تواصل معنا

دور المرأة المسلمة في النَّهضة العلميَّة (مقالة)

الوصف

نماذج رائعة لمحدّثات وفقيهات وعالِمات عَبْرَ العُصُور الإسلاميَّة فكيف يَكونُ ثُلُثَا عدَدِ الأُمِّيّين في العالم الإسلامي اليوم من النساء؟!

مقالة

نماذج رائعة لمحدّثات وفقيهات وعالِمات عَبْرَ العُصُور الإسلاميَّة
فكيف يَكونُ ثُلُثَا عدَدِ الأُمِّيّين في العالم الإسلامي اليوم من النساء؟!

الأميَّة سرطان ينخر في جسد المجتمعات البشريَّة، ويُوهن قوَّتَها، والإحصائيات تشير إلى أنَّ واحدًا من أصل خَمسةٍ كبار عبر العالم، أي ما يقارب 860 مليون شخص، لا يَزالون من الأميين، وثلثا هذا العدد من النساء، ويعيش حوالي 70 % من هؤلاء في جنوب الصحراء الإفريقية، وجنوب وغرب آسيا، والدول العربية وإفريقيا الشمالية.

والذي يهمُّنا هنا هو ارتفاع نسبة الأمية بين النساء في مجتمعنا العربي والإسلامي لدرجة أن ثلثي عدد الأميين من النساء، فكيف يَحدث ذلك والمرأة كان لها حضور في المجتمع الإسلامي منذ اللحظة الأولى لظهور الإسلام، فكانَتْ تتعلَّم وتُعَلِّم، وترحل لطلب العلم، ويقصدها الطلاب لأخذ العلم عنها، وتصنِّفُ الكتب، وتُفْتِي، وتُستشار في الأمور العامَّة، ولم تَكُنْ حبيسةَ منزِلٍ أو حجرة، أو أسيرةً في مهنة معيَّنة، بل كان المجال مفتوحًا أمامها تظله الشريعة الغراء، ويرعاه العفاف والطهر.

فالسيدة خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها – هي أوَّل مَنْ آمَنَ بالنَّبيِّ – صلى الله عليه وسلم – على الإطلاق، وكانت ملاذًا وحصنًا منيعًا للدَّعوةِ الإسلاميَّة حتَّى وفاتِها في العام العاشِر من البعثة، وهو العامُ الَّذي سمَّاه النبي – صلى الله عليه وسلم – بعام الحُزْن، كذلك كانتِ المرأة أوَّل مَن ضحَّتْ بِنَفْسِها في سبيل الله، فالسَّيِّدة سُمَيَّة بنت خيَّاط – رضي الله عنها – هي أوَّل شهيدة في الإسلام، كما كانت المرأة أوَّل مَن هاجر في سبيل الله؛ فالسيدة رقيَّة بنت محمد – صلى الله عليه وسلم – هي أوَّل مَن هاجرتْ إلى الله تعالى مع زَوْجِها عُثْمان بن عفَّان – رضي الله عنهما – إلى الحبشة.

• المرأة فقيهة ومفتية:
وامتدَّ عطاء المرأة المسلمة بعد الإيمان والهجرة والتضحية إلى المجال العلمي والتعليمي، فظهرت الفقيهة والمُحدِّثة والمفتية، التي يَقْصِدُها طلاب العلم، ويأخذ عنها بعض أساطين العلماء، وتفتي في بعض الأمور التي تخص عامة المسلمين، وظهر من العالمات المسلمات من تعقد مجالس العلم في كبريات المساجد الإسلامية، ويحضُر لها الطلاب من الأقطار المختلفة، وعُرف عن بعض الفقيهات والمحدثات المسلمات أنَّهن أكثَرْنَ من الرحلة في طلب العلم إلى عدد من المراكز العلمية في مصر والشام والحجاز، حتَّى صِرْنَ راسخاتِ القَدَم في العلم والرواية، وكان لبعضهن مؤلفات وإسهامات في الإبداع الأدبي.

