تواصل معنا

دعوى اقتباس القرآن من شعر أمية بن أبي الصلت ( عرض ونقض )[٣] (مقالة)

مقالة

الجزء الثالث: الرّدُّ على الشّبهة « الجزءُ الأخير »

  • إن كان النبي سمع شِعرَ أُميّةَ، فلقد سمع َأميةُ القرآنَ

ونرجع ونقول: إن كنتم تُعوّلون على سماعِ النبي ﷺ أشعارَ أميّة، فنحن ننبهكم أنكم قد ضربتم صَفحًا عن شيءٍ جليلٍ، يضعكُم في مأزقٍ وموقف لا تُحسدونَ عليه؛ وهو أنّ أميةَ قد سمِع القرآنَ من فمِ النبي ﷺ فتهافتت بذلك حجتُكم.

ثم نقول: المرجعُ في هذه الحالةِ إنما يكونُ بالبحث والتّفتيشِ في الكلامَيْن عن المؤثِّر والمُتأثِّر ، وعن  المُهيمِن، والمُهيمَنِ عليه، فإن كنتم من أهل العلمِ بالعربيةِ لعلمتُم جوابَ ذلك بسهولةٍ، وإن لم تكونوا منهم فيَكفيكُم لحلِّ هذه القضيّةِ استنطاقُ أربابِ هذه الصّناعةِ والاطلاع على موقفهم؛ لأنّ هؤلاء الثُّلةَ التي بُعث النبي فيهم قد حازوا تَفرُّدًا في إنتاجِ البَيَان والنفيس من الكلام، ويَتْبعُ هذا التفرَّدَ منهم تفرُّدٌ آخرُ في معرفةِ طبقاتِ الكلام، ومراتبِ الفضلِ فيه؛ ولذلك كان كثيرٌ منهم يَمُدُّ يدهُ إلى رسولِ الله ﷺ على البَيْعةِ والدخولِ في دينِ الله بمجرّدِ الاستماعِ للقرآن! وكان ﷺ لا يزيدُ في عَرضِ دينِ الله على وفودِ العربِ على قراءةِ بِضعِ آياتٍ من الكتاب العزيز!

  • فهذا الوليد ابن المغيرة طلب من النبي ﷺ أن يقرأ عليه بعض القرآن فقرأ عليه {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[ النحل : ٩٠ ] فقال : « وَاللَّهِ إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ، وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ، وقال لقومه : ” وَاللَّهِ مَا فَيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي، وَلَا أَعْلَمُ بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ هَذَا الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعَلَى، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ » . [الاعتقاد للبيهقي ص ٢٨٦ ] فهذا قولهم في القرآن، والفضلُ ما شهدت به الأعداءُ، فهل رأينا مُدَّ هذا الجنس من المدح والانبهار أو نَصِيفَه قد قيل في قصيدةٍ واحدةٍ من قصائد أمية؟!
  • فإن قلت: قد نقل بعضُ العلماءِ أنَّ أمية أشعَرَ الناس. قلنا لك: نعم قد يكونُ كذلك، ولكنَّه لا يغيِّرُ في المعادلةِ شيئًا؛ لأنّ ما يقوله النبي ﷺ ليس بشعرٍ ولا بقريبٍ من الشعر، هذا أولًّا، ثانيًا أن النبيَّ ﷺ لا يدَّعي أن مصدرَ هذا الكلامِ الشريفِ رجلٌ هو من جنسِ الناس، وإنما يقولُ بأن مصدرَه ربُّ الناس، وقد أجمَعَتِ العربُ قاطِبةً على أنّ هذا الكلامَ العزيزَ لا يكون بحالٍ من الأحوال من جنس كلامِ الناس، فاتضَحَ لك بذلك لِمن تكونُ الهيمنةُ والتأثير.
  • قد أعلنَ النبي ﷺ التّحديَ أمام الجميع، فمجرّدُ عجِزهم حجّةٌ مُفحِمة

ونعود مرّةً أخرى ونقول: ما دامَ النبي ﷺ -كما تقولون– قدِ انتحلَ القرآنَ مِن هنا وهناك، فلقد تحدّى البشرَ أجمعينَ أن يأتوا بمثلِه، فما استطاعوا، فتَنَزَّلَ معهم قليلًا لعشرِ سورٍ مثلِه، فما استطاعوا، فتنزَّلَ معهم درجةً أخرى وطلبَ سورةً واحدة مثله، فما استطاعوا، فطلبَ سورةً من مِثله وهذا أدنى شيء، فما استطاعوا، فقُل لي أينَ كان أصحابُ هذه السّرِقاتِ الأدبيّةِ حينما كانَ النبيُّ ﷺ يتحدى كلَّ البشرِ بما اقتبَسَه منهم، وما جادت به قريحتُهم والذي هو أنفَسُ ما سِمعَتْه العربُ؟! فكفى بهذا العجزِ دليلًا على ربّانيّةِ القرآنِ.

