تواصل معنا

المرأة المسلمة وشتات التصور (مقالة)

الوصف

 “فحينما يُخصَف ثوب التصورات الأولية من قماش تجاذبَته الأيدي، فلا تسَل عن الخروق في وسطه وعلى أطرافه”(1).

مقالة

“فحينما يُخصَف ثوب التصورات الأولية من قماش تجاذبَته الأيدي، فلا تسَل عن الخروق في وسطه وعلى أطرافه”(1).

معلوم أن تعامل الإنسان مع من يتشارك معهم العيش من الأفراد وما يحيط به من أجزاء الكون الأخرى لا ينفك بحال عن تصوراته وقناعاته حيال هؤلاء الأشخاص وتلكم الأشياء. ويسبق ذلك تصوراتُ المرء وقناعاته عن ذاته، وإجابات أسئلته الوجودية التي يعتنقها؛ إذ هي ما يتحكم بشكل محوري في سلوكه وتفاعله وأدواره الاجتماعية وحُكمه على الوقائع المختلفة. وبحسب المصادر التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقناعاته التي يرتضيها، يكتسب الأساس الذي يقوم عليه وجوده وكذا علاقته بغيره ومعيار حقوقه وواجباته.
ولا يخفى على عامة المسلمين أن تلك التصورات والقناعات يجب أن تُستقى من الوحي الشريف: من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الوحي بحد ذاته يقدِّم رؤية متكاملة للحياة والكون، تقوم على أساسها الشرائع وتحدَّد وفقها تفاصيل الحقوق والواجبات، فما وافقها فهو المقبول وما خالفها فهو المردود.
ومن التقرير السابق، ينشأ أصل كبير في قضية كثر اللغط فيها، وهي قضية المرأة المسلمة.. واقعها واهتماماتها.. تساؤلاتها ومشكلاتها..
فإننا إذا نظرنا في واقع المرأة المسلمة اليوم، سنجد مصادر عدّة تتوسل إليها بمختلف الوسائل، وتتزين لها بما لا يخطر من بهارج الزينة، ليقدم كل منها التصور الذي يريد المرأة أن تعتنقه عن ذاتها وعن الكون من حولها، والذي -بالتالي- يتحكم في سلوكها وفعالها.
فالمرأة المسلمة اليوم تتخطفها رؤى مختلطة من الخارج والداخل بشأن جسدها وروحها، وعلاقتها بالرجل، وحقوقها المختلفة، ودورها الاجتماعي. من هذه الرؤى: الفلسفات النسوية على اختلافها، واتفاق كثير منها على مركزية النظرة المساوية بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات المادية والمعنوية، واعتبار أي تفريق بينهما نوعا من الظلم والاضطهاد، ومنها الأعراف الاجتماعية المختلفة التي قد تفرض على المرأة الكثير من القيود فتحجب عنها ما ينفعها دون مسوِّغ، أو تحقِّر بعض حقوقها ومساعيها بما لم ينزل الله به سلطانا،
