تأليف
الوصف
تؤكد حركة التمركز حول الأنثى في إحدى جوانبها الفوارق العميقة بين الرجل والمرأة ، وتصدر عن رؤية واحدية إمبريالية وثنائية الأنا والأخر الصلبة كأنه لا توجد مرجعية مشتركة بينهما، وكأنه لا توجد إنسانية جوهرية مشتركة تجمع بينهما . ولذا فدور المرأة كأم ليس أمرا مهما ، ومؤسسة الأسرة من ثم تعد عبئا لا يُطاق .
مقالة
تؤكد حركة التمركز حول الأنثى في إحدى جوانبها الفوارق العميقة بين الرجل والمرأة ، وتصدر عن رؤية واحدية إمبريالية وثنائية الأنا والأخر الصلبة كأنه لا توجد مرجعية مشتركة بينهما، وكأنه لا توجد إنسانية جوهرية مشتركة تجمع بينهما . ولذا فدور المرأة كأم ليس أمرا مهما ، ومؤسسة الأسرة من ثم تعد عبئا لا يُطاق .
فالمرأة متمركزة حول ذاتها تشير إلى ذاتها ، مكتفية بذاتها ، تود اکتشاف» ذاتها و «تحقيقها» خارج أي إطار اجتماعی ، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمرکز حول ذاته ، وكأنها الشعب المختار في مواجهة الأغيار، أي أنه بدأت عملية تفكيك تدريجية المقولة المرأة كما تم تعريفها عبر التاريخ الإنساني وفي إطار المرجعية الإنسانية، لتحل محلها مقولة جديدة تماما تسمى «المرأة» أيضا ولكنها مختلفة في جوهرها عن سابقتها . ومن ثم تتحول حركة التمركز حول الأنثى من حركة تدور حول فكرة الحقوق الاجتماعية والإنسانية للمرأة إلى حركة تدور حول فكرة الهوية، ومن رؤية خاصة بحقوق المرأة في المجتمع الإنساني إلى رؤية معرفية أنثروبولوجية اجتماعية شاملة تختص بقضايا مثل : دور المرأة في التاريخ والدلالة الأنثوية للرموز التي يستخدمها الإنسان . وإذا كانت حركة تحرير المرأة تدور حول قضية تحقيق العدالة للمرأة داخل المجتمع ، فإن حركة التمرکز حول الأنثى تقف على النقيض من ذلك ، فهي تصدر عن مفهوم صراعي للعالم حيث تتمركز الأنثى على ذاتها ويتمركز الذكر هو الآخر على ذاته ، ويصبح تاریخ الحضارة البشرية هو تاريخ الصراع بين الرجل والمرأة وهيمنة الذكر على الأنثى ومحاولتها التحرر من هذه الهيمنة .
وتذهب بعض التواريخ الأيديولوجية المتمركزة حول الأنثى إلى أن هيمنة الذكر على الأنثى تمت إثر معركة أو مجموعة من المعارك حدثت في عصور موغلة في القدم حينما كانت المجتمعات كلها مجتمعات أمومية (ماتریارکی matriarchy) تسيطر عليها الإناث أو الأمهات ، وكانت الألهة إناث ، وكان التنظيم الاجتماعي ذاته يتصف بالأنوثة ، أي بالرقة والوئام والاستدارة (التي تشبه نهود الإناث وعضو التأنيث) .
ثم سيطر الذكور وأسسوا مجتمعا ً مبنيا ً على الصراع والسلاح (الذي يشبه عضو التذكير) وعلى الغزو (الذي يشبه اقتحام الذكر للأنثی) .
بل إن كل التاريخ أصبح يدور حول مركز واحد هو : الرجل - عضو التذكير- السلطة - الإله الذكر - الأب وهذه هي المجتمعات الأبوية البطريركية (بطریارکی patriarchay) . ويتحدث دعاة ما بعد الحداثة والتمركز حول الأنثى عن اللوجوس logos (أى الكلمة والمطلق والمركز) والفالوس phallus (أي عضو التذكير) . وهم يذهبون إلى أن العالم ليس متمركزا حول اللوجوس وحسب (لوجوسنترك logo-centric) كما يدعي بعض الذكور من دعاة ما بعد الحداثة ، وإنما هو متمرکز حول عضو التذكير (فالوجوسنترك-phallogo-centric) وسرد أحداث التاريخ من ثم يتم من وجهة نظر ذكورية بحتة ويستبعد الإناث تماما ً. ومن ثم يری دعاة ما بعد الحداثة والتمركز حول الأنثى ضرورة وضع «نهاية» لهذا التاريخ وتفكيك هذا العالم الذكوري .