ثم نقولُ: هل كان النبيُّ بهذه السّذاجةِ أن يتحّدى أقدرَ الناسِ على قَرضِ الشّعرِ وأعلَمَ الناسِ بَجيِّد الكلامِ من رديئهِ على أن يأتوا بكلامٍ هو من جنسِ كلامِهم، فضلًا عما تقولونَ عنه مِن أنّه سرقَهُ منهم؟! فلعَمْري لو كان ذلكَ كذلك –وحاشاه أن يكون– لصارَ أُضحوكةَ العربِ، بل أضحوكةَ التاريخِ كلِّه! والذي حصلَ هو العكسُ؛ فلقد صارَ النبي ﷺ أعظمَ الناسِ بشهادةِ الجميع، وكُتِبَ اسمُه في تاريخِ العظماءِ مُتَبَوِّئًا المركزَ الأولَ رغمًا عن كُلِّ المعارضين.

  • أميةُ بنفسهِ قد مدَح النبي ﷺ في إحدى قصائدِه

ونقول: لئن احتججتُم بشعرِ أميّةَ الدّينيَّ بحُجّةِ ثبوتِه في ديوانِه، فلنا أن نحتجَّ بما في ديوانِه أيضًا، وهذه قصيدةٌ مدحَ فيها النبيَّ ﷺ ودعا إلى الإيمانِ به، يقول فيها:

لك الحمدُ والمنُّ ربُّ العباد … أنتَ المليك وأنت الحكم

إِلى أَن قال:

وَدِن دينَ ربِّك حَتَّى التُّقى … واجْتَنِبَنَّ الهوى والضَّجَمْ

مُحَمَّدٌ أَرْسلهُ بِالهُدى … فَعَاشَ غَنِيًّا وَلم يَهْتَضِمْ

عَطاءٌ منَ الله أُعْطيتَهُ … وَخصَّ بِهِ اللهُ أهلَ الحرمْ

وقد عَلِمُوا أنَّهُ خيرُهُم … وفي بيتِهِمْ ذي النَّدى والكرمْ

يَعِيبُونَ ما قال لمَّا دَعَا … وقد فرَّج اللهُ إحدى البُهَمْ

بِهِ وهْو يدعو بصِدْقِ الحديث … إلى اللهِ من قَبْلِ زَيْغِ القَدَمْ

أَطِيعُوا الرسولَ عبادَ الإلهِ … تَنْجُون مِنْ شَرِّ يَوْمٍ أَلَمْ

… إلى آخرِ ما قال. [ انظر : ديون أمية بن أبي الصلت ص١١١-١١٢ ]

  • والقصيدةُ التي نحن بصدَدِها أشارَ إليها صاحبُ الخزانة [ الخزانة ١/٢٥٢] وقال عنها: «وَرَأَيْتُ فِي ديوانه قصيدةً مَدَحَ بهَا النَّبِي … ثم ذكَرها»، وقد زعمَ البعضُ أنها منحولةٌ عليه لا سيَّما وقد عاش كافرًا ومات كافرًا، وقائلُ هذه القصيدةِ هو مؤمنٌ بالإسلامِ قطعًا. لكن يقولُ الدكتور بهجت الحديثيّ: «وإني أراها له؛ فليس بعيدًا أن يكونَ قد قالها في إحدى خَطَراتِه النّفسيّةِ التي كانت تدفعُهُ للإيمان» [ أمية بن أبي الصلت حياته وشعره ص٧٢ ] ويكونُ قد قالها في فترةِ انتصاره على نفسِهِ وقبلَ أن يعلمَ بخبَر ابنَي خالِه المقتولَينِ في بدرٍ، ويقولُ أيضًا: «وإني إذ أشكُّ في بعضِ شِعرِه الدينيّ، لا أرى هذا مما يُشكُّ فيه، خاصةً أنَّ القدماءَ أنفسَهُم لم يشكوا فيها أبدًا»[ السابق ]
  • الشعرُ الدينيُّ لأميّةَ مشكوكٌ فيه في الجملة

ظاهرةُ الانتحالِ هذه موجودةٌ في الشّعرِ العربيِّ منذ القرنِ الأوّلِ للهجرة، ووجدنا من يقولُ الشّعرَ وينسِبُه إلى غيره أو ينسبُ إلى نفسِه شعرًا ليسَ له. وأسبابُ شيوعِ هذه الظّاهرةِ آنذاكَ كثيرةٌ ومتنوّعة، فَطِنَ إليها القدماءُ قبلَ غيرِهم. فابنُ سلامٍ المتوَفَّى (٢٣٣هـ)، يُعلّل المسألةَ ويجدُ لها مُبرِّرًا، فيقول: «فلما راجَعَتِ العربُ روايةَ الشّعر وذِكْرَ أيامِها ومآثرِها، استقلَّ بعضُ العشائرِ شعرَ شُعرائهِم وَمَا ذهَبَ من ذِكر وقائعهِم، وكان قومٌ قلَّت وقائعُهُم وأشعارُهم فأرادوا أَن يَلْحقُوا بِمن لَهُ الوقائعُ والأشعار فَقَالُوا على أَلْسِنَة شعرائهِم ثمَّ كَانَت الروَاةُ بَعدُ فزادوا في الْأَشْعَارِ الَّتي قيلَت فزادوا في الأشعارِ» [ طبقات فحول الشعراء ص٤٩ ]