فإذا أرادت المرأة المسلمة بعد ذلك الرجوع إلى التصور الذي يقدمه لها الوحي، وجدت نفسها قد تعددت بها المشارب، فهذا التصور يُقدَّم إليها من خلال فقيه أو داعية، فمنهم من يقدم لها تصورا يدعوها فيه إلى نبذ بعض النصوص الشرعية وتأويل بعضها الآخر بحسب ما يقتضيه المزاج الاجتماعي أو حتى الثقافي، ومنهم من يدعوها إلى التوقف عند حقبة زمنية معينة ويعتبر الخروج عن نسقها بأي حال نوعا من الانحلال، وكلا الفريقين يفتقران إلى التفريق بين الثابت والمتغير.. بين المجزوم به والمسكوت عنه.. بين ما هو قطعيّ التعبد وما يمكن أن تتدخل فيه الأوضاع العرفية والقانونية والاجتماعية. وكذا منهم من يصوِّر لها أن وظيفتها جسدية بالأساس، ويهمّش دور عقلها وروحها، أو يحصر دورها الاجتماعي في صورة واحدة ككونها زوجة وأمًّا فحسب. كل هذا يُقدَّم للمرأة المسلمة بوصفه ما يقوله الله ويأمر به الشرع، وهي في بحر الحيرة تتقاذفها أمواج التساؤلات..
هل أنا خلقٌ آخر يختلف عن نظيري الرجل تمام الاختلاف؟.. هل هو أفضل مني في كل شيء؟.. هل هو دوما يفوقني عقلا؟ هل أنا مهما اجتهدت لن أرقى لأكون مثله؟ هل ذنبي أنني لم أتزوج؟ هل دوري هو الحمل والإرضاع والإطعام فحسب؟
ماذا قال الله عني؟ ماذا قال عني رسوله صلى الله عليه وسلم؟
في عصر اكتسبت فيه مباديء بعض العلوم، هل حبي للعلوم مناقض لأنوثتي؟ هل سؤالي عما لا أعرف يشي بقلة حيائي؟
في زمن صرتُ أكسب فيه المال أكثر من زوجي، هل ما زال برِّي بأبي سرقة؟
في مجتمع صار الناس يهابون فيه مكانتي أكثر من أخي، هل ما زال نصري بكاء؟!
وفي ظروف اقتصادية تفرض علي المزيد من الأعباء، هل ينبغي أن تُفرض علي قيود القرون السابقة؟
هل لزوجي أن يكسر ذراعي؟ هل له أن يأخذ مالي؟.. كيف أحصل على حقي إذا ظلمني؟ هل ينبغي أن أحب التعدد؟ هل من حسن التبعل أن أخطب لزوجي إذا طلب مني ذلك؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير لم يبعث عليها الافتتان بالرجل، ولا وضعه كنموذج واجب الاقتداء.. إنما الباعث عليها أنه شريكها في الوجود، وأنها تُحسن كثيرا مما يحسنه، ومع ذلك تجد ما يفرِّق بينها وبينه، على المستوى التصوري والمستوى الإجرائي معًا. وقد تكون هذه الاختلافات ثابتة شرعًا، لكن ثبوتها لم يمنع النساء من التساؤل حولها، ولم يقابل الشرع السؤال بإنكار الحق فيه، لأنه ليس صدًّا عن الحق، وليس مراجعة لأمر الله سبحانه، وإنما هو تساؤل عما خالف قاعدة الاشتراك، فكان الجواب يأتيهن بالوحي جليا في رفق وإحسان.
أو قد تنتج هذه التفريقات عن بعض الأعراف الاجتماعية، أو البقايا التاريخية، أو التصورات المزاجية التي تضع المرأة في قوالبَ جامدة، والأسوأ أنها تكتسي حلة الشرع في أحيان كثيرة، في تغافل عما جدَّ في واقع النساء، إلا ما كان من أمر النسوية..
شبح النسوية المرعب

