تواصل معنا

السياق الحضارى المعرفي لحركتي تحرير المرأة والتمركز حول الأنثى (مقالة)

الوصف

هذه الأفكار تشكّل الإطار الحقيقي لحركة الفیمینزم التي ظهرت مؤخرا في الغرب ، وقد ظن البعض أن مصطلح «فیمینزم» هذا مجرد تنويع على مصطلح «ويمنز ليبيراشن مومنت «women's liberation movemrnt» الذي يترجم عادة إلى «حركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها» . ولذا حل المصطلح الجديد تدريجيا محل المصطلح القديم وكأنهما مترادفان أو متقاربان في المعنى، وكأن المصطلح الجديد لا يختلف عن القديم إلا في أنه أكثر شمولا ً أو أكثر راديكالية .

مقالة

هذه الأفكار تشكّل الإطار الحقيقي لحركة الفیمینزم التي ظهرت مؤخرا في الغرب ، وقد ظن البعض أن مصطلح «فیمینزم» هذا مجرد تنويع على مصطلح «ويمنز ليبيراشن مومنت «women's liberation movemrnt» الذي يترجم عادة إلى «حركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها» . ولذا حل المصطلح الجديد تدريجيا محل المصطلح القديم وكأنهما مترادفان أو متقاربان في المعنى، وكأن المصطلح الجديد لا يختلف عن القديم إلا في أنه أكثر شمولا ً أو أكثر راديكالية .

ولكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن المصطلح الجديد مختلف تمام الاختلاف عن مدلولات حركة تحرير المرأة (وهي واحدة من حركات التحرر القديمة التي تدور في إطار إنساني هیوماني يؤمن بفكرة مركزية الإنسان في الكون ، وبفكرة الإنسانية المشتركة التي تشمل كل الأجناس والألوان وتشمل الرجال والنساء ، وبفكرة الإنسان الاجتماعي الذي يستمد إنسانيته من انتمائه الحضاري والاجتماعي) . والإنسان من منظور حركة تحرير المرأة كيان حضاری مستقل عن عالم الطبيعة / المادة لا يمكنه أن يوجد إلا داخل المجتمع ، ولذا لا يمكن تسويته بالظواهر الطبيعية / المادية .

ومن ثم تحاول هذه الحركة أن تدافع عن حقوق المرأة داخل حدود المجتمع وخارج الأطر البورجوازية الصراعية الطبيعية المادية الداروينية التي ترى المجتمع باعتباره ذرات متصارعة .

والمرأة من ثم، في تصور هذه الحركة ، كائن اجتماعي يضطلع بوظيفة اجتماعية ودور اجتماعي ، ولذا فهي حركة تهدف إلى تحقيق قدر من العدالة الحقيقية داخل المجتمع (لا تحقیق مساواة مستحيلة خارجة) بحيث تنال المرأة ما يطمح إليه أي إنسان (رجلا كان أم امرأة) من تحقيق لذاته إلى الحصول على مكافأة عادلة مادية أو معنوية) لما يقدم من عمل.

وعادة ما تطالب حركات تحرير المرأة بأن تحصل المرأة على حقوقها كاملة: سياسية كانت (حق المرأة في الانتخاب والمشاركة في السلطة)، أم اجتماعية (حق المرأة في الطلاق وفي حضانة الأطفال)، أم اقتصادية (مساواة المرأة في الأجور مع الرجل).

وبرغم أن دعاة حركة تحرير المرأة قد يستخدمون أحيانا ً خطابا ً تعاقديا ً ، وقد ينظرون أحيانا للمرأة باعتبارها فردا مستقلا بذاته عن المجتمع لا باعتبارها أما وعضوا ً في أسرة، أو قد ينظرون إليها باعتبارها إنسانة اقتصادية أو جسمانية (أي إنسانة طبيعية مادية) لا إنسانا ً إنسانا ً ، إلا أن الإطار المرجعي النهائي هو الرؤية الإنسانية التي تضع حدوده بين الإنسان والطبيعة وتفترض وجود مرکزية إنسانية ومعيارية إنسانية ومرجعية إنسانية وطبيعة إنسانية مشتركة ، ولذا تأخذ حركة تحرير المرأة بكثير من المفاهيم الإنسانية المستقرة الخاصة بأدوار المرأة في المجتمع ، وأهمها ، بطبيعة الحال ، دورها كأم .

ولذا يتحرك برنامج حركة تحرير المرأة داخل إطار من المفاهيم الإنسانية المشتركة ، التي صاحبت الإنسان عبر تاريخه الإنساني ، مثل مفهوم الأسرة باعتبارها أهم المؤسسات الإنسانية التي يحتمی بها الإنسان ويحقق من خلالها جوهره الإنساني ويكتسب داخل إطارها هويته الحضارية والأخلاقية ، ومثل مفهوم المرأة باعتبارها العمود الفقري لهذه المؤسسة ، ولا تطرح أفكارا مستحيلة ولا تنزلق في التجريب اللانهائي المستمر الذي لا يستند إلى نقطة بدء إنسانية مشتركة ولا تحده أية حدود أو قيود إنسانية أو تاريخية أو أخلاقية . هذا هو الإطار الحضاري والمعرفي لحركة تحرير المرأة وهذه هي بعض ثوابتها، وقد كان هذا هو أيضا الإطار الأساسي لحركات التحرر في الغرب حتى منتصف الستينيات .

ولكن الحضارة الغربية دخلت عليها تطورات غيرت من توجهها وبنيتها ، إذ تصاعدت معدلات الترشيد المادي للمجتمع ، أي إعادة صياغته وصباغة الإنسان ذاته في ضوء معايير المنفعة المادية والجدوى الاقتصادية (وهو عنصر أساسي في منظومة الحداثة الغربية)، وزاد معه تسلع الإنسان وتشيؤه (مما يعني إزاحته عن المركز على أن تحل السلع والأشياء محله) .