ففي صدر الإسلام كانتْ أمهات المؤمنين وعدد من كبار الصحابيات من روَّاد الحركة العلميَّة النِّسائية، وكانت حُجُرات عدد من أمَّهات المؤمنين الفُضْليات مناراتٍ للإشعاع العلميّ والثَّقافي والأدبي، وتأتي أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – في الذّروة والمقدّمة، فكانت من الفصيحات البليغات العالمات بالأنساب والأشعار، وكان النبي – صلى الله عليه وسلم – يستمع منها إلى بعض ما ترويه من الشعر.

وتَروي بعض الآثار أنَّ عائشة عندها نصف العلم؛ لذا كانت مقصد فقهاء الصحابة عندما تستعصي عليهم بعض المسائل العلميَّة والفقهيَّة، خاصَّة فيما يتعلَّق بِجوانب حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت عائشة تحثُّ سائلها ألا يستحيي من عرض مسألته، وتقول له “سل فأنا أمك”، وقد أخذ عنها العلم حوالي (299) من الصحابة والتابعين، منهم (67) امرأة.

أمَّا أمّ سلمة – رضي الله عنها – فكانتْ كما وصَفَها الذَّهبيُّ “من فقهاء الصحابيات”، وممن روى كثيرًا من الأحاديث عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وروى عنها كثير من الصحابة والتابعين بلغوا حوالي (101)، منهم (23) امرأة.

وتتعدد أسماء الصحابيات والتَّابعيات اللاتي اشتهَرْنَ بالعلم وكثرة الرواية، وتحفل كتب الحديث والرواية والطبقات بالنساء اللاتي روين ورُوِيَ عنهنَّ الحديث الشريف، مثل: أسماء بنت أبي بكر الصديق، وأسماء بنت عُمَيْس، وجويرية بنت الحارث، وحفصة بنت عمر، وزينب بنت جحش، رضي الله عنهن.

ولم يغفل كبار كتاب الطبقات الترجَمة للمرأة المسلمة خاصَّة في الرواية، فمحمد بن سعد ذكر كثيرًا من الصحابيات والتَّابعيات الراويات في كتابه “الطبقات الكبرى”، و”ابْنُ الأثير” خصَّص جُزءًا كاملاً للنساء في كتابه “أسد الغابة”، وفي كتاب “تقريب التهذيب” لابن حجر العسقلاني ذكر أسماء (824) امرأة مِمَّن اشتهرن بالرواية حتى مطلع القرن الثالث الهجري.

• معلمة الرجال:
وقد ساهمت المرأة العالمة بأناملها الرقيقة في صناعة وتشكيل كثير من كبار العلماء؛ فالمؤرخ والمحدث الشهير “الخطيب البغدادي” صاحب كتاب “تاريخ بغداد” سمِعَ من الفقيهة المحدثة “طاهرة بنت أحمد بن يوسف التنوخية” المتوفاة (436هـ).

وكانت “أَمَةُ الواحد بنت الحسين بن إسماعيل” المتوفاة (377هـ) من أفقه الناس في المذهب الشافعي، وكانت على علم بالفرائض والحساب والنحو، وكانت تُفْتِي ويكتب عنها الحديث، أمَّا “جليلة بنت علي بن الحسن الشجري” في القرن الخامس الهجري، فكانَتْ مِمَّنْ رَحَلْنَ في طلب الحديث في العراق والشام، وسمع منها بعض كبار العلماء كالسمعاني، وكانت تعلم الصبيان القرآن الكريم.

وكانت “زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني” المتوفاة سنة (688هـ) من النساء اللاتي قضين عمرهن كله في طلب الحديث والرواية، وازدحم الطلاب على باب بيتها في سفح جبل قاسيون بدمشق، فسمِعوا منها الحديث، وقرؤوا عليها كثيرًا من الكتب.

أمَّا “زينب بنت يحيى بن العز بن عبدالسلام” المتوفاة (735هـ) فقد تفرَّدَتْ بِرواية المعجم الصغير بالسَّماع المتصل، وقال عنها مؤرخ الإسلام “شمس الدين الذهبي” إنَّه كان فيها خيرٌ وعبادةٌ وحُبٌّ للرِّواية بِحَيْثُ إنَّه قُرئ عليها يوم موتِها عدَّة أجزاء، وكانت “زينب بن أحمد بن عمر الدمشقية” المتوفاة (722هـ) من المحدّثات البارعات ذات السند في الحديث، ورحل إليها كثير من الطلاب.