“الخلل ليس دائما في تسليم النساء بحكم الله المتعلق بهن ابتداء.. بل قد يكون الخلل في توظيفك التسليم لله في هذا المقام الذي يصبح فيه حديثك عن التسليم لله دون معالجة الخطابات المسيئة للمرأة أشبه بدعوة ضمنية لتسليمها واستسلامها للمشوهين لأحكامه وكأنه قدر لا مفر منه ولا سبيل لإصلاحه!”(2).

باعتبار النسوية عقيدة تماما ككونها حراكا اجتماعيا، لا أحد ينكر أن العقيدة النسوية من أخطر ما ينفرط به عقد الدين، ليس لأن الأنثى فيها تسأل سؤالا ما أو تطالب بأحقية ما وإنما لأنها تنطلق من أصول فاسدة في السؤال والطلب. ولما كان الانحراف النسوي من أكثر الأفكار زحفا إلى زخم الوسط الثقافي والاجتماعي النسائي المسلم، فقد تراءى لكثير من الناظرين أنه لابد من نقد الأفكار النسوية، وهذا عمل مهم -بعد قراءة واعية بالتأكيد-، وفي نظري أنه لم يتم بعد على الوجه الأكمل. بيد أن هؤلاء الناظرين فاتهم أن يبحثوا عن أسباب قبول المسلمات تلك الأفكار، أهو الانبهار بالغرب الغالب والغفلة عن مساوئه فحسب؟ أم أن هناك أيضا مشكلات حقيقية اجتماعية وثقافية ودعوية تجعل المرأة أرضا خصبة لقبول أفكار من هذا النوع؟
الأمر يشبه أن ترهق نفسك بتجفيف الماء المتسرب من صنبور دون توقف وهو ينساب في ازدياد، مع أن الحل قد يأتي من طريق آخر، كأن تصلح الصنبور مثلا.. أن تدرك أصل القضية فتعالجه، بدلا من أن تنتقد الأخطاء المفردة التي لن تنتهي أبدا.
الإشكال في هذه القضية أنها لا تقبل العمل الفردي، وإنما تحتاج عملا جماعيا على مستويات عدة، مثلها في ذلك كمثل كل قضايا الإصلاح. لكن الأمور تتجه نحو الأسوأ عندما يتغافل دعاة الإصلاح عن هذا، ويرفعون بدلا منه شعار الاتهام بالانتماء إلى النسوية وعدم التسليم لأوامر الله سبحانه في وجه من يحاول كشف أي خطأ داخلي يتعلق بقضايا المرأة، حتى صارت النسوية شبحا مخيفا يسعى الجميع إلى الهروب منه أكثر مما يسعون إلى تحقيق الإصلاح.

لَبِناتُ الإصلاح الأولى

“إن غبش الرؤية القرآنية في الفكر الإسلامي المعاصر وعجـز هـذا الفكر وجموده في حدود النماذج التطبيقية التراثية التاريخية وخاصة ما نحـن بصدد الحديث عنه وهو العلاقات والتشريعات الأسرية التي تم وضعها فـي ظـروف زمانية ومكانية سابقة تختلف عما هو كائن في هذا العصر من حيـث إمكاناته وحاجاته وتحدياته؛ يوجب فهما عميقًا للرؤية القرآنية وما يتعلق بها من المفـاهيم لا في العلاقة الزوجية المباشرة بين المرأة والرجل فقط بل يجب أن يمتد ذلك إلى إعادة الصياغة التطبيقية التي تضمن حقوق المرأة والرجل في مختلـف مجالات الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية؛ بحيث تتناسق جميعـاً وفق المفاهيم والمبادئ القرآنية وتكون بذلك منظومـة متكاملـة ضمن المنظومة الاجتماعية العامة للمجتمع بحيث تحقق غايات الفطرة السوية في كيـان المـرأة والرجل، كما خلقها االله وقدرها؛ بحيث تمكِّن كلَّ واحد من الزوجين مـن أداء الوظائف الأساسية المنوطة به، خاصة في أوضاع عالم اليـوم؛ بحيـث تنصـف المرأة، خاصة في صدر حياتها وفترة ضعفها بالحمل والإرضاع والتربيـة؛ لأن وظيفة الأمومة منوطة بها، وليس من أحدٍ سواها يمكن أن يؤديها”(3).