وانطلاقا من هذه الرؤية للتاريخ ينادی دعاة التمرکز حول الأنثى بالتجريب الدائم والمستمر ويطرحون برنامجا ً ثوريا ً يدعو إلى إعادة صياغة كل شيء : التاريخ واللغة والرموز ، بل الطبيعة البشرية ذاتها كما تحققت عبر التاريخ وكما تبدت في مؤسسات تاريخية وكما تجلت في أعمال فنية ، فهذا التحقق والتبدي والتجلي إن هو إلا انحراف عن مسار التاريخ الحقيقي .
وفي مجال وضع هذا البرنامج «الثوري» موضع التنفيذ ينادی دعاة حركة التمرکز حول الأنثى بضرورة إعادة سرد التاريخ من وجهة نظر أنثوية (أي متمركزة حول الأنثى) ، بل وأعيد تسمية التاريخ ، فهو بالإنجليزية (هستوری history) التي وجد بعض الأذكياء أنها تعني «قصنه his story فتقرر تغيير اسم التاريخ ليصبح «her story قصتها» ، أي أن تاريخ الذكور مختلف تماما عن تاريخ الإناث (تماما مثل «التاريخ اليهودي» المستقل عن «التاريخ الإنسانی») .
والرموز التي فرضها الذكور لابد أن تضاف لها رموز أنثوية تعبر عن الهوية الأنثوية المستقلة ، ومنتجات الإنسان الفنية لابد أن تعبر عن الأنثى وآلامها . ومن هنا التركيز الشديد في الأدب الغربي الحديث على الجوانب الصراعية في علاقة الرجل بالمرأة وعلى موضوعات أدبية مثل الاغتصاب . والهدف الأساسي لحركة التمركز حول الأنثى ، في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير ، هو رفع وعى النساء بأنفسهن کنساء ، وتحسين أدائهن في المعركة الأزلية مع الرجال وتسييسهن ، لا بالمعنى الشائع المتداول (أي أن يدرك الإنسان الأبعاد السياسية للظواهر المحيطة به ولحقوقه وواجباته السياسية) وإنما بمعنى أن ندرك أن كل شيء إنما هو تعبير عن هذا الصراع الكوني بين الذكور والإناث .
ويضرب تیری إيجلتون مثلا على التحليل التفکیکی ذى الاتجاه المتمرکز حول الإنثي الذي يؤكد فكرة الصراع هذه ، وكيف أن أحد قطبي الصراع لابد أن يهيمن على الآخر، فلا حب ولا تراحم ولا إنسانية مشتركة ، بل صراع شرس لا يختلف إلا من ناحية التفاصيل عن الصراع بين الطبقات عند مارکس ، أو الصراع بين الأنواع والأجناس عند داروین ، أو الصراع بين الجنس الأبيض والأجناس المتخلفة الأخرى حسب التصور العنصري الإمبريالی الغربي . يقول تيري إيجلتون :
تذهب المجتمعات الذكورية المتمركزة حول الذكر إلى أن الرجل هو الأصل الثابت (المبدأ الأول - اللوجوس) والمرأة هي العكس .» ولكن المرأة ، في واقع الأمر، هي الأصل الآخر المسكوت عنه . والمرأة عكس الرجل ، هي ما يمكن أن يشار إليه على أنه «الرجل الآخر»، فهي ليست برجل وإنما هي رجل معيب ناقص حسب تصور المجتمعات الذكورية .
ولكن الرجل هو الرجل لا في حد ذاته ، وإنما عن طريق استبعاد عکسه وإخفائه ، فهو يعرف ذاته الرجولية كنقيض للمرأة ، فكل وجوده وهويته مرتبط تماما بمحاولته تأكيد وجوده المستقل عن المرأة ، فهو يعرف ذاته في مواجهة المرأة ، والمرأة على علاقة قوية به باعتبارها صورته العكسية . إنها صورة ما ليس هو ، وهي تعبير عن غيابه الذي يخاف منه ، فهو يريد تأكيد حضوره الكامل.
ولكن المرأة تصبح بذلك عنصرا أساسيا في تذكير الرجل بذاته ، فحضوره مرتبط بغيابها ، ولذا، فإن الرجل يحتاج لهذا الأخر حتى حينما ينبذه ، ويضطر أن يعطى هوية إيجابية لما يعتبره لا شيء، فكيانه معتمد عليها بشكل طفيلی ويتوقف وجوده على استبعادها ، وهو يستبعدها لأنها قد لا تكون هذا الأخر على أية حال . فلعلها إشارة على شيء في الرجل ذاته ، شیء يود أن يكبته ويستبعده خارج وجوده وخارج حدوده فلعل ما هو خارج الرجل يوجد داخله ، وما هو غريب قريبا .
