليس لمن يطعن بهذا الدليل إلا الإتيان بدليل يفوقه و يضاهيه.
ولأن مستهلَّ الكلام يشفُّ عن فحواه، لا بدَّ لنا أن نقف عند الأوَّل تنزُّلًا من القرآن {اقرأ باسم ربِّك الذي خلق}[ العلق : ١]
اقرأ، فعل أمر لا يصدر إلا من مصدر علوي، فلا بدَّ للآمر أن يعلوَ المؤتَمِرَ فيما يأمره. إنَّ الكلمة الأولى وحدها تثير اللُّبَّ بعجيب إشاراتها و مدلولاتها بأن القراءة هي وعاء هذه الرسالة التي ستكون خاتمة الرسالات. لا ريب أنَّ الكلمة التي هي وحدة بناء القراءة تشكل الفهم و تبني النفس و تبعث على الحركة و الفعل.
و الكلام -إن أُتقن- كان خيرَ ناقلٍ حاملًا بين ثناياه تفاصيل ما يعجز البصر والسمع عن إدراكه مباشرة، ألا تراه يأتيك بنبأ ما لم ولا تبصره، ويخبرك بما خفي عن سمعك، وقد يأخذك إلى ما سيكون. أنَّ مجرَّد اختيار الكلام أن يكون هو الرسالة المعجزة لهو اختيارٌ عليٌّ.
إذًا لم تكن المعجزة العظمى للإسلام مما يبهر من عاينها وقت وقوعها فحسب، فلم تكن كإحياء موتى أو شق بحر أو غير ذلك مما يدفع رائيها للإيمان وقد يزول تأثيرها أو يخبو بانتهاء حدوثها، بل كيف ستكون حجة على من لم يرها حينئذ؛ فلابد لرسالة أُريدَ لها الخلود من معجزة خالدة لا تقف على حياة النبي المرسل بل تبقى من بعد وفاته حيَّة تستنطق إيمان البشر في كل زمان يأتي من بعده، ولا يخفت بريقها ولا ينضب معينها. و أنَّى لكل هذه المتطلبات والمعايير أن تجتمع إلا في كلامٍ معجز يُتلى جيلًا بعد جيلٍ، محفوظٍ من أدنى تبديل أو حذف أو إضافة.
فهل تنطبق هذه المعايير على القرآن؟ فلنقترب منه أكثر و لنرعه سمعنا و ننصت كما يطلب منا { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: ٢٠٤] ولنتدبَّر بعضًا من الدلائل على ربوبيته كما يعرضها هو.
أولًا: بلسان عربي مبين.
إنَّ اللغة العربية هي الوعاء الذي حوى هذه الرسالة فجاء القرآن بلسانها، وقد يقول قائل: لماذا يكون القرآن باللغة العربية في حين أنه للبشرية جمعاء؟ سنجد أن القرآن يجيبه { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ۖ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ ۗ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ ۖ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ۚ أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت ٤٤].
فلابدّ للكلام المنزل أن يكون بلغة مفهومة للبشر فيكون بإحدى اللغات المتداولة وقت تنزله. ولو فرضنا تنزله بلغة أخرى غير العربية لما زال هذا الاعتراض ولَقيل لم أنزل بهذه اللغة و ليس بتلك! فإن كان لا بد من لغة بشرية فلا عجب أن تكون أرفع اللغات وأعمقها تعبيرًا وأسلسها مرونة وأمتنها نسقًا ليتسنّى لها احتواء رسالة ربانية عظيمة سامية المعاني، بل ولن يكتمل الأمر إلا بأن تكون على لسان أفصح من ينطق بهذه اللغة. وهذا ما كان حقّا، فمن من اللغات تفوق العربية بفصاحتها ومرونتها ومتانة ألفاظها و سعة الاشتقاق فيها فلقد بلغت في آخر معجم جامع لها ١٢ مليون و ٣٠٠ ألف كلمة[٢]، أي ما يزيد عن لغة أخرى كالإنجليزية والفرنسية بخمس وعشرين مرة.