في زحام الخلافات، لا شيء ينفع الإنسان مثل رجوعه إلى الأصول المشتركة، أو نقاط البدء الأولى، وهذا ما ينبغي فعله فيما يخص النساء من الناحية التأصيلية بالنظر إلى كلِّيات الشريعة، والتأكيد على التصورات المحكمة التي جاء بها الشرع حول الرجل والمرأة على السواء. والتفريق بين ذلك وبين ما يخص كلًّا منهما من أحكام أصيلة، ثم التفريق بين الأخيرة وبين فسحة الاجتهاد الفقهي المنطلق من أحوال العصور المختلفة.
وتأتي أهمية الدور الدعوي على جانب الإصلاح الاجتماعي، فمن الحمق أن يهجم الداعية على واقع مشتعل بالمشكلات بما يزيدها اشتعالا. وبعض الأزمات الاجتماعية أسهم فيها الخطاب الدعوي المنتقص للنساء -ولو مزاحا- بصورة قد لا يتصورها هؤلاء الدعاة أنفسهم، كتسلط كثير من الأزواج على زوجاتهم بشتى الصور مستخدمين نصوصا من القرآن والسنة في غير محلها إطلاقا. ولهذا فينبغي للدعاة.. لا أن يتحيزوا للنساء كما يسخر بعضهم!.. إنما ينبغي لهم حث الرجال على الإنصاف والإحسان وحث النساء على حفظ المعروف وشكر النعمة.
وفي عالم تموج فيه الأفكار موج البحر، تأتي أهمية الوعي الثقافي، فالمرأة المعزولة عن الواقع لا يُنتظَر منها أن تقدم فيه ما يفيد، لا على المستوى الفردي ولا على المستوى المتعدي كنصح الغير وتربية الأبناء بما يحفظ عليهم دينهم وينفعهم في دنياهم.
وفي المجمل، لا يصلح المرأة شيء مثل إيمانها بالله العظيم، واعتصامها بحبله في اليسر والعسر، فإذا قوي إيمانها لم تساوم على ما تعتقد، ووقفت في وجه الطغيان بنفس مطمئنة ونظر مصوب نحو الآخرة، وإذا قوي إيمانها آوت إلى جنة العبودية تاركة خلفها شواغل الشهوات.
كل هذا يجعل المرأة المسلمة أقوى في مواجهة الأفكار المنحرفة، وأقدر على دفع مغريات الدنيا، وأكثر حكمة في التعامل مع مستجداتها اليومية، لكن هذه ليست حال كل النساء.

أسطورة القهر المستدامة
“هناك كثير من الرجال لطفاء ورحماء، ومستعدون لإجراء حوارات نشيطة ومدهشة مع الآخرين من الرجال والنساء… هل كل الرجال متوحشون وكل النساء ضحايا؟ لا، أنا لا أقول بهذا”(4).

بالطبع ليست المرأة فردا واحدا، بل النساء باعتبارهن بشرًا يختلفن في الأفكار والاعتقادات والميول والطباع والأفعال. فمنهن الظالمة والعادلة والمظلومة، ومنهن الصادقة والكاذبة، ومنهن سليمة الصدر ودفينة الحقد.. ستجد إن شئتَ امرأة تريد إلزام الجميع بهواها، وامرأة تريد الانفلات، وامرأة تستلذ الإذعان، وامرأة سفيهة القول والفعل.. وستجد امرأة تكره النساء!، وهكذا كما قضى الله سبحانه من سنة الاختلاف. فلا أحد بإمكانه أن يزعم أن كل النساء مقهورات، ولا أنهن ملائكة لا يقترفن المآثم، ولا أن حالهن واحدة في كل مصر فضلا عن أن تكون كذلك في كل عصر، وإنما الحديث هنا عن مشكلات يفوق شيوعها حد الظواهر، مما يوجب إيلائها الاهتمام المناسب.. حديث عن نساء لا يناكفن من أجل المناكفة، ولا يتبنين الأفكار من أجل الثناء، يبغضن التسلط ويرجون السلام.. يعملن ولا يجدن المعين، يصبرن ولا يملكن التغيير، يغنين ولا أحد يسمع، يتلون دواوين الاحتمال ولا عين تدمع، فتغفو على أسرة الجمال أرواحهن الجميلة.. أرواح جميلة، لكنها منهكة..
من أجل هؤلاء كتبت..

المرفقات

أضف تعليقا