• محدثات في العلم والحديث:
ويحكي الرَّحَّالة “ابن بطوطة” أنه في رحلته زار المسجد الأموي بدمشق، وسمع فيه من عدد من محدّثات ذلك العصر، مثل “زينب بنت أحمد بن عبدالرحيم”، وكانت امرأة ذات قدم راسخ في العلم والحديث، و”عائشة بنت محمد بن المسلم الحرانية” التي كان لها مجلس علم بالمسجد، وكانت تتكسب بالخياطة، وقرأ عليها “ابن بطوطة” عددًا من الكتب.

وقد تفرَّدَتْ بعْضُ المحدّثات ببعض الروايات، مثل “زينب بنت سليمان بن إبراهيم” المتوفاة (705هـ)، والتي أخذ العلم عنها “تقي الدين السبكي”، كما أجازت بعض العالمات المحدثات لعدد من كبار العلماء، فزينب بنت عبدالله بن عبدالحليم بن تيمية المتوفاة (725هـ) أجازت “ابن حجر العسقلاني” الذي روى – أيضًا – عن “عائشة بنت محمد بن عبدالهادي” التي كانت ذات سند قويم في الحديث، وحدّث عنها خلق كثير، وكانت توصف بأنها سهلة الإسماع لينة الجانب، وروت عن محدثتين هما: “ست الفقهاء بنت الواسطي”، و”زينب بنت الكمال”.

وقد أورد “ابن حجر” في كتابه “المعجم المؤسس للمعجم المفهرس” كثيرًا من شيخاته اللاتي أخذ عنهن العلم، وعن اشتراكه في السماع عن الشيوخ مع بعضهن، ووصف بعضَهُنَّ بأنَّها مصنِّفة وهي عائشة بن عبدالله الحلبية”.

وأورد الإمام “الذهبي” قبله في كتابه “معجم شيوخ الذهبي” كثيرًا من شيخاته، وكان يقول عن بعضهن “توفِّيَتْ شيخَتُنا”.

وكان للنساء دور بارز في تثقيف وتربية الفقيه والعالم الجليل “ابن حزم الأندلسي”؛ حيث علمنه القرآن الكريم والقراءة والكتابة والشعر وظل في رعايتهن حتى مرحلة البلوغ، ويحكي تجربته فيقول: “ربيتُ في حِجْرِ النساء، ونشأت بين أيديهنَّ، ولم أعرف غيرهنَّ ولا جالستُ الرِّجال إلا وأنا في حدّ الشباب.. وهنَّ علَّمْنَنِي القُرآن، وروَّيْنَنِي كثيرًا من الأشعار، ودرَّبْنَنِي في الخط “، وكان لهذه التربية والتثقيف أثرها الكبير في ذوقه وشخصيته.

وتأتي العالمة الجليلة “فاطمة بنت محمد بن أحمد السمرقندي” لتحتل المكانة العالية الرفيعة في الفقه والفتوى، وتصدرت للتدريس وألفت عددًا من الكتب، وكان الملك العادل “نور الدين محمود”، يستشيرها في بعض أمور الدولة الداخلية، ويسألها في بعض المسائل الفقهية، أما زوجها الفقيه الكبير “الكاساني” صاحب كتاب “البدائع” فربَّما هام في الفتيا فتردُّه إلى الصواب وتعرِّفه وجه الخطأ فيرجع إلى قولِها، وكانت تُفْتِي ويَحْترم زوجها فتواها، وكانت الفتوى تَخرج وعليها توقيعها وتوقيع أبيها وزوجها، فلما مات أبوها كانت توقع على الفتوى هي وزوجها “الكاساني” لرسوخها في العلم وفقهها الواسع.

• تراجم النساء:
وقد أورد “السخاوي” في موسوعته الضخمة “الضوء اللامع لأهل القرن التاسع” أكثر من (1070) ترجمة لنساء برزن في ذلك القرن، معظمهن من المحدثات الفقيهات.