(لكل هذا يجد الرجل أنه في حاجة ماسة إلى أن يحرس الحدود المطلقة بين عالمه وعالم المرأة بكل ما أوتي من قوة بسبب خوفه من أن تجاوز الحدود مسألة مطروحة وممكنة ، فالحدود لیست كما قد تبدو لأول وهلة).
في هذا الخضم الدفاق من الكلمات والمفاهيم يتصور المرء أن الحديث قد يكون حديث عن مفهوم الحدود والأمن في الدولة الصهيونية ، أو عن علاقة الاتحاد السوفيتي بالولايات المتحدة إبان فترة الحرب الباردة ، أو عن حروب الرجل الأبيض ضد شعوب آسيا وأفريقيا ، وليس عن علاقة الرجل بالمرأة . (أخبرتني صديقة ع من رائدات حركة التمرکز حول الأنثى أن العلاقة الجنسية بين و الرجل والمرأة هي في جوهرها مواجهة سياسية (كذا) ، فكان ردی عليها: إما أنها لا تعرف شيئا عن العلاقات الجنسية أو عن - المواجهة السياسية) .
هذه الرؤية الصراعية الداروينية الشرسة تتبدى في رؤية حركة التمركز حول الأنثى لأحاسيس كل من المرأة والرجل . ففي غياب الإنسانية المشتركة لا يمكن أن تكون هناك أحاسيس إنسانية مشتركة بين الذكر والأنثى ، فتركيبة جسدهما مختلفة وطبيعتها الفسيولوجية مختلفة والإنسان الطبيعي المادي يعيش في الجسد وحده ، فضاؤه محدد بفضاء الجسد).
فالرجل على سبيل المثال لا يحمل ولا يلد ، ولذا فهو لا يمكنه أن يشعر بالام المرأة ، وأحزانها وأفراحها ، في فترة الحمل ولحظة الولادة ، فهي وحيدة مع جسدها (ولذا تقوم إحدى مستشفيات الولادة في الولايات المتحدة بعقد دورات تدريبية للرجال حتى يتعلموا آلام المرأة . ومن ضمن التدريبات إعطاء الزوج بطنا منتفخة من البلاستيك يرتديه کی يشعر بشعور زوجته الحامل ، وكأن الحمل والولادة مسألة مادية برانية تماما : مجرد «حمل» للأثقال البلاستيك ! ) .
وتتبدّى نفس السمة ، أي الانفصال الكامل في الرؤية والأحاسيس بين الرجل والمرأة وإنكار وجود طبيعة بشرية مشتركة ، في موقف حركة التمرکز حول الأنثى من اللغة . إذ تذهب هذه الرؤية إلى أن لغة النساء مختلفة تماما عن لغة الرجال ، فهي لغة ملتوية لعوب كجسد المرأة (الجسد مرة أخرى ؛ الجسد دائمأ ؛ لا الجسد في البداية والنهاية) . ولذا فالتواصل بين الذكر والأنثى ليس ممكنا وإن تم فهو ليس کاملا ، ويتم الهجوم على ما يسمى ذكورة اللغة والدعوة إلى «تأنيثها» واللغات التي تفضل صيغة التذكير على صيغة التأنيث ، لابد أن يعاد بناؤها بحيث تستخدم صيغة محايدة أو صيغة ذكورية أنثوية . ولذا كلمتا «هو» (بالإنجليزية : هي he) وهي (بالإنجليزية : شی she ) على النحو التالى he / she أو s/he ، حتى لا يظن أحد أن هناك أي تفضيل للرجل على المرأة .
وفي محاولة التفريق الكامل بين الرجل والمرأة وتأنيث اللغة يعاد كتابة كلمة «نساء women» على النحو التالي : «womyn» حتى لا تحتوی کلمة نساء بالإنجليزية» على كلمة «men» ، أي رجال والعياذ بالله ، ولوحظ أن «رجل الثلج» «رجل» ومن ثم تم تعديل اسمه ليصبح بدلا من سنومان snowman إلى امرأة الثلج» (بالإنجليزية : سنوومان snowwoman) أو حتى «إنسان الثلج» (بالإنجليزية : نوبرسون snowperson) .
