تأليف
الوصف
هل كانت الأمهات فيما سبق تشعرن بكل هذا التوتر تجاه أطفالهن؟ هل كنّ يشعرن بالغربة تجاه أمومتهن؟ هل كان من المعتاد أن تتحول جلسات الأمهات لجلسات للشكوى والتذمر من الأبناء والمجهود المطلوب منهن تجاههم؟ الغرض هنا ليس الاعتراض على الشكوى أو المشاعر السلبية بالطبع، لأنها إن وجدت فهي حقيقية، وناتجة عن عوامل جعلت من الأمومة عبئًا هائلًا على الأمهات. ولكن هذا النمط من التعامل مع الأمومة يدفعنا للتساؤل عن ماهية الأمومة في هذا العصر. سنحاول في هذا المقال أن نفهم ما يعنيه أن تكوني أمًا، وكيف يمكن للأمومة أن تكون اغترابًا حقيقيًا عن النفس والمجتمع والثقافة والقيم الاقتصادية الحاكمة.
مقالة
هل كانت الأمهات فيما سبق تشعرن بكل هذا التوتر تجاه أطفالهن؟ هل كنّ يشعرن بالغربة تجاه أمومتهن؟ هل كان من المعتاد أن تتحول جلسات الأمهات لجلسات للشكوى والتذمر من الأبناء والمجهود المطلوب منهن تجاههم؟ الغرض هنا ليس الاعتراض على الشكوى أو المشاعر السلبية بالطبع، لأنها إن وجدت فهي حقيقية، وناتجة عن عوامل جعلت من الأمومة عبئًا هائلًا على الأمهات. ولكن هذا النمط من التعامل مع الأمومة يدفعنا للتساؤل عن ماهية الأمومة في هذا العصر. سنحاول في هذا المقال أن نفهم ما يعنيه أن تكوني أمًا، وكيف يمكن للأمومة أن تكون اغترابًا حقيقيًا عن النفس والمجتمع والثقافة والقيم الاقتصادية الحاكمة.
يُعرّف الاغتراب لغة بالنزوح عن الوطن، واغتِرابُ النّفس: شعورهَا بالضّياع وَالاستلاب1. ويستخدم مفهوم الاغتراب في عدد كبير من المواضيع الإنسانية، كعلم الاجتماع والفلسفة والتحليل والعلاج النفسي، ويقترن عادة بالفكر الماركسي، حيث قام ماركس بتطويره عن الفكر الهيجلي، وعرّفه على أنه حالة من الاختلال في شبكة العلاقات القائمة بين الفرد والمؤسسة، حيث يكون الفرد فيها مدفوعًا للهامش، مقموعًا، وغير قادر على التأثير أو التغيير. وكلما سُيطِر على الفرد ومستقبله بعلاقات قادرة على تغييره وتغيير إرادته ونبذه أو رفعه في المجتمع زاد إحساس الفرد بالاغتراب والاستلاب في محيطه.
في العام 1961 طوّر عالم الاجتماع الأمريكي لويس فيور (1912- 2002) مفهومه عن الاغتراب وأنماطه2، ملخّصًا الاغتراب في ستة محاور رئيسية، أولها الاغتراب عن الذات، وثانيها انعدام المعنى، وثالثها غياب المعيار والمرجعية، ورابعها العجز والشعور بفقدان السيطرة على المصير، وخامسها الوحدة والانعزال عن المجتمع، وآخرها الانعزال عن الثقافة المجتمعية السائدة.
الأمومة والاغتراب عن الذات وعن الجسد
في حال الأمومة يتشكل للأنثى جسد جديد، مختلف عن جسد الأنوثة البِكر، جسدٌ يحمل حياةً جديدة، متصلٌ ومنفصل في آن، متصل بالحبل السري لتسعة أشهر، ثم متصل بالرِّضاعة، فيخلق مشاعر دافقة وحارة ومختلفة، إلّا أنه هذه المشاعر قد تواجه تحديًا صعبًا، ألا وهو الاغتراب عن الجسد لجسد جديد غير مألوف، وعادة غير مرغوب به. البطن التي تتحول من بطن مشدود لبطن متكور، والأثداء التي تفقد استدارتها، والعضلات التي تبدأ بالترهل تدريجيًا، وصراع البحث عن كساء يلائم هذا الجسد.