ولكَثرة شيوعِ هذه الظّاهرةِ بين الشُّعراء، نَجدُ بعضَ الشعراءِ يفخرُ بأنه لا يمارسُ مثلَ هذه الفعلة، يقولُ الأعشى [ إيضاح شواهد الإيضاح ١/٣٨٥ ] :

فكيفَ أنا وانتحالي القوافِيَا … بعدَ المشيبِ كفى ذاكَ عارَا

وقال ابنُ هَرْمة[ لسان العرب ١١/٦٥١ ]:

وَلَمْ أَتَنَحَّلِ الأَشعارَ فِيهَا … وَلَمْ تُعْجِزْنيَ المِدَحُ الجِيادُ

-وأميةُ كان من أشهرِ الشّعراءِ الذين يُنسَبُ إليهم ما لم يقولوه. أما عن هذهِ الأبياتِ أوّل الورقة –ويوم موعدهم أن يحشروا…– فيقول عنها د. بهجت الحديثي «لقد حاوَل قائلُها أن ينظِّمَ ما جاء في قول الله تعالى: {وقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا}[الزمر : ٧١]] فقال :

تَقُولُ خُزَّانُها مَا كَانَ عِنْدَكُمُ … أًلُمْ يَكُنْ جَاءَكُمْ مِنْ رَبَّكُمْ نُذُرُ

وقوله تعالى:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا}[ الأحزاب: ٦٧] فقال :

قالوا: بلى فأطعنا سادةً بطروا … وغرّنا طولُ هذا العيش والعمرُ

وقوله تعالى {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا}[الإنسان: ٤] فقال:

 قالوا: امكثوا في عذاب اللهِ ما لكمُ … إلاّ السلاسلُ والأغلالُ والسّعرُ

وواضح أن قائل هذه الأبيات عالم بما في القرآن، متأثر إلى حد جعله يأخذ ألفاظه ويحاول محاكاتها. وعندي أنها منحولة على أمية، لقد قرأنا لأمية ونقرأ له شعرًا دينيًا ولكنه ليس كهذه الأبيات؛ إذ لغتها وألفاظها ومعانيها وصياغتها توحي بالتكلف والانتحال. » اهـ.

– وقد نُسب لأمية شعر يحكي فيه قصةً يزعم أنها وقعت لنوح u، والجدير بالذكر أن النبي ﷺ نفسه ومن قبله لم يكن عندهم علم بقصة نوح قبل أن يخبره الله بها، وإلى هذا أشار القرآن الكريم {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا }[هود: ٤٩] وهذه الحقيقة يقررها ناصر الدين الأسد نقلًا عن مارجليوث ، فيقول « ففي سورة رقم ١١ آية  ٥١ – يقصد الآية السابقة – يذكر أنه لا محمدٌ ولا قومه سمعوا من قبل بقصة نوح، وهذا القول متفق مع ما نستنبطه من النقوش التي لا تشير إلى السلالات العربية الواردة في التوراة والتي تشير إليها هذه القصة » [ مصادر الشعر الجاهلي ص٣٦٢ ] فإن كان ذلك كذلك فكيف نظمها أمية وقد كان يجهلها النبي ﷺ قبل الوحي، ولم تكن في كتب اليهود والنصارى؟ هناك احتمالان، الأول أنه قرأها في القرآن أو سمعها عن طريق النبي ﷺ، ويعني هذا أن كل شعره الديني المشابه للقرآن جاء عن هذا الطريق- وقد يكون هذا ولكنه يبقى مجرد افتراض – والاحتمال الثاني أن الكثير من هذا النوع من شعره ومن ضمنه القصة المشار إليها منحولٌ عليه، ويزيد من هذا الاحتمال الضعف والركاكة التي نجدها في أغلب هذا النوع .  والمقصد أن شعره الديني لا يطمأن إليه في الجملة.

((خاتمة))

وبعدُ فهذا ما يسَّرَه الله من ردٍّ مختصَرٍ على هذه الشُّبهةِ الواهيَة، وفيه أوجهٌ يصِحُّ الاحتجاجُ بها للردِّ على عددٍ من الشبهاتِ حولَ مصدريّةِ القرآن، واللهُ سبحانه وتعالى يقيم لكلامِه مَن يذُبُّ عنه في كلِّ زمنٍ من الأزمان، وقد يصيبُ الإنسانُ وقد يخطئُ غيرَ أنّه قاصدٌ للحقِّ، والحمد لله الذي يثيبُ المخطئَ إذا قصدَ الحقَّ، ويجزيه خيرًا على اجتهاده، واللهَ أسألُ إخلاصَ النِّيةِ في القولِ والعمل، واجتنابِ الزّلل، واللهُ أعلمُ وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه والتابعين…

قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (٤) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٦)} [ الفرقان: ٤-٦ ]    

المرفقات

التصنيفات العلمية

المصدر

أضف تعليقا