ناهيك عن غنى التعبيرات والأساليب من تقديم و تأخير وخطاب العامة والخاصة والمقيد والمطلق والإيجاز والبلاغة والمحسنات والخصائص الصوتية وغيرها من المزايا التي لا يسع ذكرها هنا والتي تاهت بها آلاف الكتب والمجلدات من نثر وشعر.
ولم يتنزل القرآن إلا بأفصح وأبين لسان عربي؛ لسانِ قريش الذي جمع الألسنة العربية كافة كما يؤكِّد ذلك علماء اللغة، فيقول العلامة ابن فارس: “وكانت قريش-مع فصاحتها و حسن لغتها و رقة ألسنتها- إذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم و أشعارهم أحسن لغاتهم، وأصفى كلامهم، فاجتمع ما تخير من تلك اللغات إلى نحائرهم وسلائقهم التي طبعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب؛ ألا ترى أنك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم، ولا عجرفية قيس، ولا كشكشة أسد، ولا كسكسة ربيعة، ولا الكسر الذي تسمعه من أسد و قيس مثل: تِعلمون، ونِعلم، ومثل شِعير و بِعير.” .[٣]
ويبيِّنُ ابن خلدون في مقدمته أن لسان قريش كان أفصح و أصرح الألسن العربية، ويعزو ذلك لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم الجغرافية فلم يشبه ما يشوب الألسن من اختلاط اللغات.
فكان العرب يحتكمون إلى لسان قريش في خلافاتهم اللغوية. وبعد نزول القرآن وجمعه أصبح هو المرجع الأول في اللغة العربية عبر كل الأزمنة. يتفق على ذلك كل علماء اللغة مسلمين كانوا أم غير مسلمين. ومن شرِّ البلية المضحكِ أنك تجد في زماننا هذا من ينعق بما لا يفهم ويدَّعي وجود أخطاء لغوية في القرآن، في حين أنه لا يُحسِنُ اللفظ الصحيح في حديثه ناهيك عن الضبط.
إنَّ عِظَمَ تنزُّلِ القرآن بأبينِ لسانٍ عربيٍّ ليقودنا إلى ما ترتَّب عليه من أمور، وفيها بيان الدلالة الثانية.
ثانيًا: التحدي
فلما وجدت قريش أن هذا القرآن له وقع ليس كوقع غيره من الكلام وأنه من البلاغة والسلاسة والمتانة ما أغاظ مشركيهم جحدوه، واتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه افتراه من عنده، فأنزلت آياتٌ تتحداهم أن يأتوا بمثله، وكأنَّ لسان حاله يقول: هأنذا مكوَّنٌ من حروف تعرفونها ومن كلمات تتداولونها بينكم – وأنتم أفصح العرب – فهلا جئتم بمثلي؟! فإن كان بشرٌ مثلكم أتي بي من عنده كما تزعمون فلأنتم مجتمعون أشد بلاغة منه وحده فأتوا بمثل ما أتى به إن صدقتم. فلم يجرؤ أحدٌ منهم أن ينبس ببنت شفة، ثم ينخفض سقف التحدي إلى الإتيان بعشر سورٍ فقط{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }[هود :١٣].
وما من متقدم ٍللنزال، فينتهي الأمر بتحديهم أن يأتوا بسورة واحدة فقط {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس :٨٣] ولم يتقدم من أرباب العربية أحدٌ عَجزًا منهم، فهم وإن كفروا ليعلمون في قرارة أنفسهم عظيم ما هم أمامه، وهم الذين برعوا في المبارزة اللغوية ليجدون أن هذا القرآن ليس من جنس ما اعتادوا مبارزته، وإلا لتقدموا.
ومن المؤكد أنه لم يصرفهم صارفٌ عن التحدي، فلو كان ذلك لسمعنا أنهم قبلوا التحدي لكنَّ أمرًا خارجًا عن إرادتهم قد منعهم، ولسجل لنا التاريخ عجائب القصص في ذلك، بيد أنَّ ذلك لم يكن، بل سجَّل لنا إقرارهم بأنه كلامٌ ليس كمثله كلام؛ فها هي شهادة أحد زعماء مشركي قريش، الوليد بن المغيرة يصف القرآن للمشركين بعدما سمعه :” وماذا أقول؟! فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته “ [٤]و لم يذكر لنا التاريخ أن أحدًا منهم جاء بسورة أو حتى أقام مؤتمرًا لقبائل العرب لدراسة مشروع الإتيان بسورة، فهل يعقل أن يستعينوا بمن هم أقلُّ فصاحة، كالمستجير من الرمضاء بالنَّار!.