يفسر الدكتور عبد الوهاب المسيري حالة الاغتراب الجسدي بالنسبة للنساء عمومًا وفي أدوار الحياة العامة بما يسميه عَلمنة الجسد3، فالمقاييس الجمالية المطلوبة من المرأة غير متناسبة مع وظائفها الإنسانية كأم بحسب المسيري، إن اختلاف جسد المرأة بعد الزواج والإنجاب والرضاعة يضرب المقاييس الجمالية القياسية المُقّدمة من شركات الموضة والجمال في الصميم، وهو ما يخلق صراعًا ليس فقط مع تحول الجسد لشكل مرفوض اجتماعيًا، بل يخلق أيضًا صراعًا خفيًّا مع المُسبّب وهي الأمومة.
المقاييس الجمالية ليس لها علاقة بالمرجعية الإنسانية، فأعيدَ تعريف الجسد الإنساني بحيث يلائم الوظائف الظاهرية المادية الرشدية (مقاييس وظيفية). وما يقصده المسيري هنا بالوظائف المادية الرشدية هو ترشيد الجسد لصالح المادة بحيث يتحول مقياس الجسد إلى مقياس وظيفي بحت ولا يعود ملائمًا للوظائف الإنسانية، وهو ما يخلق نفورًا اجتماعيًّا لا واعٍ من أجساد الأمهات، هذا النفور يقابله ردُّ فعل برفض الأمومة والرهبة منها، بالتعامل القلق مع ذلك المسبب سواء كان الأمومة أو الطفل، وهو ما شرحته الكاتبة إيمان مرسال بشكل وافٍ في كتابها «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، وكذلك في مقالها «عن الأمومة والعنف»4 في شرحها لقصيدة الشاعرة البولندية آنّا سوير، والتي شبهت فيها جسدها بالبيضة التي يشرخها المولود في طريقه لحياة أخرى؛ هل ميلاد عهد جديد يتطلب فعلًا موت الكائنات الأخرى؟ أو موت العهود الأخرى، والسابقة؟ في كل الأحوال يبدأ الشرخ من الداخل، كما تقول مرسال.
الأمومة في عهد السوق: الاغتراب عن الثقافة المجتمعية السائدة
في عصر السوق، وفي المدرسة، تتعلم الفتيات بجوار الفتيان كيف يكنّ ويكونون أيدٍ عاملة في هذا السوق. تتحول المدارس من أداة تعليم لأجل المعرفة والعلم إلى مصنع يعدّ عمالَ وموظفي المستقبل، السوق بحاجة دائمة لأيدٍ عاملة -على اختلاف الرّتب الوظيفية-، ونجاحُ السوق مرتبط بالاستهلاك الدائم غير الرشيد بالضرورة، «في السوق لا يوجد نُبل، في السوق لا يوجد بطولة، في السوق لا يوجد حقيقة ولا عدل»5 وفي السوق أيضًا لا توجد قيم ولا أمومة.
في عالم السوق توجد أيدٍ عاملة ولا توجد أمهات، ولا يوجد إنسان، إن ظهرت المرأة فهو ظهور ملتبس، المرأة في عالم السوق هي أنثى بمعايير جسدية، وعرض وطول معيّنان، بحواجب وشفاه متغيرة حسب موضة السنة، ويفضل لها ألا ترتبط بعلاقات طويلة، فهي إمرأة قوية مستقلة، بلا عضد، ولا زوج، ولا أخ، متحررة من كل السياقات الاجتماعية التي يمكن أن تعيق إنتاجها، في السوق توجد «الموديل»، ولا توجد الأم.
في عالم السوق تُحثُّ الأمهات على الخروج إلى العمل، عملٌ مشروط حسب معايير السوق، ثمان ساعات متواصلة، بمعايير جسدية معينة، وبهدف إنتاجي مشروط مسبقًا، القيمة العليا هي قيمة الإنتاج المادي المحسوس بدءًا من أول الشهر، ذي المقابل المالي المقبوض في آخر الشهر، والمصروف بينهما، أما اللافتة الكبرى المعلقة فهي لافتة «تحقيق الذات».