وزادت نتيجة لذلك هيمنة النماذج الكمية والتكنوقراطية وتصاعدت عمليات التنميط وتغلغلت العلاقات البورجوازية التعاقدية ، الأمر الذي أدى إلى تزايد هيمنة القيم البرانية المادية مثل : الكفاءة في العمل في الحياة العامة مع إهمال الحياة الخاصة - الاهتمام بدور المرأة العاملة (البرانية) مع إهمال دور المرأة الأم (الجوانية) - الاهتمام بالإنتاجية على حساب القيم الأخلاقية والاجتماعية الأساسية (مثل تماسك الأسرة وضرورة توفير الطمأنينة للأطفال) - اقتحام الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة المجال الحياة الخاصة - إسقاط أهمية الإحساس بالأمن النفسي الداخلي - إسقاط أهمية فكرة المعني باعتبارها فكرة ليست كمية أو مادية ... إلخ

وقد لاحظ أحد علماء الاجتماع الغربيين (کریستوفر لاش) أنه منذ أواخر الستينيات أصبح من المستحيل على الأسرة الأمريكية أن تعيش على دخل واحد، أي أنه لتحقيق البقاء المادي أصبح من اللازم على المرأة أن تصبح «بدأ عاملة» و «وطاقة إنتاجية» و «مادة طبيعية برانية» ، وأصبح من الضروري أن تتخلى عن وظائفها الإنسانية التقليدية مثل الأمومة ، أي أنه تم القضاء على آخر معقل ومأوى للإنسان وآخر مؤسسة وسيطة تقف بين الإنسان ورقعة الحياة العامة التي تديرها الدولة وتسيرها المؤسسات الاقتصادية ويوجهها قطاع اللذة .

وقد بلغ الترشيد (في الإطار المادي) درجة عالية من الشمول وتغلغل في كل جوانب الحياة العامة والخاصة حتى أصبح العمل الإنساني labour هو العمل الذي يقوم به المرء نظير أجر نقدي محسوب (كم محدد) خاضع لقوانين العرض والطلب ، على أن يؤديه في رقعة الحياة العامة أو يصب فيه في نهاية الأمر. وهذا التعريف يستبعد بطبيعة الحال الأمومة وتنشئة الأطفال وغيرها من الأعمال المنزلية، فمثل هذه الأعمال لا يمكن حسابها بدقة، ولا يمكن أن تنال عليها الأنثى أجرة نقدية رغم أنها تستوعب جل حياتها واهتمامها إن أرادت أن تؤديها بأمانة، ولا يمكن لأحد مراقبتها أثناء أدائها فهي تؤديها في رقعة الحياة الخاصة . باختصار شدید عمل المرأة في المنزل هو عمل لا يمكن حساب «ثمنه» (مع أن «قيمته» مرتفعة للغاية) ، ولذا فهو ليس «عملا ً» ، حتى أنه أصبح من الشائع الآن أن تجيب ربة البيت عن سؤال بخصوص نوعية عملها بقولها «لا أفعل شيئا ً ، فأنا أمكث في المنزل»، بمعنی أن وظيفتها كأم رغم أهميتها وعملها كأم (رغم المشقة التي تجدها في أدائه) هي «لا شیء» ، فهو عمل لا تتقاضى عنه أجرأ ، ولا يتم في رقعة الحياة العامة .

وهكذا تغلغلت المرجعية المادية (بتركيزها على الكمي والبراني) وتراجعت المرجعية الإنسانية الهيومانية (بتركيزها على الكيفي والجواني) وتراجع البعد الإنساني الاجتماعي الذي يفترض مركزية إنسانية وطبيعة إنسانية متفردة تتمتع بقدر عال من الثبات يميزها عن قوانين الطبيعة المادية المتغيرة ، وتم إدراك الإنسان خارج أي سياق اجتماعی انسانی بحيث أصبح الإنسان كائنا ً طبيعيا ً مادية كمية لا يشغل أية مركزية في الكون وليس له مكانة خاصة فيه ، يسري عليه ما يسري على الأشياء الطبيعية / المادية الأخرى ، أي أنه تم تفكيك الإنسان تماما وتحويله من الإنسان المنفصل عن الطبيعة إلى الإنسان الطبيعي المادي، الذي يتحد بها ويذوب فيها ويستمد معياريته منها ، فيفقد الدال «إنسان» مدلوله الحقيقي ، ويحل الكم محل الكيف والثمن محل القيمة .

ونحن نذهب إلى أن حركة الفیمینزم التي نترجمها (بحركة التمركز حول الأنثى) هي تعبير عن هذا التحول ذاته وعن إزاحة الإنسان من مركز الكون وعن هيمنة الطبيعة / المادة على الإنسان .

وتترجم هذه الرؤية نفسها إلى مرحلتين :

ا) مرحلة واحدية إمبريالية وثنائية وواحدية صلبة ينقسم فيها العالم إلى ذكور متمركزين تماما حول ذكورتهم ويحاولون أن يصرعوا الإناث ويهيمنوا عليهم ، وإلى إناث متمركزات تماما حول أنوثتهن يحاولن بدورهن أن يصرعن الرجال ويهيمن عليهم .

ب) سرعان ما تنحل هذه الواحدية الإمبريالية والثنائية والواحدية الصلبة لتصبح واحدية مادية سائلة لا تعرف فارقة بين ذكر أو أنثي . ولذا لا يتصارع الذكور مع الإناث وإنما يتفككون جميعهم ويذوبون في كيان سدیمي واحد لا معالم له ولا قسمات .

المرفقات

أضف تعليقا