لذلك نجد أنهم اتخذوا كل سبل الصدِّ عن القرآن إلا السبيل الذي فتحه لهم القرآن نفسه. وهذا لعمري هو منهج الصَّادين عن الحق حتى يومنا هذا. إن التحدي لم يكن لقريش فحسب و لم يكن حتى للعرب كافة وقت تنزل القرآن، بل لم يكن حتى للإنس فقط!
إن التحدي بالإتيان بسورة واحدة كسور القرآن مكتملة البناء ببلاغتها وبيانها وعلو معانيها وتآزرها ومتانة لفظها ونسق نظمها ورقّة وقعها على النفس وكل ما تتصف به السورة الواحدة من القرآن مازال مفتوحًا حتى الآن وسيبقى إلى قيام الساعة متاحًا للإنس والجنِّ متفرقين كانوا أم مجتمعين متعاونين على ذلك، وهذا هو السبيل الوحيد للاعتراض على أن هذا القرآن من عند الله، وهو الحل الوحيد لمن أراد أن يثبت دعوى أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، بيد أن القرآن يجيب {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء :٨٨] فهل من معترض؟!
إنَّ هذا التحدي العظيم لا يمكن أن يبقى متاحًا إلا بملازمة الدلالة التالية للقرآن الكريم.
ثالثًا: الحفظ
ستجد في القرآن تعهدًا صريحًا واضحًا مؤكَّدًا أنَّ الذي نزَّله سيحفظه. {إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون} [الحجر:٩] . وإنَّ هذا لتعهد عظيم جدا لا يجرؤ عليه إلا العظيم الذي لا يعجزه شيء، والذي لا يُقضى أمرٌ إلا بمشيئته؛ فإن قال لن يناله التحريف، فلن يناله ذلك أبدًا ولو اجتمعت الخلائق كلها لتحريفه في كل زمان ومكان.
وقد يتساءل أحدهم: إن كان القرآن محفوظًا لأنه كلام الله، فلِمَ لم تحفظ التوراة و الإنجيل مثلًا؟ أليست كلام الله؟!
سيجيبه القرآن على ذلك إن أنصتَ له في وصفه للذين أنزلت عليهم {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة :٤٤].
والشاهد هنا ( استحفظوا) فلقد وكِّلت الأمم السابقة بحفظ كلام الله الذي أنزل إليهم ولم يتعهد الله بحفظه، فنال تلك الكتب _ على قدسيَّتها_ ما نالها من تحريف و تبديل بما يوافق أهواء من وكِّلوا بحفظها فلم يرعوها حق رعايتها. لكنَّ القرآن لم يُوكَل حفظه للمسلمين بل تعهّد بحفظه اللهُ الذي أنزله، فالمعيار هنا ليس قدسية الكلام و لكنَّ المعيار هو إرادة المُنزِل؛ فلو أراد لتلك الكتب الحفظ لحفظت، ولكنه شاء ذلك و تعهَّد الحفظ للقرآن الكريم وحده، الذي جعله مصدِّقًا لها و مهيمنًا عليها إذ قال {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } [المائدة :٤٨].
ثم إن المتدبر للحكمة من ذلك ليجد أن الكتب من قبل أُنزلت بشرائعَ تخصُّ أقوامًا بعينهم وتختلف عن غيرهم، ولكنَّ القرآن أنزل للعالمين ففيه شريعتهم إلى قيام الساعة، فلا بدَّ من قوة عظيمة تتولى حفظه نقيًّا كما أنزل فيصلح أن يكون حجَّة في كل زمان دون أن يدَّعي بشرٌ الفضل بحفظه أو رعايته. فها أنت اليوم بعد ما يزيد عن أربعة عشر قرنًا من تنزل القرآن تُمسك نفس المصحف الذي يمسكه المسلم في أيَّة بقعة على وجه الأرض، وإنَّ تسابق المسلمين في حفظه ليس خوفًا عليه من الضياع أو التحريف بل مسارعةً منهم للازدياد من الأجر و الثواب.