في عالم السوق تتضافر الجهات؛ المدرسة والدولة والإعلام، على الإقرار بحقيقة كبرى -كاذبة- أنه لا قيمة للمرأة إلا بعملها ومالها، حقيقة مفادها قيمتكِ هي ما تنفقين، يتفاعل الناس مع ما يتعلمون ويتلقون، وتتحول اللافتات إلى حقائق، وتضيع الأم بين رغبتها العارمة في تحقيق الذات، والترقي الوظيفي، والاندماج في مجتمع السوق، والحسرة على سنوات التعلم التي تشعر -فجأة- أنها بلا فائدة، وبين رغبتها في قضاء وقت مع أطفالها أكثر، في رعايتهم والاهتمام بهم، هذه الرغبات المتضاربة قد يمكن حلها في عالم حرّ، إلا أن الواقع ليس كذلك؛ فالأمهات لا يقرّرن ما يردن بمعزل عن السياق الثقافي الاجتماعي في مجتمعاتهن، بل تتشابك نظرات المجتمع إليهن مع نظراتهن عن أنفسهن، فيتحول الأمر إلى صراع، أمهات غير قادرات على الاكتفاء بأمومتهن طامحات للعمل وتحقيق الذات حسب معايير السوق، وأمهات غير راضيات عن أدائهن كأمهات عاملات، مرهَقات ويشعرن بالذنب، فريقان يجمعهما الشعور بالذنب، أحدهما تجاه نفسه، والآخر تجاه أطفاله، أما المجتمع فيلوم كلا الفريقين.
يتصارع الفريقان وتتصارع الأمهات ويطفو على السطح تقديس الأمومة بصفتها فعلًا مطلقًا، تمتلىء صفحات التواصل الاجتماعي بصورٍ لأنشطة قامت بها الأمهات لأطفالهن، لحظات سعيدة مع الأطفال، منشورات ومقالات عن الأمومة وصعوبتها، وكيف أن كونها لا تعمل لا يعني تفرّغها أو فراغ عقلها. تحاول الأمهات أن يقلن «الأمومة صعبة جدًا، وهي أصعب من أي شيء آخر»، نعم الأمومة صعبة هذه حقيقة، لكن محاولة إثبات صعوبتها هو بالأصل صراع نفسي حول سؤال واحد «هل كوني أمّ لا يكفي لأحظى بالاحترام والتقدير الإنساني الذي يشبع رغبتي؟».
يُعرِّف فرويد الاغتراب باعتباره شعور الانفصال والصراع بين الذات اللاوعية والذات الواعية، فهل هناك اغتراب أقسى من صراع بين الأم والأمومة؟
اغتراب الشّكايات الحميمة: الوحدة والانعزال عن المجتمع
تقدَّم الأمومة في مجتمعاتنا باعتبارها عملًا نبيلًا، وتضحية واجبة، وتعامَل الأمّ غالبًا باحترام، إلا أن هذا الشكل آخذٌ في التغير بشكل تدريجي، فسردية النبالة والتضحية والأعمال العظيمة، تقابلها سردية أخرى هي سردية الألم والانزعاج والشكوى والتساؤل عن الجدوى والقيمة.
في السردية الأولى وهي، ربما، لجيل الأمهات السابق لجيل الألفية، تكون سردية النبالة هي السردية السائدة، بلا سماح لأي سرديات أخرى بالظهور على السطح إلا في إطار الشذوذ القابل للاستئصال، أو المرض المُستعاذ منه، فالطفل محبوب من أمه فور ولادته، بدون فرصة للتجريب واستكشاف المشاعر والتحسس في عالم مظلم، ماذا لو لم تحب الأم ولدها فورًا؟ هذا يعني أنها مريضة. ماذا لو أعلنت ذلك؟ هذا يعني أن العار سيلاحقها ما بقي من حياتها.
في السردية الأولى، تكون الشكوى من آلام الأمومة غنجًا لا داعي له، وآلام الحمل والولادة مدعاة للسخرية من الجيل الجديد الذي لا يحتمل «طلقة واحدة»، ومقارنات شتى بين نساء اليوم ونساء الأمس اللواتي كانت إحداهن تلد وتكمل عملها في «الغيط» بلا توقف.
صَمّ الآذان عن شكوى الأمهات الصغيرات، فيشعرن أنهن خارج السياق، وشاذّات عما يجب أن تعنيه الأمومة. تتوقف الأمهات عن الشكوى، وتصطبغ أمومتهنّ بالإحساس بالذنب، والألم، والاغتراب، خاصة مع تغير الصديقات والدوائر، وتغير طرق المتعة والترفيه عن النفس. نحن في مجتمعاتٍ يُمنع فيها اصطحاب الأطفال إلى السينما والمطاعم الفاخرة والأفراح -حيث جنة الأطفال منازلهم-، ولا توفّر الأسواق التجارية الضخمة أماكن لتغيير الحفّاظات أو للرّضاعة والرعاية الأولية للأطفال، وفي الشوارع لا توفر الدولة عادة منزلقًا لعربات الأطفال، ونادرًا ما تجد حديقة خضراء مجانية كي يقضي طفلك بعض الوقت الحرّ في الهواء الطلق. بعد الأمومة تصبح المهام الاعتيادية اليومية أمرًا في غاية الصعوبة، كالتسوق، أو الخروج للمشي، أو الذهاب للنادي الرياضي، أو حتى الدخول للمسجد أو حضور محاضرة عامة أو خاصة، تنغلق الأبواب، ويتضخم الاغتراب وتتغير الأشياء، ويُطلب من الأمهات أن يتعرفن على ذواتهن من جديد بلا دعم ولا صحبة ولا مجتمع.