أمَّا العالِم الموسوعي “جلال الدين السيوطي” فكان لشيخاته دور بارز في تكوينه العلمي، فأخذ عن “أم هانئ بنت الهوريني” التي لقّبها بالمسند، وكانت عالمة بالنحو، وأورد لها ترجمة في كتابه “بغية الوعاة في أخبار النحاة”، وأخذ – أيضًا – عن “أم الفضل بنت محمد المقدسي” و”خديجة بنت أبي الحسن المقن” و”نشوان بنت عبدالله الكناني” و”هاجر بنت محمد المصرية” و” أمة الخالق بنت عبداللطيف العقبي”، وغيرهن كثير.

وعرفت تلك الفترة من التاريخ عالمة وأديبة عظيمة هي “عائشة الباعونية” التي كانت من الصوفيات والشاعرات المجيدات، وكانت تتبادل قصائد الشعر الصوفي مع أدباء عصرها، ووصفها الغزي في كتابه “الكواكب السائرة في أخبار المائة العاشرة” بقوله: “إنها العالمة العاملة الصوفية الدمشقية أحد أفراد الدهر، ونوادر الزمان، فضلاً وعلمًا وأدبًا وشعرًا وديانة وصيانة”، وكان لها عدد غير قليل من المصنفات والدواوين والقصائد الصوفية.

وقد تولَّت بعضُ هؤلاء العالمات مشيخات بعض الأربطة، مثل “زين العرب بنت عبدالرحمن بن عمر” المتوفاة سنة (704هـ) التي تولّت مشيخة رباط السقلاطوني، ثم مشيخة رباط الحرمين.

ولم تكتف العالمة المسلمة بالعطاء العلمي في أوقات السلم والرخاء، ولكنها كان لها عطاء علمي بارز في أشد أوقات المحن والأزمات، فعندما سقطت قلاع الإسلام في الأندلس وفُرض على المسلمين التَّنصُّر، ومارست مَحاكم التحقيق أشدَّ وأبْشَعَ أنواعِ التَّعذيب ضدَّ المسلمين، اضطرَّ بعضُ الناس إلى إظهار التنصُّر وإخفاء الإسلام، ورغم هذه السياسات الأسبانية القصرية، فإنَّ المسلمين هناك كانوا يُمارسون نشاطَهُم العلمي، وكانت هناك امرأتان يمثلان المرجعية العليا للمسلمين في علوم الشريعة حيث تخرج على أيديهن كثيرٌ من الدعاة المسلمين الذين حفظوا وحملوا الإسلام سنوات، وهما “مسلمة أبده” و”مسلمة آبلة” حيث تخرج عليهما الفقيه “أبيرالو” المورسكي الذي ألف كثيرًا من كتب التفسير والسنة باللغة الألخميادية التي ابتدعها المسلمون هناك.

• المرأة أديبة وشاعرة:
ولم يقتصر دور المرأة في المجتمع الإسلامي على العلم والفقه فقط، بل برعت المرأة في مجال الأدب والشعر، حتى فاق بعضهن الرجال، مثل الخنساء ” تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد السلمية “التي تعتبر من أشهر نساء العرب قبل الإسلام وبعده، وهي من المخضرمين، لأنها عاشت في عصرين: عصر الجاهلية وعصر الإسلام، وقد شهدت مجيء الدعوة الإسلامية، ووفدت مع قومها على رسول الله فأسلمت معهم في العام الثامن من الهجرة، وصارت صحابية جليلة ذات مكانة وفضل، وهي من أشهر شاعرات العرب، ولم تكن امرأة أشعر منها، وبعد أن أسلمت استطاعت بإيمانها أن تكون قدوة طيبة لنساء عصرها والعصور التَّالية لها، واشتهرت بشعر الرثاء في الجاهلية والإسلام.

وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم – يُعْجِبُه شعر الخنساء، ويُنْشِدُها بقولِه لها: ((هيه يا خناس ويومي بيده)).

وقد عرفت بحرية الرأي وقوة الشخصية، حيث نشأت في بيت عز وجاه مع والدها وأخويها معاوية وصخر، وأجمع علماء الشعر على أنه لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها.

المرفقات

أضف تعليقا