ولعلَّ التحريف الذي نال التوراة والإنجيل على يد الذين استُحفظوها من أحبار ورهبان فأدخلوا عليها أهواءهم وأخفوا منها عن الناس ما خالف هواهم، لعلَّه ينقلنا للدلالة التالية من دلائل ربوبية القرآن الكريم.
رابعًا: مخالفة أهل الكتاب.
إن القرآن إذ يذكر من قصص وعبر الأمم السابقة ومن تفاصيل بعثة الأنبياء من قبل ليزيد مشركي قريش ذهولًا؛ فقد كانوا قد اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه جاء بالقرآن من عنده فوصفوه بالشاعر وبالمجنون تارة وبالكاهن تارة أخرى، لكن ماذا يقولون الآن وهو يتلو عليهم أحسن القصص وهم الأميون الذين لا يعلمون من الكتب السابقة شيئًا، وهو الرجل الذي عاش بين ظهرانيهم أربعين سنة لم يغادرهم بطول سفر فينقل العلم من علماء أهل الكتاب؟! فلم يجدوا في مكة من غير الأميين والوثنيين إلا حدادًا نصرانيًّا روميًّا يعرف الكتابة ولا يعلم من كتابه إلا أمانيَّ، ولا يكاد يبين في تحدثه العربية، فاتهموا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه تعلَّم منه، فتتنزل الآيات التي تسخر من زعمهم هذا ؛ فكيف لأعجمي أن يعلِّم البيان، وأنى له أن يصمت دون نسبة هذا الشرف العظيم لنفسه من قريب أو بعيد{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} [النحل :١٠٣].
وهل يرضى هذا النصراني بما جاء به القرآن؟ فكيف يُعقل أن يعلِّم ما يخالف دينه ويُبطل معتقده؟!
{وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ۗ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَىٰ ۗ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ۙ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ }[البقرة: ١٢٠]. وما أدقَّ وصف الدكتور الدراز لحالهم في تخبطهم برمي التهم جزافًا فيقول: ” هكذا ضاقت بهم دائرة الجد فما وسعهم إلا فضاء الهزل، وهكذا أمعنوا في هزلهم حتى خرجوا عن وقار العقل.)[٥]
ويظهر في هذا الزمن من يرمي بكل الشواهد و العقل عرض الحائط ليقول أن القرآن ما هو إلا تجميع من الكتب السماوية. لو كان في هذه الفرية بصيصُ عقل لما غفل عنها الذين كفروا من أهل الكتاب و هم يرتعدون بعد كل آية تتنزل تفضح تحريفهم كتبهم و إخفاءَهم الحق عن أتباعهم، وتجلِّي أمامهم العقيدة الحق بأن الله هو الواحد الصمد الذي ليس له ولد.
مخالفة صريحة واضحة جليَّة لصلب عقيدتهم؛ النصارى الذين يؤمنون بأن له ولد، واليهود بزعمهم أنه يتعب ويستريح ويندم على أفعاله وغير ذلك مما جاء القرآن لينزه الله سبحانه وتعالى عنه، فكيف يكون قد اقتبس من كتبهم وهو يهاجمهم في صلب عقيدتهم؟!
ناهيك عن الاختلافات الكثيرة العظيمة التي لا يمكن حصرها هنا، أورد منها مثلًا ما يذكره العهد القديم -الذي يسرد تفاصيل حياة بني إسرائيل- بأن هارون عليه السلام هو من صنع العجل، بينما يبين القرآن كيف كان نبيّا عونًا لأخيه موسى عليه السلام، ويفضح من صنع العجل ويذكره باسمه ” السامري” .
أضف إلى ذلك تفاصيل قصص لم ترد لا في العهد القديم ولا في العهد الجديد كقصة موسى مع العبد الصالح وذي القرنين، ودقائق قصة يوسف عليه السلام وغير ذلك كثير. ولا مجال هنا كذلك للخوض في البون الشاسع في التشريعات والعبادات والمعاملات.