قصّة شخصيّة
في تجربتي الأولى مع الأمومة، كنت أشتكي من آلام شديدة، وإغماءات متكررة، وقيء مرضيّ تواصل طيلة ثمانية أشهر. كان من حولي يقولون إن رقّتي هي السبب، وإن ضعفي الجسدي قد يكون عاملًا، أو إن عليّ أن آكل لاثنين وإن ما آكله لا يكفي، وأخيرًا الأسئلة المعروفة: كل النساء حملن، هل أنت مختلفة عنهن؟ كل النساء ولَدن، هل أنت الأولى؟ أمّا في العيادات والمستشفيات فقد كان السؤال الأول الذي يطرح على زوجي: هل أغضبتها؟ هل تشاجرتما قبل أن تشكو مما تشكو منه؟، في نهاية شهري الثامن دخلت في غيبوبة أثرت على جسدي وذاكرتي بعد تسمم حملٍ في حالة نادرة.
في تجربتي الثانية مع الأمومة، بدأت الشكوى منذ الشهر الثاني، وتكررت الإجابات عن عاديّة ما أشعر به؛ كل النساء يتألمن في الحمل. في شهري السادس تأزمت حالتي، وداهمني طلق كنت أشعر معه أن جسدي يتفسخ، أنكره الطبيب لعشر ساعات، ثم ولَدت، عاش أيوب عشرة أيام ثم توفّي.
في النهاية، وبعد جلطات متعددة في أماكن مختلفة من جسدي، قال أخي إنني ربما أحتاج طبيب روماتيزم، لأكتشف إصابتي بمرض مناعي يعبث بجسدي منذ عشرين سنة، ولكن شكواي لم تكن مسموعة طيلة الوقت الذي مضى.
إذا لم يكن صوتي مسموعًا، وأنا الفتاة المتعلمة، التي تقرأ وتبحث عن كل شيء، الفتاة التي يصدّقها زوجها، ويبحث معها، ويسعى لها، مع إمكانات جيدة جدًا للاستطباب في أفضل المستشفيات والمتابعة مع الأطباء المتخصصين، فكيف هي حال النساء في الريف والقرى، أو النساء غير المتعلمات، أو النساء الأرقّ حالًا وهنّ بلا صوت، وإن وجد الصوت فهو صدىً غير مصدق؟ لا أريد حتى أن أتخيل ذلك.
الأمومة سيارات بلا فرامل: العجز والشعور بفقدان السيطرة على المصير
في عصر الحداثة يكون التحكم في المصير والنتائج مقدّسًا، أن يتحكم الإنسان في مصيره وقدره، أما الأمومة فهي سيارة بلا فرامل، الأمومة لا تشبه البيع والشراء، فالطفل لا يمكن إرجاعه أو العدول عن قرار إنجابه، ولا يمكن التحكم في مستقبله ومصيره، بل لا يمكن للأم -في معظم الأحوال- أن تتحكم في حالها الشخصي عند ارتباطها بطفل لا تستطيع أن تنفكّ عنه، شيء أشبه بالمصير المشترك. الأمومة أيضًا غير يقينية، لا شيء فيها أكيد، ولا يوجد فيها مكسب ماديّ مردود، وفي مجتمعات متشظّية، مليئة بالتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل والحروب أحيانًا، ومع عدم وجود قواعد يمكن للنساء الارتكاز عليها للحصول على حقوقهن، تصبح الأمومة مخيفة، فلا ضمانة لاستمرار الزواج بشكل مُرضٍ، أو لطلاق محترم يكفل للمرأة حقوقها. يصبح هناك قدر من اللايقين في مصيرها الشخصي كأم، ومصير الأطفال المتعلق مصيرهم بمصيرها، ولا أتحدث هنا عن الخطط بعيدة الأمد، بل أتحدث عن المصير اليومي الآنيّ، فهل هناك عجز أكبر من هذا؟ أن تعجز عن الطمأنينة لأيام معدودات، أو ليوم واحد، هذه حقيقة تمثل حال ملايين النساء في أوضاعنا المتردية.