ونفس الشيء ينطبق على الكلمات المستخدمة للإشارة إلى الذات الإلهية فيجب الابتعاد عن الإشارة إلى الإله باعتباره ذکرة ، إذ يجب أن يشار إليه باعتباره ذكر وأنثى في ذات الوقت ، فيقال على سبيل المثال «إن الخالق هو الذي / هي التي ، وضع / وضعت ... إلخ» ، بل ويشار إليه أحيانا بالمؤنث وحسب ، فهو «ملكة الدنيا»، و «سيدة الكون» . كما أن بعض دعاة حركة د التمركز حول الأنثى يستخدمون كلمات لا جنس لها و (بالإنجليزية : أن جندرد ungendered) مثل : «فریند friend» (صدیق) و «كومبانيون compamion » (رفیق) و «کو کریتور co creator - » (المشارك في الخلق) للإشارة إلى الإله .
وكل هذا من لغو الحديث ، وهو ليس برنامجا للإصلاح وإنما هجوم على اللغة البشرية وحدودها وتشويه لها . فهل نحن نفكر في «المقاومة» باعتبارها أنثى وفى «الصمود» باعتباره ذكرا؟ وهل نفكر في «الأمانة» و «الخيانة» باعتبارهما إناث ، أما «الملاك» و«الشيطان» فنفكر فيهما باعتبارهما ذكورة؟ وحينما نقول «أبواب» ، هل نفكر في أعضاء التذكير ، بينما نفكر في أعضاء التأنيث حينما نقول «بوابات» ، أم أن هذا هو وجدان الحلوليين الطبيعيين الماديين الذين يستخدمون الجسد كعنصر أساسي لإدراك كل شیء؟ ثم تضيق الدائرة لتصبح أعضاء التذكير والتأنيث هي الصور المجازية الوحيدة التي يمكنهم إدراك العالم من خلالها؟ وهل يمكن أن يكون استخدام كلمة «إنسان» (وهي تعبير عن الذكر والأنثى) حلا للمشكلة؟ الإجابة ، بطبيعة الحال ، بالنفي ، لأن المهم من وجهة نظر المتمركزين حول الأنثى هو طرح برامج إصلاحية مستحيلة ، غير قابلة للتنفيذ، وإجراء تجارب مستمرة بلا ماضی ولا ذاكرة ولا فهم ، وذلك حتى يتم تقويض حدود اللغة القائمة والمرجعية الإنسانية المشتركة المتجاوزة وكل المنظومات القيمية .
وتتضح الرؤية الواحدية والثنائية الصراعية الصلبة في الإشارات المتكررة في أدبيات حركة التمركز حول الأنثى إلى المرأة باعتبارها أقلية ، وكلمة «أقلية» هنا لا تعني أقلية عددية مضطهدة وإنما تعني في واقع الأمر أنه لا توجد أغلبية من أي نوع (إنسانية مشتركة) ولا يوجد معیار یحکم به ، فالجميع متساوون ولا يمكن الحكم على أحد .
وتصل هذه الرؤية قمتها (أو هوتها) حينما تقرر الأنثى أن تدير ظهرها للاخر / الذكر تماما ، فهي مرجعية ذاتها وموضع الحلول ولا تشير إلا إلى ذاتها ، فهي سوبروومان superwoman ، ولذا تعلن استقلالها الكامل عنه ، وحينئذ يصبح السحاق التعبير النهائي عن الواحدية الصلبة ، وهو الأمر الطبيعي الوحيد المتاح للمرأة التي ترفض أن تؤكد «إنسانيتها المشتركة» التي لا يمكن أن تتحقق إلا داخل إطار اجتماعی وسیاق تاریخی ، وبدلا من ذلك تؤكد نسوانیتها» ، أي ذاتها الأنثوية المنفصلة التي لا توجد في أي سياق تاريخ أو داخل أى إطار اجتماعی .
وكما قالت إحدى دعاة التمركز حول الأنثى المساحقات : « إذا كانت الفیمینزم هي النظرية ، فالسحاق هو التطبيق . « If feminism is the theory, lesbianism is the practice
ويصبح من الطبيعي ألا تلجأ المرأة للرجل الإنجاب الأطفال ، بل يمكن أن تلجأ للمعامل والإجراءات العلمية «الطبيعية المختلفة المعقمة من التاريخ والمجتمع والقيم التي تستبعد الرجل كشريك في إنسانية مشتركة .
وهكذا تُصفي الازدواجية تماما ويحسم الصراع لنصل إلى حالة من الواحدية الأنثوية الصلبة والتمركز اللا إنساني حول الذات الأنثوية ، وإلى نهاية التاريخ المتمركزة حول الأنثى .