فمن أين لبشر أين يأتي بكل هذه التفاصيل التي لم يشهدها بل ويخالف بحجة واثقة من يدَّعي معرفتها ويظهر علنًا ما تم إخفاؤه منها، تالله لا يكون ذلك إلا من عند من يعلم الغيب! {تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}[هود :٤٩]. وهذا ما يسوقنا للدلالة القادمة.
خامسًا: الإخبار بالغيب، ماضيه وحاضره ومستقبله.
فلقد ورد في القرآن ذكر العديد من الأخبار الغيبية التي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع وفقًا لزمن حدوثها :
[١-غيب الماضي] : وتجد ذلك جليًّا في آيات كثيرة تناولت أخبار الأمم السابقة بتفاصيل دقيقة يعلم بعضَها علماءُ الكتب السماوية ويجهلون أكثرها كما وضحنا ذلك في الدلالة السابقة، فمن أين جاء محمد صلى الله عليه وسلَّم بكل دقائق تلك الأخبار؟ {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۚ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ}[ آل عمران :٤٤] وتعقيبًا على قصة يوسف عليه السلام {ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ۖ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}[يوسف ١٠٢]
[٢-غيب الحاضر] : وهي أخبار كثيرة حدثت في حياة النبي صلى الله عليه و سلم، بيد أنه لم يشهدها ولم يخبره بها أحدٌ من الصحابة، كتلك الآيات الكثيرة التي نزلت تكشف ما يُسِرُّ به المنافقون فيما بينهم وما يحيكون من دسائس ومؤامرات، بل وآيات أخرى تفضح ما يعتلج صدورهم من غيظ يخفونه عن المؤمنين، فسورة التوبة مليئة بتلك الشواهد.
وإن لقصة النبي صلى الله عليه وسلَّم مع إحدى زوجاته التي استودعها سرًّا فأخبرت به، فأُوحيَ إليه عليه الصلاة و السلام بما فعلت {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَىٰ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ ۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَٰذَا ۖ قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِير}[التحريم: ٣]
بل إن بعض الآيات نزلت تخبر عما في نفس النبيِّ عليه الصلاة والسلام مما كان يخفيه، أو يستحي من إظهاره للمؤمنين، فلو كان القرآن من صنعه لما كشف ذلك ولأخفاه. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ۚ}[الأحزاب ٣٥]
ولوتدبَّرت الآيات التي أخبرت عن حقائق علمية لم تكن معروفة في ذلك الوقت و منها ما أثبته العلم لاحقًا، كمراحل تكون الجنين في بطن أمه {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }[المؤمنون ١٢_١٥] والإشارة إلى تميز بصمة الأصابع عند الإنسان { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة : ٤] فهذا لم يعرف إلا في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد. وهو من غيب الحاضر لأنها أمور تحدث في كل وقت لكن العلم بها متوقف على البحث وتراكب المعلومات والأجهزة العلمية المتخصصة التي لم تكن وقتئذ، فأنى لرجل أمِّيٍّ في ذلك الزمن أن يكتب هذه العلوم التفصيلية.
[٣-غيب المستقبل] : و لعل هذا النوع هو أبرز الأخبار الغيبية إذ لا سبيل لمعرفته من غير الوحي، فلقد أخبر القرآن عن وقائع ستحدث في قادم الأيام، منها ما شهده الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته بعد نزول الوحي به كانتصار الروم على فارس {غُلِبَتِ الرُّومُ ﴿٢﴾ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴿٣﴾فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ﴿٤﴾} [الروم ٢_٤] ودخوله مكة مع المؤمنين معتمرين مسالمين {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ ۖ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ۖ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَٰلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا}[الفتح :٢٧] ومنها ما لم يحدث بعد، كبعض علامات الساعة. فكيف لبشر مهما أوتي من علم أن يخبر بالغيب من الأمور، ويتحدث جازمًا بأنها ستحدث بكل تأكيد لا يشوبه تردد ولا مجال فيه لاحتمالية الشك، لعمري لا يجرؤ بشرٌ على ذلك.
