تأليف
الوصف
من الأمور الجديرة بالنظر والتدبر أن ثمة نقط تشابه واضحة بين حركة التمركز حول الأنثى وحركة مادية إمبريالية أخرى وهي الحركة الصهيونية ، التي تنكر الإنسانية المشتركة فتقسم البشر بصرامة بالغة إلى يهود وأغيار ، وتصدر عن الإيمان بأن الأغيار (كل الأغيار) يحملون وزر تاريخ الاضطهاد الدائم لليهود (كل اليهود). وعزلة الأغيار عن اليهود كاملة إلى درجة أن الواحد لا يمكنه أن يشعر بشعور الأخرى فكل إنسان جزيرة مغلقة، مكتفية بذاتها، مرجعية ذاتها .
مقالة
من الأمور الجديرة بالنظر والتدبر أن ثمة نقط تشابه واضحة بين حركة التمركز حول الأنثى وحركة مادية إمبريالية أخرى وهي الحركة الصهيونية ، التي تنكر الإنسانية المشتركة فتقسم البشر بصرامة بالغة إلى يهود وأغيار ، وتصدر عن الإيمان بأن الأغيار (كل الأغيار) يحملون وزر تاريخ الاضطهاد الدائم لليهود (كل اليهود). وعزلة الأغيار عن اليهود كاملة إلى درجة أن الواحد لا يمكنه أن يشعر بشعور الأخرى فكل إنسان جزيرة مغلقة، مكتفية بذاتها، مرجعية ذاتها .
ومن ثم يواجه اليهود العالم وحدهم في عزلتهم وبراءتهم وفرادتهم ومعاناتهم التي لا يشاركهم فيها أحد. فاليهود شعب مختار، له سماته الخاصة ، وله حقوقه المطلقة ، ورسالته الخالدة ، وعذابه الخاص ، فهو موضع الحلول والكمون ، مرجعية ذاته ، يستمد معياريته منها .
وهو شعب لا يمكن أن يهدأ له بال إلا بأن يعود إلى أرض أسلافه في (فلسطين) حيث يمكنه أن يتمتع بحقوقه المطلقة ، ولذا لا تبذل الحركة الصهيونية أي مجهود في محاولة الدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية والدينية لأعضاء المجتمعات اليهودية في مجتمعاتهم.
فمثل هذه الجهود (التي تنبع من الإيمان بالإنسانية المشتركة والتي يمكن أن يساهم فيها كل مدافع عن حقوق الإنسان وكل متعاطف مع المستضعفين) هي في واقع الأمر إحباط للمشروع الصهيوني الذي يرمي إلى وضع نهاية لتاريخ اليهود في المنفي وتهجير اليهود إلى فلسطين للقيام بتجربة جديدة تماما تقع خارج نطاق التاريخ اليهودي ، وهي تجربة الدولة القومية ذات السيادة .
في هذا الإطار توجه الحركة الصهيونية جل جهودها لتعميق الهوة بين اليهود والأغيار لتحسين أداء اليهودي في عملية الصراع حتى ينسلخ عن مجتمع الأغيار «ويعود» إلى فلسطين بعد غياب مدة ألفي عام .
وفي هذا الإطار يصبح أعداء السامية (أي أعداء اليهود) «أصدق أصدقائنا» (على حد قول مؤسس الحركة الصهيونية ، تيودور هرتزل) .
ولنلاحظ هنا بعض الثنائيات الصلبة : اليهود ضد الأغيار - شعب معذب في كل مكان مقابل شعب مختار - شعب لا حقوق له مقابل شعب له حقوق مطلقة .
ولنلاحظ أن هذه الثنائية الصلبة تتحول إلى واحدية صهيونية صلبة في الدولة الصهيونية المستقلة ، الدولة اليهودية الخالصة ، حين يصبح المستوطنون هم وحدهم أصحاب الحقوق المطلقة ، فيجد العرب أنفسهم في مجتمعات اللاجئين تنهمر عليهم القنابل باسم الدفاع عن الذات اليهودية الخالصة !
ولكن كما هو الحال في كل الحركات المادية تنحل الواحدية الإمبريالية والثنائية والواحدية الصلبة إلى واحدية سائلة ، فالصهيونية التي تؤكد حقوق اليهود المطلقة وفرادتهم الكاملة وترفض التعاون مع الأغيار ترى أن وجود اليهود في المنفى هو حالة اى غير طبيعية» ، أي أن الفريد يتحول إلى الشاذ.
ولذا ترى الصهيونية أنه لابد من «تطبيع» اليهود ، أي تحويلهم إلى كائنات طبيعية، يعيشون في دولة قومية عادية، لا يختلفون عن بقية شعوب الأرض.
وقد انتهى الأمر بالحركة الصهيونية التي تنادي بحقوق مطلقة لليهود وبسيادة مطلقة للدولة وسمات يهودية مطلقة للمجتمع بأن أسست دولة ذات توجه أمریکی واضح في عالم السياسة والثقافة وتعتمد بشكل شبه كامل على دعم الأغيار الأمريكيين!
وهذا هو النمط نفسه الذي وجدناه في حركة التمرکز حول الأنثى ، فمن جهة ثمة تأكيد لتفرد اليهود وعداء الأغيار لهم لا يختلف كثيرا عن اتجاه حركة التمركز حول الأنثى نحو إعلان الحرب على الرجال ، ومن جهة أخرى ثمة محاولة نشطة تبذل لدمج اليهود في عالم الأغيار والذوبان فيه ، لا تختلف بدورها كثيرا عن محاولة الأنثى الذوبان في الرجل وظهور ال uni – sex.
والعالم الغربي الذي ساند الدولة الصهيونية (التي تحاول تفكيك العالم العربي والإسلامی سیاسیا وحضاريا ً) يساند بنفس القوة حركات التمركز حول الأنثى في بلادنا (ولعل نشاط السفارة الهولندية في القاهرة في هذا المضمار مثلا واضحا على ذلك يستحق المزيد من الدراسة).
فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث ، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة ولا طاقة له بها ، ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد.
كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماسكها، الذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسرى قوی ، لا يزال قادرا على توصيل المنظومات القيمية والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع ، ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكراتهم التاريخية وبوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم .
وهذا ولا شك يعني التصدي لعملية العولة ، التي تعني الترشيد داخل الإطار المادي الغربي) لكل المجتمعات بحيث يتحول العالم في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير إلى سوق واحد متجانس يخضع لقوانين العرض والطلب المادية ، يتحرك فيه نفس البشر والسلع في نفس الحيز الأملس ، بلا سدود أو حدود أو منظومات قيمية تعوق هذه الحركة .
وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع ، فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة ومن هنا تركيز النظام العالمى الجديد على قضايا الأنثى. فالخطاب المتمرکز حول الأنثى هو خطاب تفکیکی يعلن حتمية الصراع بين الذكر والأنثى وضرورة وضع نهاية للتاريخ الذكوري الأبوي وبداية التجريب بلا ذاكرة تاريخية ، وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق والضيق والملل وعدم الطمأنينة في نفس المرأة عن طريق إعادة تعريفها بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتها إلا خارج إطار الأسرة. وإذا انسحبت المرأة من الأسرة تأكلت الأسرة وتهاوت ، وتهاوي معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماری والهيمنة الغربية وأهم المؤسسات التي يحتفظ الإنسان من خلالها بذاكرته التاريخية وهويته القومية ومنظومته القيمية.
وبذلك يكون قد نجح النظام العالمي الجديد من خلال التفكيك في تحقيق الأهداف التي أخفق في تحقيقها النظام الاستعماری القديم من خلال المواجهة المباشرة .