ومن الطريف أن نذكر كيف فوَّت كبير المشركين أبو لهب فرصة ذهبية للتشكيك بالقرآن ـ وهو الذي ما كلَّ من محاربته. فلقد أنزلت سورة المسد تصف قبح صنيعه وأنه وزوجته سيموتان على الكفر وسيصليان النار. فكيف لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يجزم بذلك بتعبير واثق لا يحتمل الريب، ألا يخشى أن ينسف أبو لهب كلامه ويعلن إسلامه، فمن سيصدقه بعد ذلك؟! إن الذي أنبأ بذلك لهو الخبير علَّام الغيوب.
وكون القرآن كان يتنزل أحيانًا وفقًا لأحداث أو ردًّا على تساؤلات ليهدينا لدلالة سادسة على ربوبيته.
سادسًا: تنزله منجَّما مفرَّقًا.
فلقد كان القرآن يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم طوال فترة دعوته التي زادت عن العشرين عامًا، فلم ينزل عليه دفعة واحدة، فاشتهى المتربصون أن يجعلوا من ذلك إسفينًا للتشكيك بمصدر القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ} الفرقان 32.
وما دروا أنهم بذلك يدقُّون المسمار الأخير في نعش الشبهات والاعتراضات التي يحيكونها. يجيبهم القرآن على ذلك مباشرة { كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان ٣٢] فلقد كان لتنزله مفرَّقًا الأثر الكبير في تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، فكانوا يتلقفون الآيات شوقًا ويفرحون بنزولها، في حين كانت تتصدع بها أفئدة المنافقين ارتعادًا من أن تنزل آياتٌ تفضح ما يكتمون { يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}[التوبة ٦٤ ]. وإن وصلت في تلاوتك لسورة الإسراء {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا} [الإسراء ١٠٦] لعلمت أن هذه ميزةٌ عظيمة أُريد من خلالها أن يكون القرآن هيِّنًا على المؤمنين، يتناولونه على تؤدة جزءًا جزءا، يتدبرونه ويستخرجون علومه ويعملون به ولا يعجلون في ذلك. ولا ريب أن ذلك التدرّج أدَّى إلى متانة تربية جيل الصحابة الفريد وإلى قوة عقيدتهم وصلابة إيمانهم، ودقيق فهمهم للشريعة فكانوا بذلك أهلًا للثبات بعد وفاة الرسولﷺ هب أن القرآن نزل دفعة واحدة بكل تشريعاته وأحكامه التي تقلب الجاهلية رأسًا على عقب بل تنسفها نسفًا، لكان ذلك أدعى لنفور الناس منه، ولشق حتى على المؤمنين تلاوته وتطبيق حدوده واستيعاب علومه.
ألا إن التدرج في نزول القرآن ليهدي لسنة مُنزِله في الكون؛ تأمَّل الكون من حولك وفي نفسك، ألا ترى أن كل تغيير طبيعي لابد له من وقت وتدرُّج، إننا نستبشر بالسحاب يساق في السماء بخفة ونرتعد خوفًا إذا أشتد سرعةً! إن الذي نزَّل القرآن بهذا النسق لهو الرحيم بنا.
أنصت معي لقوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[ النساء ٨٢] فمن يتدبر القرآن من أهل الفهم يجد أن له أسلوبًا فريدا ونسقًا في تتابع الألفاظ والآيات، وأن هذا الأسلوب يغلِّف القرآن كلَّه؛ سيَّان ما كان منه في بداية البعثة أو في آخرها، تقرأ السورة الواحدة التي قد تجتمع فيها الآيات من العهد المكي والمدني فلا تجد غرابةً أو اختلافًا في الأسلوب بل إنه ينساب كأنه أنزل بهذا الترتيب ابتداءً.
ولن تجد في القرآن ما يعارض بعضه بعضًا، ثم ارجع النظر فلن تجد إلا مزيدًا من الترابط و كأن الآيات تساند بعضها وتؤيِّدها فلا تناقض و لا تضارب.
إنك لو أخذت نصوصًا مكتوبة لكاتب أو شاعر مشهور وقارنت بين أول عهده في الكتابة وآخره لوجدت أثر السنين باديًا عليها ، فقد تزداد أفكاره نضجًا وألفاظه رفعةً أو قد يظهر على أفكاره ما عاناه من ظروفٍ، وقد يعدل عن أفكار ومعتقدات أو يزداد تعصبًا، إلى آخره مما يعتري طبيعة الانسان في مراحل عمره المختلفة.
فكيف يصدِّق أحدهم أن قرآنًا بهذه المتانة وبهذا البيان -الذي لا يحيد- يؤلفه رجل على مدار ثلاثة و عشرين عاماً – بما فيها من ظروف و تغييرات كبيرة عظيمة- دون أن يظهر لها أي أثر على ما يخط؟!
وإن سألت عن حالهﷺفي القرآن، فإنك تأخذ بيدنا نحو دلالة أُخرى .
سابعًا: ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن.
كثيرة هي الآيات التي تتحدث عن الرسول وتؤكد أنه عبد لله و أنه ما هو إلا رسول قد خلت من قبله الرسل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } [الكهف :١] {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ} [آل عمران ١٤٤]. فليس بمعقول أن يأتي من عنده بهذا الكتاب العظيم دون أن يخصَّ نفسه بميزات عن غيره! بل إنك لتجدنَّه يبرأ من أن يبدِّل أو يغير من القرآن شيئًا {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }[الأعراف :٢٠٣].
وإنه عليه الصلاة والسلام ليتلو على المسامع آيات الوعيد الشديد من الله إن هو أدخل على القرآن ما ليس منه – حاشاه – {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ. لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[لحاقة ٤٥:٤٧].
أما إن تلوت فواتح سورة عبس لوجدت عتابًا من الله لنبيهﷺعلى فعلٍ قام به؛ إذ حرص بشدة على دعوة صناديد الكفر أملًا في إسلامهم و تولى عن الأعمى الذي جاءه حينها لانشغاله بهم (عبس و تولى) فهل يملك عليه الصلاة والسلام أن يخفي أو يمحو آيات العتاب هنا و هناك إذ عاتبه الله بعد أن أَذِنَ للمنافقين بعدم الخروج للجهاد {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة :٤٣]
وما إن تلتفت لسورة القيامة فتتلو نهيَهُ عن التعجُّل بتلاوة القرآن، وطمأنته بحفظه {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ }[القيامة ١٦-١٧ ] لعلمتَ أنَّه كان يخشى أن يتفَلَّت القرآن منه فينساه، فكان يستعجل بحفظه مظنة تثبيته و هذا ليس من طبع العرب ولا من طبعهﷺفي سائر حديثه ، فطبع العربي الفصيح التأنِّي في حديثه، فوالله لوكان القرآن من حديثه لتأنَّى به ولما خاف تفلُّتَه .
إنَّ القرآن العظيم ليستمد قدسيته من مُنزِله عزَّ و جلَّ {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}[الحاقة٤٣]، وإننا إذ نحاول لفت النظر لبعض دلائل ربوبيته لنغفل عن كثير، و إنَّ الدليل الواحد مما تم ذكره لكفيلٌ بإيمان العبد أن هذا الكلام كلام الله ربِّ العالمين مدبر الأمر، بل إن تلاوة القرأن أو حتى الاستماع له لكفيلٌ بذلك إن مُلأ القلبُ بصدق التوجُّه و إرادة الهداية، وهذا ما عايشناهُ عن قربٍ في بلاد الغرب من دخول الكثير في الإسلام بعد قراءة القرآن، بل ترجمته الإنجليزية. و لكنَّنا في زمن استشرى فيه العابثون المضلِّلون وكثرت فيه وسائلهم، فقد يختلط الأمر على المسلم الغرّ الذي لم ينعم في ظلال القرآن الوارفة، فوجب علينا درء المفاسد.
وإنَّهُ لقرآنٌ عزيزٌ ينضَحُ بدلائلَ ربوبيَّته، حتى لقد شهد له غيرُ المسلمين بذلك، فها هو الأديب والفيلسوف الألماني غوته يقول: ” القرآن ليس كلام بشر، فإذا أنكرنا كونه من الله فمعناه أننا اعتبرنا محمداً هو الإله.”[٦] فمَن عَمِيَ وأراد الطعن بذلك فأمامه سبيل واحدٌ لا ثاني له، هو الإتيان بسورة من مثله فقط. ولن يزداد القرآن شرفًا بإيمان من آمن ولا يُضيرُهُ كفرُ من كَفَرَ { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا}[الإسراء: ١٠٧]